الاعلام وهمومنا المؤبدة

ابراهيم سبتي

كثر اللغط والحديث عن الفضائيات، الفضائيات التي هي حديثة العهد على العراقيين بعد ان كانت حلما يراودنا.. وبعد ان كان من يجرؤ على نصب صحنا لاقطا، فانه ينتظر مصيرا مظلما لا محال..

وبعد الانفتاح الاعلامي الهائل و الغزو الاتصالاتي المذهل للسوق العراقية، صار كل منا يرغب ويهوى قنواتا معينة حاول بها سد ما يمور في دواخله من عطش ثقافي وفني وسياسي. وصار الحدث يدخل الى البيت دون عناء ومن مختلف بقاع الارض..

وبعد الحرمان والجوع الاعلامي والثقافي، صار العراقي يبحث عن الوسائل العصرية في اقتناص المعلومة والخبر عن طريق استخدامه للشبكة العالمية (الانترنت)..

وقد اضيف هما جديدا الى همومنا المؤبدة، فايجار الخدمة الانترنيتية للبيوت باهض جدا ويكلفنا نحن من فئة الموظفين الغلابة ربع مرتبنا الشهري الزهيد قياسا باسعار السوق المتصاعدة كل لحظة.

وقدرنا ان نتصل بالعالم من بيوتنا بخدمة متقطعة ورديئة جدا لاننا نخضع لجشع واحتكار التجار والمضاربين الذين سيطروا على سوق الانترنت وصار مصير نتاجنا الثقافي والادبي مرهونا بمزاج هؤلاء الذين لا يفقهون من الامر شيئا.. هم اخر يضاف الينا بعد سلسلة الهموم وكان لابد لنا ان نواكب العصر كما يقولون ونصير مثل ادباء العالم ومثقفيه الذين تتوفر لهم كل وسائل نجاحهم اعلاميا وابداعيا مع ان ادباء ومفكري العراق لا يقلون شأنا عنهم ان لم نقل افضل..

وبعد زحمة عملنا الوظيفي اليومي، نتمنى ان ندخل بيوتنا آمنين مرتاحين لنمارس طقسنا اليومي ابتداء من شحن مولدة الكهرباء بالبنزين واللهاث وراء قنينة الغاز للطبخ وملأ المدفأة بالنفط بعد عناء الحصول على لترات منه، نتابع بعد هذه الاعمال الشاقة، اخبار الفضائيات ومن ثم الجلوس امام شاشة الكومبيوتر لساعات طويلة ومملة تتخللها سيول اللعنات على حظنا العاثر من انقطاع خدمة الانترنت مرة او اكثر كل نصف ساعة..

اخبار الفضائيات تجعل من يومنا الكئيب قاتما احيانا بفعل ما تنقله من أنباء عن الوضع العراقي الذي صار عنوانا مهما لكل نشراتهم الرئيسة.

نسمع ونرى ما حل ويحل بأهل العراق، معقول، يا للعجب، ياللهول، الله اكبر..

كل هذا يجري في البلاد ؟

يجعلوننا نيأس ونفقد الامل باصلاح وضعنا..

واعتقد انهم يراهنون على ذلك. هم الفضائيات مقلق ومرعب حد الفجيعة..

انهم يحاولون زرع اليأس والفتور والغثيان والتشرذم والاندحار للنفوس..

ينفقون المبالغ بالاكداس دون عد او حساب.. يدربون كوادرهم على احدث التقنيات لبث الرعب وانزياح الثقة من قلوب اهل البلاد..

اخبار الموت والدم والخوف لايذيعها رجل منهم، بل يختارون الجميلات لهذا الدور لأمر في نفوسهم..

نرى ونسمع ونحمد الله بأننا ما زلنا احياء.. لم نر يوما انهم اذاعوا خبرا عن امسية ثقافية عراقية، ولا موقفا لرجل شهم يتبرع لنقل الطلبة مجانا ولا ينقلون اخبار الاسواق العامرة والشوارع المكتظة والجامعات المعتبرة ولا اخبار فريقنا الوطني وهو يحصد بعض الانجازات ولو انها متواضعة..

وفي محاولة منا لنتجنب هذه الفضائيات وظلاميتها، نجد اننا امام مواقع الكترونية اكثر قتامة وسوداوية.. واكثر قتلا لاهل البلاد..انها تبث على طول اليوم مشاهد مرتبة فنيا وصورا بشعة لاحداث تجري وتعليقات اكثر وحشية.. اننا مطاردون جملة وتفصيلا.. ايا تولي وجهك، تراهم يحاربوك ويحاصروك ويتهمونك بشتى انواع الكلام الذي لم يخرج من أي قاموس لغوي معروف.. صرنا نسمع نعوتا والقابا وكلاما ومصطلحات لم نعرفها من قبل.. وهذا مؤكد يتطلب امكانات وخبرة في اطلاقها ودراسة مدى تاثيرها على الشارع.. اننا محاصرون بالصورة وبالكلمة وبالنظرات وبالابتسامات الغامضة وبالهتافات والشعارات..

الفضائيات والمواقع الالكترونية تتسابق ايهما يحقق ما يصبو اليه قبل الاخر !

انها تمضي في سعي ودون كلل، الى تفتيت فكر ورأي وابداع اهل البلاد.. تسعى الى تكوين مناطق محظورة في عقولنا نخاف الوصول اليها حتى بمجرد التفكير بها.. انهم يسعون الى تجميد العقول ورميها في خزانة الملابس.. يحاولون اقلمة الوضع داخل النفوس المتعبة.. لا اعلم من اين يجيء كل هذا النشاط الاعلامي المحموم ليبثوه لنا بتقنية مدهشة ؟

مع اننا نحتاج دوما الى مواجهة اعلامية مقابلة وبامكانات وتقنيات اعلى وافضل لمنع اختراق العقول والافكار التي يحملها كل اهل البلاد..

في ظرف غير وارد من قبل، وفي لحظات قلما مرت على شعب، ندور في دوامة البحث عن اجوبة عما يدور في اذهاننا التي بدت متعبة من البحث والتقصي.. لم يحدث ان مررنا بمثل هكذا حياة، حياة كنا نحلم ونتمنى باقل من راحة واستراحة من حروب ومغامرات دفعنا و ندفع ثمنها من اعمارنا وحياتنا.. حلمنا بالخلاص من الشرطي المعشش في عقولنا، لا نستطيع كتابة نص ما إلا ونراجعه مرات ومرات خشية تأويله وتفسيره مع اننا استطعنا امرار الكثير من النصوص والمقالات بتاويلات ابتكرناها من خيال تحدى الشرطي واعوانه..

لم تمر بلاد بجزء من الذي يمر به المشهد العراقي المعاصر.. لم يحدث ان حورب شعب بكامله من غرباء تغلغلوا وسط الاهل والمساجد واطلقوا الموت دون حساب او انتقاء.. لم يحدث ان حورب شعب لانه اراد السير في طريق جديد مرسوم بالامنيات التي لم تتحقق.

بالصورة وبالكلمة وبالابتسامة الغامضة، حوربنا بدس السم في طيب الكلام وفي تجاويف الضحكات على ذقوننا نحن الطيبون حد تصديق كل الحكايا التي تدعي الاخوة والوفاء من اشقاء لنا.. نحن نصدق كل الدموع المنهمرة على خدود المحللين والمتباكين علينا وهم يزرعون النفاق والشقاق والعبوات.. نحن طيبون حد تصديق الكلمة المنمقة المهذبة في النشرات التي تطلقها فضائيات المذيعات الفاتنات.. نصدق تحليلات العباقرة الأفذاذ في شأن البلاد وهم يشرحون المشهد على طاولة الحقد والغباء والحسد من نعمة نمتلكها حباها الله لنا دونهم..

ولكنهم صدقوا باننا نصدقهم ! يا للهول ! انهم يفسرون شغفنا بالسياسة والاخبار ومتابعة وجوه المخادعين والمناورين وألاعيب تجار الكلمات ضعفا وهوانا.. نواجه إعلاما شديد المراس في المخاتلة والمخادعة وفبركة الكلام.. نواجه حربا متنوعة من تفخيخ الموت وتفخيخ الكلمة وتفخيخ الاخوة..

اما دخولنا الى عالم الاتصالات المدهش.. الهاتف النقال والشبكة العالمية (الانترنت) واجهزة استلام الفضائيات، فقد سهل من نفاذ معاشاتنا نحن الموظفين باقل الجهد واسرع وقت، وعظم محنتنا الان ونحن ننظر الى سيول الدم الهادر الذي يبث باسرع من لسعة البعوضة، فتزداد المصيبة ويزداد وعينا وادراكنا بأن ما يجري ليس هدفه قتل الانسان حسب، انما ازالة البلاد من خارطة الارض المدورة ومسح اثرها الخالد في الوجود.. وطمس قصائد العظام من ابنائها في التراب واخفاء نهج الثائرين والمؤمنين وفصحاء الارض.

نحن ادرى من غيرنا بما يدور بيننا.. ولكننا نواصل الحياة رغم جرافات الموت وامتلاء ثلاجات الطب الشرعي وتفحم الاجساد ورغم برامج واخبار المواقع وقنوات الفتن والمحن ورغم الاهوال والشدائد، فأن القبح الاعلامي لا يرتجى قبوله في البلاد، كل البلاد..

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 16 آذار/2007 -26/صفر/1428