جاهلـية العقل السـلفي

بقلم: د. وليد سعيد البياتي

إشكاليات الجاهلية:

    بعد ان ظهر الاسلام في القرن السابع الميلادي، كدين الهي ونظام حضاري ينحو منحى الانعتاق من ظلمات الجاهالية، ويسعى للارتقاء بالعقل الانساني نحو قيم ومباديء عليا، بدا ذلك التباين بين هذا النظام الالهي وبين قيم الجاهلية المنحطة، ومن هنا فقد استعمل القرآن الكريم لفظ الجاهلية للتفريق بين العقل الانساني الذي عرف الله واتبع هدايته وارتقى حضاريا وانسانيا، وبين العقل الذي أصر على الاستمرار في تبني قيم منحطة تتجلى في رفض الاعتقاد بوجود الله: ( يظنون بالله ظن الجاهلية) آل عمران/154.

 أو انكار وحدانيته وبالتالي انكار كل القيم العليا التي جاء بها الاسلام كدين الهي حنيف، وكمنهاج حضاري يسير نحو غايات سماوية تحقق انسانية الانسان: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) الفتح/26. وايضا قوله تعالى: (ولاتبرجن تبرج الجاهلية الاولى) الاحزاب/33. فالجاهلية كمفردة لغوية لاتعني فقط مجرد تلك الفترة الزمنية في حركة التاريخ والتي سبقت ظهور الاسلام، بل هي تلك المفاهيم والقيم المنحطة التي تبنت عبادة الاوثان والعبودية والرق ووئد البنات، الجاهلية هو ذلك الاحتكام للسيف ونبذ العقل، الجاهلية هي فكرة تكفير الاخر والاتهام على الظن، هكذا هي الجاهلية التي جاء الاسلام لتقويض مبانيها اللاإنسانية وليعيد صياغة العقل البشري في تبني مثل عليا في مسعاه نحو المطلق.

 فالفكر الجاهلي يقف على النقيض من التطور وهو يحارب الانعتاق من عبودية الانسان للانسان، على العكس من الاسلام الذي يحقق مطلق الحرية باعتبارها مطلق العبودية لله . ويمكن اعتبار اشكالية تخلي غير الشيعة عن العقل كأحد مصادر التشريع واحدة من اكبر الاشكاليات العلمية في علمي الفقة والتفسير، كما في علمي الحديث والرجال، ففي الوقت الذي تبنى الشيعة الاجتهاد في التشريع الاسلامي، كان الطرف الاخر قد نبذ العقل واوقف العمل بالاجتهاد، ولعله يمكن اعتبار ابو حامد الغزالي (ت 505/1111) آخر مجتهدي السنة، ولكن هؤلاء وبعد قرون عديدة على وفاة الغزالي اكتشفوا جسامة خطأ ترك الاجتهاد بعد التغيرات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي اوجدتها الحاجة المستمرة الى وجود موقف ديني من حركة الحياة، ولكن هل يمكن اعتبار اي من أدعياء العلم من امثال (القرضاوي والظواهري والضاري والكبيسي) وغيرهم كثير، هل يمكن اعتبارهم علماء ومجتهدون؟؟ فاذا كان شيخهم ابن تيمية لا يرقى الى مرتبة طالب علم مع كثير جهالته وجاهليته فهل يجروء هولاء؟؟ إن مفاهيم مدعي العلم والاجتهاد من المحدثين من امثال هؤلاء ومن تشبه بهم ستجعل بالتأكيد علماء الرجال، واصحاب النقد التجريح يحارون في ايجاد منقبة واحدة يمكن اعتبارها لصالح مدعي العلم، بل ان صفحاتهم ستمتليء بكل ما وضعهه اصحاب التجريح لتبيان عدم صلاحية هؤلاء لحمل لقب طالب علم عوضا عن عالم.

سلفية أم جاهلية:

      السلفية كفكرة تعني اتباع رأي وموقف الاجداد او الاجيال السابقة، وهم يشابهون من ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه ءابآئنا أولو كان آبائهم لايعقلون شيئا ولا يهتدون) البقرة/170. فهؤلاء اتبعوا ابن تيمية وابن عبد الوهاب وقبلهم معاوية بن ابي سفيان (مؤسس ما سمي بالسنة والجماعة) واهملوا النص الالهي في الكتاب العزيز القرآن الكريم، كما اهملوا النص الاصيل في السنة النبوية واتبعوا سنن من شابههم من خلفاء السوء. والسلفيون باتباعهم السلف وتعبدهم بالرجال ممن لم ينص عليهم القرآن قد اتبعوا الشيطان كما نص عليه الحق سبحانه في كتابه العزيز: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ماوجدنا عليه ءابآئنا أولو كان الشيطان يدعوهم الى عذاب السعير) لقمان/21.

 وقد كتب احد مدعي العلم السلفي في احد المواقع على الانترنيت: (المسلم في الاعتقاد صنفان مقلدٌ مُتَبِعْ ومفكرُ مُتَبَعَ ، فأما الأول يأخذ بمأخذ  الآخرين ويقلد السلف الأقدمين وذلك إما بعلة الجهل أو نقصان العقل أو إجتماعهما معا وأعلم يرحمك الله ما إجتمعا معا في رجل أو إمرأة إلا وأورداه مورد التهلكه وأنزلاه منزل في جهنم علمانيا كان أو أزهرياً مُعَمَمْ وهنا يقول الإنسان ليس في الإمكان أفضل مما كان وأتبع ما عليه الأباء من زمان ومالي والعقل فكل من يستخدمه زنديق وجب عليه العذاب حقيق وليس له منا صديق بل نقتله تقربا ويقف على جيفته البوم نعيق ونستحل منه الدم والمال والحلال والعقيق فأول من استخدم العقل الشيطان - وقال لرب العرش الرحمن أنا أفضل من هذا الانسان خلقته من صلصال كالفخار وخلقتني من نار فلن أسجد ولو أصابني العار وطردتني من رحمتك وعذبتني بالنار – ) فإذا كان راي مدعي العلم السلفي أن العقل يؤدي الى الهلكة فلم بالله عليكم خلق الحق سبحانه العقل ولم اقسم به وجعله دليلا للهداية؟ وقد قال اعز من قائل: ( كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا أياته وليتذكروا أولوا الالباب) ص/ 29. والله عزوجل يمدح اصحاب العقول ( الالباب) فيقول: (أفمن يعلم أنما انزل اليك من ربك الحق كمن هو أعمى أنما يتذكر أولو الالباب) الرعد/ 19.

 والاية الكريمة هنا تكشف من هو المعاند فتصفة بالاعمى، فاصحاب الفكر السلفي قد اصابهم العمى بتخليهم عن القيم والمفاهيم القرآنية،  في حين ان الايات التالية تستمر بمدح اصحاب الالباب وتفسر من هم: (الذين يوفون بعهد الله ولاينقضون الميثاق، والذين يصلون ما امر به الله ان يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) الرعد/20-22. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر عن رب العزة في حديث قدسي: (إن الله تعالى خلق العقل.. ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال له أقبل، فاقبل. فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ولآ أشرف منك، ولآ اعز منك، بك أوحد وبك أعبد، وبك أدعى وبك ألتجى، وبك أبتغى، وبك أخاف وبكأحذر وبك الثواب وبك العقاب) حديث قدسي/ الكافي/1/10، كلمة الله/ 165. وقد قال امير المؤمنين علي بن ابي كالب عليهما السلام: (إن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من عقول في دار الدنيا) بحار الانوار 1/106. من هنا نكتشف جهالة الفكر السلفي المنكر للعقل والمرتكز على اقاويل من لم ينزل من الله بهم سلطان ولا دليل، فالعلاقة بين السلفية والجاهلية علاقة عضوية فكلاهما يتبنى قيما منحطة ويتبع منهجا تكفيريا همجيا يناقض العقل والمنطق، كما يجافي الذوق السليم، فقد استغل ابن عبد الوهاب جمود العقل البدوي فأغرق في تجهيله ثم نفى العقل عن التفكر والتصرف السليمين فامعن في ايجاد الهوة بين اتباعه والعقل حتى اصبح الاعتماد على العقل شيئا يناقض القرآن في فكر الوهابية السلفية، بل انهم ادعو عصيان ابليس لربه وغوايته كان بسبب استعمال العقل ولم يقولوا بانه استعمل القياس كي لا يطعنوا في احد ائمتهم الغاوين (ابوحنيفة) الذي اشتهر عنه استعماله القياس والعمل برايه مقابل النص، مما يناقض النص القرآني والسنة النبوية الصحيحة، فالقياس والراي في التفسير الفقهي يختلف اختلافا كبيرا عن استعمال العقل، فالعقل الرشيد يقبل طوعا بالموقف الالهي و لما كان الاعتراف بالعقل سيقود بالضرورة الى الاعتراف بالامامة، وباحقية أهل بيت النبوة في الخلافة، نجد الفكر السلفي يرفض رفضا باتا الاسترشاد بالعقل الرشيد حتى وإن ادى ذلك الى مخالفتهم النص القرآني والسنة المحمدية، وهم بدل ذلك نجدهم يتشبثون بما يعرف بالسلف والصحابة ( وفق نظرية عدالة الصحابة كلهم بما فيهم من خالف وقتل وحرف) واذا وجدوا ان هؤلاء سيقعون تحت سيف النقد والتجريح تراهم يبادرون الى وضع الاحاديث لتبرير تفاهاتهم ثم يلجاون الى تفسير النص القرآني بما يناسب الاهواء ويدعم مكانة نظرية الخلافة.

من جانب آخر، فالجاهلية لاتعني فقط التخلف عن الركب الحضاري المتمثل بالعقيدة الاسلامية الداعية الى توكيد الحق، بل ايضا تعني الانحراف عن المسار الالهي فالاسلام الذي يحرم دم ومال وعرض الانسان المسلم يفترض به الارتقاء بالعقل البشري ليسمو على الاهواء والاطماع، هذا الاسلام بكل عظمته لم يتمكن من تنقية عقول ونفوس الكثير من الصحابة الذين كشفت حركة التاريخ عن نفاقهم  الذي إمتلاءت به الكتب، فإذا كان أؤلئك وفي عصر الرسالة وبين يديهم الايات والمعاجز قد انغمسوا في قيعان جاهليتهم فكيف بهؤلاء الجهلة بعد اربعة عشر قرنا؟  لقد برهن من يسمون انفسهم بفقهاء السنة على جمود عقولهم وضيق أفكارهم، بل انهم وفي سبيل تبرير اتباعهم من حارب الله ورسوله تجدهم يعمدون الى تحريف التفسير ولي الاحاديث ليقدموا لاتباعهم شيئا يدعونه فقها تجاوزا على الفقه، ويسمونه علما والعلم منه بريء، لقد علمنا الائمة الاطهار عليهم السلام أن لانقبل قولا او حديثا او حكما دون ان يعرض على القرآن، فالسنة تحتكم للقرآن، وما خالف القرآن ليس بسنة حتى وإن قيل لنا انها صدرت عن معصوم، إذ ان العقل يحكم ان لايصدر المعصوم حكما او قولا يخالف النص القرآني.

جاهلية نظرية الخلافة:

     لقد تبين للكثير جاهلية الفكر السلفي، وحقيق بالعلماء ان يعيدوا تقييمهم للسلفية باعتبارها فكرة جاهلية، ويجب قيام دعوة اسلامية للتخلص من الفكر السلفي ومن دعاته والمروجين له فهذا النوع من التفكير اصبح عبئا على الاسلام، بل انه يقدم الاسلام بشكل سلبي، فقد عمدت السلفية على افراغ الاسلام من المفاهيم الرسالية الاصيلة وطرحت عوضا عنها مفاهيم مصطنعة تتفق وارتباط الفكر السلفي بالانظمة الحاكمة على غرار علماء العصرين الاموي والعباسي، وحتى في الدعاوى الفارغة في فكرة اعادة الخلافة على طريقة الخلافة العثمانية، فان الغرض الاصيل من هذه الفكرة هو ايجاد أرضية بلباس شرعي لتكون مبرر وقناعة للعمل ضد عقيدة الامامة، فالصراع سابقا وحاليا يشكل صراعا عقائديا وإن تلبس بلباس سياسي، والسلفية ترى أن حل الاشكاليات البشرية يكمن في الحل السياسي، ونظرية الخلافة يمكن اعتبارها منهجا لتقويض الاسلام العقائدي واحلال محله اسلاما يتبنى فكرا سياسيا خارج القيم العقائدية. ففي الوقت الذي تعتبر فيه العقيدة الاسلامية ان حل الاشكالات الانسانية لايكمن في الجوانب السياسية والاقتصادية في الاساس، باعتبار ان هذه الجوانب تمثل جزءا من عناصر الحل، ولكن القاعدة الاساس تكمن في معنى الوجود، أي علاقة الانسان بحركة التاريخ والغيب، وهذا المفهوم يؤطر قيمة الامام المهدي باعتباره امتدادا للعصر الرسالي، وتحقيقا لعلاقة الانسان بالله من خلال الخلافة الالهية العقائدية وليس الخلافة السياسية التي يدعو اليها الفكر السلفي الجاهلي.

فالخلافة التي يدعو اليها الفكر السلفي خلافة لا تحقق العلاقة بين الانسان والخلافة، كما انها لاتتبنى مفهوما واقعيا في علاقة الانسان بحركة التاريخ، على العكس من الخلافة الالهية التي تحقق القيم العليا لوجود الانسان باعتباره صانعا للحضارة وعنصرا اساسيا في صناعة التاريخ. بذلت تصبح الخلافة الالهية مشروعا حضاريا يرتقي بالانسان لتحقيق مثل عليا، في حين ان الخلافة السياسية تتبنى مثل منحطة تمحو نحو اشباع غرائز آنية.  

*المملكة المتحدة – لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 22 نيسان/2007 -5/ربيع الثاني/1428