مصطلحات ادبية: ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة

Postmodernism

شبكة النبأ: يستخدم الناس مصطلح ما بعد الحداثة بطرق أو أساليب مختلفة ومتنوعة، فاستحالت من جراء ذلك بدورها إلى شيء بغير معنى، الذي أصبح يشتمل ويحتوي- كما يقول البعض- على كل شيء لكل الرجال والنساء. (والبعض يؤكد أن ما بعد الحداثة- مثل التفكيك- إلى زوال ونحن نتحرك داخل منطقة ما بعد- بعد الحداثة). وعلى الرغم من أنه من الصعب تحديد ما بعد الحداثة، فإن ثمة أفكارا معينة ترتبط بها- بصفة عامة- سوف أقوم بمناقشتها في سعى يصبغ على المصطلح معنى.

يشير مصطلح ما بعد الحداثة إلى انتقال ثقافتنا إلى طور جديد، ويجاوز ما أطلقنا عليه اسم الحداثة modernism. لذا على الأقل، ينبغي أن نعرف ما هي الحداثة، حتى نعرف ما يسمى ما بعد الحداثة، فالحداثة modernism تشير إلى تلك النزعة الفردية، وبدايات الرأسمالية، والنظام الصناعي البيروقراطي. وفي مجال الفنون والثقافة، فقد ارتبطت الحداثة بكتابات كتاب من مثل توماس مان Thomas, mann جيمس جويس james joyce ت. إس. إليوت t.s. eliot ولويجي برانديلو prandello, luigi وفرانز كافكا franz kafka ومارسيل بروست marcel prouvst وروبرت ميوسل Robert musil ووليم فوكنرو wilwillam faulkn.

أما في مجال الفنون التشكيلية فإن الحداثة تشير إلى فنانين مثل بابلو بيكاسو Pablo Picasso وهنري ماتيس henti matiss وجورج براك georges braquec وبحركات فنية مثل المستقبيلة futurism، والدادية dadism، والسريالية surrealism. وفي الموسيقى، فإن الحداثة ترتبط بأعمال مؤلفين موسيقيين من أمثال بيلا بارتوك bela bartok وإجور سترافنسكي igor Stravinsky وأرنولد شوينبرج Arnold, Schoenberg. هؤلاء الفنانون المبدعون وحركة الحداثة يعكسون تغييرات في الفنون التعبيرية، وفقا لرأي مايك فيزرستون mike feather stone (1988) حيث يقول:

"إن السمات الرئيسية للحداثة يمكن تخليصها على النحو التالي: الوعي الذاتي الجمالي والتأملي، حيث رفض البنية السردية من أجل التزامن والتوليف Montag؛ لاكتشاف المفارقة والغموض، والطبيعة غير المحددة ومفتوحة النهاية للواقع، وكذلك رفض فكرة الشخصية المتكاملة من أجل التأكيد على الذات المتهدمة، والمجردة من الصفات الإنسانية، (ص202).

ويوضح فيزر ستون feather stone أن فناني ما بعد الحداثة قد انتحلوا بعض سمات الحداثة في الفنون إلى الدرجة التي معها لا يسهل الفصل أو التمييز بين الحركتين في بعض الحالات فيردد بعض السمات المتعلقة بما بعد الحداثة في الفنون:

طمس ومحو الحدود بين الفن والحياة اليومية، وإزالة التسلسل الهرمي بين الراقي والجماهيري في الثقافة الدارجة وتفضيل الأسلوب الانتقائي المشوش، وتمازج الثغرات، والمحاكاة الساخرة barody، والمعارضة pastiche، والتهكم والسخريةlrony، والهزل والمزاح playfulness، والاحتفال بالمظهر الخارجي ((بالثقافة التي لا عمق لها)) depthlessness، وانحدار الأصالة/ العبقرية للمنتج الفني والادعاء بأن الفن لا يسعه إلا أن يكون مجرد تكرار (ص203) ويضيف Featherstone أن المرء يمكنه أن يناقش الحداثة وما بعد الحداثة بمنظورات أوسع من الفنون، تشمل الثقافة ككل والعلاقة التي توجد بين النظام الاقتصادي والنظام السياسي.

في عام 1989 يقدم تود جيتلن todd gitllin عن ما بعد الحداثة منظور مختلفا بعض الشيء حيث يقول إنها أنواع، ومواقف، وأساليب متمازجة ومتراكبة بوعي ذاتي. يستمتع فيها بتعميم الأشكال وتحاورها (خيالي- وغير خيالي)؛ المواقف (مباشرة- ساخرة). الحالات المزاجية (عنيف- كوميدي)، مستويات الثقافة (أعلى- أدنى)... إنها تسحب البساط من تح قدميها، عند إظهار الوعي الذاتي الحاد بطبيعة العمل المركب. فالما بعد الحداثة يستمتع باللعب على السطح، ويستخف بالبحث عن العمق من حيث كونه مجرد حنين إلى الماضي.

.........................................................................................

متعلقات

 

مابعد الحداثة(1)

تعتبر فلسفة ما بعد الحداثة فلسفة نقدية لمجمل مرحلة الحداثة و فلسفاتها التي سيطرت على الحضارة الغربية بعد عصر النهضة و الثورة الصناعية و تركزت على فكرة التحكم بالطبيعة و مواردها و التحكم بالبشر و المجتمعات. لكنها من وجهة نظر اخرى قد تكون فلسفية بحتة هي ؛ تقديم فلسفة الحداثة بأسلوب انساني مفهوم و واضح ومرتيط ببساطة مع هوية المفكر والمفكر فيه والمفكر له .. مثلا من وجهة نظر فنية ؛ الرسام واللوحة والمتذوق على التوالي .

المجتمع ما بعد الحداثي.. سوسيولوجيا السوق والموضة(2)

في حين ان فريدريك جيمسون يشير الى العلاقة الوثيقة بين ما بعد الحداثة والمرحلة الحالية من الرأسمالية متعددة الجنسية، إذ ان ما بعد الحداثة الجديدة تعبر عن الحقيقة المركبة للنظام الاجتماعي الجديد للرأسمالية في مرحلتها المتقدمة هذه فثقافة ما بعد الحداثة تناسب الانماط الجديدة: الاستهلاك وسرعة استعمال الموضة الدقيق للوقت، أو ما يسميه “تذرية” الوقت، وهو بالتالي يصل الى نتيجة خلاصتها ان ما بعد الحداثة ليست “موضة” للمرحلة الرأسمالية الحالية، وإنما هي ثقافتها بالذات.

نرسيس 

إن هذا المدخل الثقافي في قراءة ظاهرة ما بعد الحداثة قد سيطر على الكثير من المثقفين والمحللين الاجتماعيين ولا شك ان ذلك يشكل المظهر الأكثر بروزا في ظاهرة ما بعد الحداثة لا سيما في حقول العمارة والفن والسينما والأدب وغيرها، لذلك فيقرأ سكوت ليش ظاهرة ما بعد الحداثة بوصفها حدثا ثقافيا وتمتلك ثلاث مواصفات عامة، فهي أولا نتاج سيرورة التمايزات الثقافية وهي ثانيا خلق لنظام جديد من الرموز المجتمعية المتصفة بالرؤيوية أكثر من اتصافها بالملموسية وثالثا هي ظاهرة تعكس تغيرات واضحة وجلية في التصنيف والتراتب الاجتماعيين. 

يضاف الى ذلك ان هناك بعضا من علماء الاجتماع الذين يقرأون ظاهرة ما بعد الحداثة وفقا لتجربتها المعاشة، إذ يفترضون ان المظاهر الاجتماعية المتجلية في السينما والأدب والاجتماع والاستهلاك، تشكل كلها رؤى متنوعة ومتغايرة لحقيقة اجتماعية واحدة، وهم لذلك يفترضون وجود مكان مركزي يضفي المعنى على المواقع والأجزاء المترابطة فيما بينها، ووفقا لذلك فهم يؤكدون غياب التفسير التوحيدي للعام الاجتماعي مقابل التبعثر والفوضى، وحلول الفرديات مكان الكليات، وظهور ما يسمى بالنرجسية الفردية، حيث لا يعود الفاعل الاجتماعي قادرا على التأثير في محيطه الاجتماعي، فيلجأ الى تمركزه على ذاته، فيظهر العجز عند الناس وتكثر ضحايا الفوضى في صفوفهم. ولذلك لا بد عند دراسة المجتمع ما بعد الحداثي من التركيز على استقلالية النظم الفرعية عن بعضها وعدم تدامجها في كل جامع أو كل تراتبي واحد، وهذا الانفصال أو التناقض صفة هذا المجتمع الذي لا يوجد فيه نظام مرجعي مشترك مما يدفع كل نظام جزئي الى ان يتمحور (كما الأفراد) حول أوالية اشتغاله الذاتية، ولا يعود يسرى بينهم من اتصال، سوى الاتصال المعلوماتي (الإعلام). 

ومصداق هذه الأفكار واقعيا وعمليا هو ظهور فكرة “السوق”كمبدأ منفصل عن النظام الذي يحكم المجتمع، وكمختزل لتعقيداته، وكقناة للتواصل الاعلامي بين أجزائه، فالسوق هنا هو المعبر عن منطق التاريخ الاجتماعي وتطوره، وهو الذي يكشف عن طبيعة النظام الاجتماعي ويعبر عن الخصوصيات عن طريق تحصين التمايزات والاختلافات بين الأجزاء. 

ففكرة السوق، بما هي تجسيد معيوش للتاريخ الانساني، تشهد حاليا انتصارا لا سابق له في الاقتصاد وفي السياسة وفي الاجتماع فقد أصبحت حقيقة شبه دينية، إذ يجب ان تحصل في المجتمع أشياء وأحداث غير قابلة للسيطرة والانتظام، فكل شيء يتحرك بفوضى، هذا هو جوهر ظاهرة ما بعد الحداثة اجتماعيا، وقد استغرق جورج بالاندييه في وصف الفوضى باعتبارها سمة ابداعية، أو حركة تزيل قديما وتخلق جديدا، إنها تمثل المنحى الايجابي للتغيير وتقود خطابا يتيح قبول غير الأكيد، كنمط علاقة مع العالم. 

الفن ما بعد الحداثي 

إن هذه الرؤى تختصر صيغة الفن ما بعد الحداثي الذي يفترض به ان يعكس صورة مجتمعه بطريقة أو بأخرى، فنلحظ ان الفن دخل في مرحلة النفي الأبدي والمستمر، فما دام الجديد لا يلبث ان يصبح قديما وأن النفي ايضا فقد قدرته على الخلق، لذلك فأصبح الفن يرتاد الحقول المختلفة من سينما وأدب وتشكيل بكثير من الفجاجة، فما من شيء إلا ويحتضر، لكن ثمة شيئا ما بصدد الاختمار، لذلك فما بعد الحداثة الفنية تنادي وتطالب بمحو الفوارق بين الحقول الفنية المختلفة، إذ تريد ان تكون اساسا للتجديد وللسعي الأبدي الى الفرادة والاستبطان المنهجي للاحتمالات، إنها تتطلع الى تفكيك أوصال الصنم الرومنطيقي للمبدع الفرد، المنغلق المتمحور على ذاته، حتى يتمكن الفنان التقني ان يلهو بإعادة تجميع أشلائه وفق هواه، إن ذلك يوجد في صيغته القصوى القائمة على رفض الحداثة والتي تقول ”نعم لكل شيء”. 

تتقدم إذا حركة ما بعد الحداثة نافية الحداثة ومعلنة رفضها لكل أسسها وأصولها فالحداثة كانت امبريالية وذات نزعة ذكورية متمركزة في حين ان ما بعد الحداثة ترفع راية التحرر، انها حركة متشظية يمكن ان تتفتح فيها المتعددة ذلك “أننا كنا قد بحثنا الجانب الأدبي في الفكر ما بعد الحداثي” او ما يطلق عليه ادب الصمت في مكان آخر، فإننا سنركز على استخلاص الملامح أو الميزات العامة التي تشترك فيها ثقافة ما بعد الحداثة في حقولها المتعددة. 

إن المجتمع ما بعد الحداثي يبدو إذا أشبه بمجتمع الخدمة الذاتية، والاغراء فيه بمثابة مسار شامل، ينزع الى تنظيم الاستهلاك والمنظمات والاعلام والتربية والأخلاق، وهكذا جاءت علاقات الاغراء بديلا عن علاقات الانتاج، إنه يتجه نحو الحد من العلاقات السلطوية والزيادة في الخيارات الخاصة وفي منح الأولوية الى التعددية، والازدراء بالقيم الكبرى وبالغائيات التي تنظم العلاقات في الأسرة والعمل والجيش وغيرها، وتعم السلبية بوصفها القيمة الوحيدة التي يسعى الجميع لتحقيقها مما ينتهي بالمجتمع الى حالة من التذرر والقلق والتشاؤم. 

تيار ما بعد الحداثة وصلته بالواقع العربي(3)

تيار ما بعد الحداثة ينتقد ويهاجم قسماً كبيراً من مفاهيم الحداثة الغربية وقيمها. ويرى تيار ما بعد الحداثة أن الحداثة الغربية لم تحقق كثيراً من أهدافها. في ظل الحداثة الغربية نشأت ونمت الأيديولوجيات الفاشية والنازية والعنصرية والاستبدادية والشمولية والشيوعية. وفي ظل الحداثة لم تستطع العقلانية أن تحل المشاكل العسيرة التي واجهتها البشرية ولا تزال تواجهها. وفي ظل الحداثة ظهرت النزعة الفردية المبالغ فيها والنزعة الأنانية المتطرفة, ويساء استخدام العلم والتكنولوجيا وذلك على حساب مصلحة الشعب والمجموع. ولم يستطع الإنسان في ظل الحداثة أن يلبي كثيراً من حاجاته الأساسية, وكان فكر الحداثة فكراً جامداً اتسم بصوغ الأنساق الفكرية الجامدة أو المغلقة التي اتخذت شكل الأيديولوجيات والمذاهب السياسية والاقتصادية الجامدة المفتقرة إلى مرونة.

ويبشر تيار ما بعد الحداثة بقيم ومفاهيم, منها الانفتاح الفكري والمرونة الفكرية وانفتاح الأنساق الفكرية. ويدعو هذا التيار إلى التخلص من الجمود الفكري والانغلاق الفكري والتحرر من القيد الأيديولوجي والأحادية الفكرية, ويدعو إلى تفادي إصدار الأحكام التعميمية في مجالات السياسة والثقافة والاقتصاد. وهو يؤكد حق الإنسان في اختيار مصيره.

من المستحسن أن يدرس في الوطن العربي وفي سائر أنحاء العالم النامي تيار ما بعد الحداثة بكل جوانبه وصلته بالمجتمعات غير الحديثة وعلاقتها بمفاهيم من قبيل الحداثة والنهضة والتغير والتقدم. ومن المستحسن أن يدرس مدى انطباق أو مدى عدم انطباق مفاهيم تيار ما بعد الحداثة على المجتمعات غير الحديثة وصلة تيار ما بعد الحداثة بالتعددية الفكرية وبقضايا مطروحة في بلدان العالم النامي من قبيل صلة تيار ما بعد الحداثة بالمذاهب الفكرية والفلسفية ووضع المرأة ومناهج التعليم الثانوي والجامعي, ودراسة صلة مفاهيم ما بعد الحداثة بدوام أو بتغير نظرتنا إلى الحداثة, والصلة بين تيار ما بعد الحداثة وحرية الممارسة السياسية وحرية إبداء الرأي وحرية تبني المعتقد والصلة بين ما بعد الحداثة والنظام الديمقراطي والتناول الديمقراطي للقضايا التي تهم المجتمع والشعب والدولة.

ومن سمات تيار ما بعد الحداثة أن هذا التيار نفسه يتخوف ويحذر من وضع النظريات, وأنه ضد وضع النظريات. ولقد أفضى نشوء تيار ما بعد الحداثة إلى ردود فعل مختلفة في الفكر العربي. وأعرب بعض الكتاب عن الفكرة الخاطئة في أن تيار ما بعد الحداثة - نظراً إلى أننا لم نحقق الحداثة كما صيغت مفاهيمها ومورست في الغرب - لا يعنينا في حياتنا وفي محاولة نهضتنا وفي محاولة صياغة مستقبلنا. ومما يلزم قوله في هذا السياق أن هذا التيار الفكري ليس من الضروري أنه لا يعنينا لمجرد أنه تيار يطلق عليه اسم ما بعد الحداثة, ونحن شعب لم نحقق الحداثة أو لم نحقق من الحداثة ما حققته الشعوب الغربية. إن عدم تحقيق العرب للحداثة الغربية لا يعني أن العرب ليس لهم شأن بفكر ما بعد الحداثة. ومن الخطأ القول أيضاً أن هذا التيار لا يعنينا وذلك لأن للحداثة مفاهيم عديدة وأن لما بعد الحداثة مفاهيم أخرى ولكثرة تعاريف الحداثة والنهضة والتقدم والتغير دلالات هذه المفاهيم في المراحل الزمنية, فقد تتسم بعض المجتمعات النامية ببعض جوانب الحداثة.

ما بعد الحداثة..ومجتمع الاستهلاك(4)

إن مفهوم مابعد الحداثة ليس مقبولا أو حتى مفهوما  بشكل واسع اليوم. بعض الرفض  يتأتى من عدم الإحاطة بالأعمال التي يغطيها، والتي يمكن أن توجد في كل الفنون: شعر جون أشبري، على سبيل المثال، وحتى في كثير من الأشكال الأبسط من الشعر المحكي الذي جاء كردة فعل ضد الشعر الحداثي الأكاديمي الساخر والمعقد في الستينيات؛ ردة الفعل على العمارة الحديثة، وبشكل خاص ضد الأبنية العملاقة ذات الطراز العالمي، وأبنية اللهو والسقوف المزخرفة التي احتفى بها روبرت فينتوري في بيانه (التعلم من لاس فيغاس)؛ أندي وارهول، وفن البوب، وتلك الأشكال الأكثر راهنية  من الواقعية الفوتوغرافية؛ في الموسيقى، ولحظة جون كيج، وذاك المزج بين الأساليب الكلاسيكية و "الشعبية" مؤخرا  لدى مؤلفين موسيقيين من أمثال فيليب غلاس وتيري رايلي، وموسيقى الروك والموجة الجديدة كما تقدمها فرق من مثل (Clash) و(Talking Heads) و (Gang of Four)؛ في السينما، وكل ما يأتي من غودارد -الفيلم الطليعي المعاصر وكذلك الفيديو - وهناك أيضا  الروايات المعاصرة أيضا، حيث أعمال ويليام بوروز وثوماس بينشون وإسماعيل ريد من جهة، والرواية الفرنسية الجديدة من جهة أخرى، والتي يمكن أيضا  اعتبارها من بين التنويعات التي يمكن أن يقال عنها ما بعد حداثية.

هذه القائمة يمكن أن توضح  أمرين معا: أولا، جميع أشكال ما بعد الحداثة المذكورة أعلاه انبثقت كردات فعل خاصة ضد الأشكال المكرسة للحداثة الرفيعة، وضد هذه أو تلك من أشكال الحداثة الرفيعة المهيمنة في الجامعة والمتحف وشبكة الفن التشكيلي والمؤسسات. هذه الأساليب المقموعة والمحاربة سابقا -التعبيرية التجريدية، الشعر الحداثي العظيم لباوند، وإليوت وولاس ستتيفنس؛ والأسلوب الدولي (لي كوربيه، فرانك رايت، ميز)؛ سترافينسكي؛ جويس؛ بروست، ومان -التي كان ينظر إليها من قبل أجدادنا على أنها فضائحية وصادمة، كانت بالنسبة للجيل الذي وصل إلى بوابة الستينيات بمثابة المؤسسة والعدو -ميتة، خانقة، محنطة، وأوابد متحجرة يجب على المرء تحطيمها والإتيان بشيء جديد. هذا يعني أن ثمة أشكالا  عديدة ومختلفة ما بعد الحداثة تتناسب طردا  مع أشكال الحداثة القائمة، حيث أن تلك الأشكال الآنفة كانت، على الأقل، ردود فعل خاصة ومحلية ضد تلك النماذج. هذا بوضوح لا يجعل محاولة وصف ما بعد الحداثة أكثر سهولة، بما أن وحدة هذا الهاجس -إذا كان يتحل  بوحدة -لا تعطى في ذاته بل في الحداثة ذاتها التي يحاول استبدالها.

السمة الثانية لهذه القائمة من أشكال ما بعد الحداثة تكمن في محو بعض الحدود المفتاحية أو الفواصل فيما بينها، والأبرز نسف التمييز الأكثر قدما  بين الثقافة الرفيعة وبين مايسمى الثقافة الشعبية أو الجماهيرية.

ربما كان هذا من أكثر التطورات  للاكتئاب من وجهة النظر الأكاديمية والتي كان لها تقليديا  مصلحة راسخة في الإبقاء على دائرة الثقافة العالية أو ثقافة النخبة ضد البيئة المحيطة من ثقافة الرعاع، وما تطرحه المسلسلات التلفزيونية وثقافة "دليل القارئ،« وذلك من خلال نشر مهارات صعبة ومعقدة للقراءة والإصغاء والمشاهدة لمريديها. غير أن بعض نماذج ما بعد الحداثة الجديدة انبهرت بوجه خاص بذاك الأفق الكلي من الدعاية والفنادق، وملاهي لاس فيجاس، والبرامج الليلية المتأخرة، وسينما هوليود من الدرجة (B)، وما يسمى الأدب الثانوي وكتب الأخيولة والرومانس ذات الأغلفة الورقية في المطارات، والسير الشعبية، وكتب الألغاز والجريمة والخيال العلمي أو رواية الفانتازيا. إنها لم تعد "تقتبس" تلك "النصوص« مثلما كان يفعل جويس، أو ماهلر، بل تقوم بدمجها إلى درجة أنه يصبح من الصعب رسم الحد الفاصل بين الفن الرفيع والأشكال التجارية.

في وصف المجتمع ما بعد الحداثي(5)

الكتاب: الطريق إلى القرن الواحد والعشرين – التيه

المؤلف: جورج بالاندييه

ترجمة: محمد حسن إبراهيم

الناشر: وزارة الثقافة – دمشق

حاول الكثير من الباحثين قراءة ظاهرة ما بعد الحداثة وفقاً لعلاقتها بالمجتمع الغربي، فعالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين ربط بين بروز ما سماه بالمجتمع ما بعد الصناعي وبين الفكر ما بعد الحداثي معتبراً أن الأسس الحديثة لاقتصاد السوق وآلياتها التي تتعزز دولياً كانت بمثابة الحاضن الاجتماعي لبروز أفكار ما بعد الحداثيين في ما يتعلق برفضهم لأسس الحداثة القائمة على العقلانية والتنوير والعلمية وحديثهم المستمر عن السلطات والنهايات، بدءاً من نهاية السرديات الكبرى حسب ليوتار أو موت الإنسان حسب فوكو والكلام حول موت المؤلف حسب بارت ونهاية الجغرافية حسب فيريليو، أما فردريك جيمسون فقد ربط بين المجتمع الاستهلاكي والفكر ما بعد الحداثة بل هي ثقافتها بالذات، لذلك بدأ علماء الاجتماع بقراءة الظاهرة وفقاً لأصولها الاجتماعية كما نجد مع جورج بالاندييه في كتابه (في الطريق إلى القرن الواحد والعشرين – التيه) والصادر عن وزارة الثقافة بدمشق حديثاً، ومن ترجمة محمد حسن إبراهيم، إذ يمكن اعتبار هذا الكتاب بأنه وصف لمظاهر وتجليات المجتمع ما بعد الحداثي في حقوله العلمية والفكرية والصناعية والاقتصادي. إذ يرى أن ما بعد الحداثة أتت بعد مرحلة انتقالية فصلت بين الحداثة وما بعدها، أطلق عليها أسم حداثة التخيلات، فهي حداثة أشياء عارضة وانتقالية، وما يحددها هو الترهل والنسيان والفرض والإهمال وسريع الزوال، فالمرحلة مرحلة تخل ورفض كل شيء بدءاً من الإيديولوجيات وانتهاء بالإنسان. إنها باختصار مرحلة انتصار المستجد والمستحدث، لكن بالمقابل لا يبدو هذا جديداً يدعو الى التفاؤل بقدر ما يمكن تشبيهها بأنها عبارة عن ركام من الانهيارات.

ورغم توصيفه لها وفق منشئها الغربي إلا أنه يرى أنها تركت آثارها على العالم الثالث الذي لم يتمكن من الدخول إلى عصر الحداثة فحسب، بل فقد هذا العالم حركات تحرره الوطنية مما أفقده قدرته الجاذبة، إذ كان هذا العالم الثالث على حد تعبيره بمثابة عقيدة مولدة لتضامنات جماهيرية ضخمة ولحماس الشباب ولآمال فيها الكثير من الجسارة التي خدمت قضية الحرية وربما استطاعت أن تخلق الثورة الحقيقية حتى داخل التخوم الأوروبية.

يبدو إذاً بالاندييه لا يقرأ في ظاهرة ما بعد الحداثة إلا وفقاً لعلاقتها بمضمون الحداثة وإرثها التحريري والتنويري، الذي قضت عليه ما بعد الحداثة، وتهكمت من الذين ما زالوا يتحدثون باسم هذا التراث أو يدعي امتلاكه، لذلك فبالاندييه يصف هذا الفكر بداية وفقاً لعلاقته مع الآخر في المجتمعات المغايرة له، هذه العلاقة التي تحدد مسألة الهويات وتطرحها بوصفها هاجس العصر الحديث بدءاً من هويات الأشخاص والجماعات حتى هويات الدول والقوميات، ويرى أن ذلك لم يكن ليطرح بهذه الحدة لولا اللايقين الهوياتي الذي تطرحه ما بعد الحداثة، وتتحدث فيه باستمرار مقدسة النزعة الفردية ومرسخة مبدأ التحول بوصفه سمة العصر وروحه. وهذه النزعة الفردية تتعزز مع ثقافة البضاعة والأشياء، والدعاية كلية الحضور، والمشاهد التجارية التي تبدل بشكل من الأشكال هيئة المستهلك من أجل أن تجعل منه زبوناً ذا شهوة شراء دائمة التأجج، وهذه هي مظاهر المجتمع الاتصالي، بوسائطه الإعلامية التي تمنح الجبروت للسماع والصورة اللذين يحافظان على الانطباع بأننا قد بلغنا توصلنا إلى تنوع العالم وإلى رؤية التاريخ وهو يتكون ويتشكل.

وبفضل هذه الوسائل الاتصالية التي تدخلنا ما بعد الحداثة فيها، فإنها تخلق لنا توتراً شديداً بين خيبة الأمل وكثير من التعقيد والمسائل غير المحلولة ومن الاعتقادات والأوهام الضائعة والحوادث المأساوية أو غير المتيقن فيها في ما يتعلق بعاقبتها. إنها تضعنا بين عدم الاستقرار الذي يبدو أبدياً وبين عودة الافتتان بالاستعانة بكل الوسائل من أجل تحقيق الممتنع.

فزمانية ما بعد الحداثة إذا تدل على الدخول في عهد ثقافي جديد، بمقدار ما تدل على اضطراب العلاقات المقاومة مع المكان. فالأزمنة الاجتماعية، تنقسم وتتنوع حسب الأوضاع المتحركة التي تعمل فيها، وتتكون في حالة من الميوعة، إذ لا زمان من بينها يفرض هيمنته ويجلب استمراراً نسبياً، فما نعيشه هو زمن اللاستقرار، الأمر الذي يسهم في تقوية وبلورة وعي يتأسس على الفوري واللحظي رافضاً الأزمنة الماضية، وهازئاً بأزمنة المستقبل. أما بالنسبة لعلاقة ما بعد الحداثة بالمكان، فيجب أن ينظر إليها من أوجه ثلاثة في ما يخص آثارها الأكثر دلالة: إزالة التوصيف وإزالة التحقيق وتحويره إلى وجود ضمني افتراضي، وخلق التبعثر، وبذلك يتحقق المجتمع ما بعد الحداثي باعتباره مجتمع كل مكان، فالفوري يحل محل الدوام أو المرجأ، وتصبح أماكن البشر بما تحتويه من محسوس، من حياة مشتركة مندمجة، تغدو تافهة ببلوغها الواقع الشاشاتي (شاشة التلفزيون أو الكومبيوتر) أما الاتصال اللفظي فإنه يصاب في عالم ما بعد الحداثة، بما بشبه فقر الدم من تشوه وتحوير، فالآلات تنقل الكلمات أو بالأحرى تتلفظ بها، ويضربها الاتصال التجاري في معظم الأحيان كي ينتج المفاعيل الإعلانية، ويمحي النطق الصحيح أو الحق.

إنها أزمة الكلام بفعل واقع مفارق من حيث الظاهر، واقع يراوح بين أن يكون أكثر مما ينبغي أو يكون دون الكفاية، وهذه الأزمة ستنتج لدينا إفقار الذاكرة وإعادة تكييف زماننا ومكاننا وفقاً لما تبتغي هي وترغب لا وفقاً لما نطلب نحن.

ولكن، كيف سيصبح موقع العقل في هذا العالم الجديد؟ سيما وأن ما بعد الحداثة لا يكف عن الاستخفاف به والتهكم من وظائفه، هنا يرى بالاندييه أن العقل لن يجد نفسه داخل مجابهة بسيطة وواضحة، بل سيدخل معركة تبحث دون مواربة عن استبعاد الأسطورة واستئصال الأشياء الغامضة، وهو لذلك يفقد وحدته في الوقت نفسه الذي يفقد فيه ثقته، ولا يمنحه ملجأه المفضل (العلم) شاغلاً تاماً واستثنائياً، إذ لم يعد يوجد حصانة سياسية علمية، فالعلم أصبح هو ذاته أسطورة مكتومة، ومنطوياً على أشكال منطق هجينة، كما لاحظ ذلك كاسيرر سابقاً بأن الفكر الأسطوري والفكر العقلي يتناميان على مستويين مختلفين، إلا أن الفكر الأسطوري يستمر في أن يتواجد داخل الفكر العقلي ويحدد فيه، لذلك ستنشأ رغبات وانفعالات وغرائز واستيهامات من نوع جديد لا تقوم على ثنائية الجسد والروح بقدر ما تتبع للتوسطات الأدواتية والرواميز والخيال الاتصالي.

وإذا كان بالاندييه أقرب إلى وصف مجتمع ما بعد الحداثة على أنه مجتمع أقل انسانية وأكثر بعداً عنها، فإن ذلك ما دعاه في الخاتمة إلى التوصل إلى أن هذا المجتمع هو نهاية القيم، التي لن يكون لها أي صفة معيارية أو حتى اعتبارية، إنه مجتمع يؤسس لقيمه التي ينتجها ويتعامل معها وفقاً لظرفها القابل للتحول باستمرار، وبالتالي فإن هذه القيم أيضاً – إذا ما بقيت هذه التسمية منطبقة – عليها ستظل عرضة للتغيير والإمحاء.

آفاق ما بعد الحداثة

قراءة في فيلم "دافنشي كود"(6)

إن طرح الفكر الحداثي في الفيلم وعرض تخيلات أو اجتهادات أدبية تخرج على المألوف أو المتعارف عليه اجتماعيا وثقافيا، لم يتبنَّ اعتراضا أو هجوما، بقدر ما أريد منه تحويل الانتباه عن خلفيات الشواغر العقلية في الفكر الديني، تسبب فيه هذا الفراغ الدعوة الدائمة إلى المساءلة الفكرية والاعتقادية، فهو يشكل توجهات إعلامية بأداة فنية معاصرة، ترفض الخلاصة الفكرية التي بُني عليها الأساس الاعتقادي للدين المسيحي الأكثر انتشارا في الغرب، ولكنها لا تنكر الوقائع ولا المسميات، وإنما تجهد في العثور على تأويلات جديدة لها بغية حمايتها من تأثيرات تلك المساءلة، لا سيما مع التعميم والتأكيد المتواصل لثقافة العولمة الذي يفتح آفاقا جديدة للبحث والمعرفة وحرية التعبير.

لذلك وإن كان الفيلم مناقضاً للأفكار المسيحية في صلب بنائها، إلا أنه لم يطرح الاعتقاد الخاطىء لتلك المسميات والوقائع.

 الكنيسة لم تتجه إلى العنف بل إلى التوجيه نحو مظاهر احتفالية أخرى، على أساس تجاهلها ما عرض، وتكثيف حملتها بإتجاه آخر يختطف الأنظار، وهي الرسالة الأخرى الموجهة بوضوح. في حين لم يتم الاعتراض أو الهجوم على أفلام تم عرضها سابقا، تتناول حياة المسيح عليه السلام بشكل فاضح أكثر مما تناوله "دافنشي كود" أو فك رموز لوحة الرسام دافنشي.

الفيلم مركب بشكل يستحضر لقطات وأجزاء مبعثرة، لتجميعها وإشغال عقل المشاهد في قضية تعتبر مبدئية في الفكر المسيحي، قضية الحلول والاتحاد وتفسيراتها الجديدة، لكن الأمر حُسم في القرآن الكريم، أن لا إله إلا الله وأن المسيح عليه السلام هو نبيه المرسل لجماعة بني اسرائيل الضالين.

شطح بالروائي التخيل الأدبي إلى استبدال لوحة الرسام دافنشي بأخرى ليست الأصلية. فلوحة دافنشي تواجدت بها الكؤوس المسماة "مقدسة"، فأطلق رؤية أخرى مخالفة تماما للوحة من جهة، وفكك رموزا ابتدعها ووظّفها في حضور مريم المجدلية في العشاء الأخير، وهذا يُعتبر خرقاً واضحاً وتناقضاً مع مفهوم واعتقاد مسيحي بألوهية المسيح عليه السلام. وهنا يجدر أن يستقرأ المشاهد فكر الروائي، فإما أنه يبحث عن حقيقة لم ترد في الكتب، بأن المسيح اقترن بمريم المجدلية، وأنه بشر كباقي بني الإنسان، وإما أنه يبتدع فكرة لإثبات هذا وتوظيفه لما يريد قوله، وكلا التوجهين، يعتبر غير مناقض لحقيقة أن المسيح هو بشر، وُلد من رحم مريم العذراء. الرحم الذي اعتبره الروائي – في مغالطة جديدة وقع بها- يحمل دماء ألوهية، ورمز له بالكأس "المقدس"!.

إن تجسيد المفهوم المسيحي لعقيدة الثالوث المقدس بطريقة جديدة هو الأمر الجلي في عرض فكر الروائي، وهذا ما أظهره في لقطة أخيرة بالفيلم، عند إشارته إلى وجود كائن مقدس تحت السماء والنجوم تمثله الوردة أو النجمة الخماسية، التي تمثل المرأة والرجل معا امتدادا لدم منحمها الله إياه.

غير أن الفيلم أقر بأن الله هو الخالق الواحد للبشر، وهذا المنطق لا يتعارض مع الإيمان في أي عصر، إلا أنه يدخل في إشكاليات أخرى لا تتفق مع العقائد الإيمانية التي تتبرأ من عقائد توحد وحلول الذات الآلهية بذات مخلوقة. الأمر الذي يتعارض كذلك مع الأحكام العقلية السليمة، فيقوم الروائي بالحديث عن دم مقدس يجري في عروق الإنسان، وأنه مزيج بين الهالة النورانية وبين الحياة الترابية الدونية. فالحبل السري كما يصوره استمرارية لعلاقة الحلول، وأن اكتشاف الإيمان في الأعماق يكون من خلال تلك النفحة الروحانية وارتباط "الرجل والمرأة" بعلاقة حسية جسدية وعلاقتهما بالله في مجتمع يؤمن بالتوحد المطلق كما يشير إليه الروائي، وهذا بيت قصيد رئيس حسب قراءتي للفيلم.

لكن الميثلوجيا اليهودية، تبدو متجذرة بفكر الروائي، وأن العلاقة الجسدية بين المسيح ومريم المجدلية، مبرر دافعه تجسيد توبة الخطاءيين باقترانها بالمسيح عليه السلام، وتأكيد علاقة الثالوث المقدس في إطار جنسي وحسي.

 جنح الروائي مرات عدة في عرض فكره إلى آفاق جديدة ما بعد الحداثة، فعرض تعذيب الجسد لتطهير الروح، أسوة بعذاب المسيح، لكنها جاءت باهتة وغير منطقية. فالمسيح لم يكن سادياً، والإيذاء الجسدي مارسه اليهود للتنكيل به وبأتباعه، واعتبروه خارجاً عن عُرف الضلال والاضطهاد للشعب. بل وتحالف أحبارهم مع الحاكم البيزنطي ضد الشعب بتحصيل الجباية وإرهاقه بالضرائب، مقابل التغاضي عن تعذيب اليهود للمسيح والقضاء على تعاليم المحبة والسلام.

كنهاية للقراءة، يبقى الاختلاف في تفكيك رموز الفيلم متروكاً للمشاهد ووعيه وقدرته في البحث عن ماهية الإيمان الحقيقي، والولوج بعصر التنوير بأسس وأخلاقيات لا تهدم العلاقة البشرية مع الخالق، إنما تبني الحكم الصحيح الموافق للعقول المفكرة السليمة.

الحداثة وما بعد الحداثة في العمارة(7)

من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن – عفيف البهنسي – دار الكتاب العربي- دمشق-ط1-1997-ص105-111.

* الحداثة والثورة المعمارية:

عند الحديث عن العمارة الحديثة فإن المناخ الذي يجب أن نتحدث فيه هو المناخ الثوري الذي يهدف إلى تغيير مفهوم العمارة تغييرا شاملا، والعمارة (القبلية) أي التي انتشرت زمنا طويلا قبل الحداثة – منذ العمارة الإغريقية مرورا بعصر النهضة وحتى الكلاسيكية المحدثة – هذه العمارة قد استوعبت مبدأين أساسيين، المبدأ الأول هو النموذج الأصلي ARCHETYPE والمبدأ الثاني الصورة المتكاملة (الغشتالت GESTALT) .

وتتجلى العمارة حسب شولتز في محاولة التأويل أو الربط والتركيب، أو ما يسمى بالتأليف، " وهكذا فإن النموذج الأصلي كصورة كلية متكاملة (غشتالت )، يكشف عن طريقة أساسية للوجود بين الأرض والسماء " وهذا التأليف يحقق بالتالي وظيفة البناء المطروحة ضمن زمان ومكان محددين. ولكن العمارة بدت جامدة عند حدود النموذج الأصلي المكرور في عمارة عصر النهضة والكلاسيكية المحدثة التي قادتها مدرسة الفنون الجميلة بباريس.

منذ نهاية القرن الماضي حاول سوليفان إنقاذ العمارة من الشكل الثابت المكرر وربطها بالوظيفة، بمعنى أنه ليس من شكل ثابت للعمارة طالما أنه ليس من وظيفة واحدة للعمارة. ولقد تابع المعماريون الأمريكيون والألمان هذا المبدأ، وكان ميس فان در روه VAN DER ROHE المعماري الألماني (1886-1969) قد استخلص من هذا المبدأ " إن على العمارة أن تخضع للحياة وأن تخدمها، وليس عليها أن تفرض فرضا على الإنسان والمجتمع" وكانت بداية الحداثة.

وتعني هذه الآراء تحولا كاملا عن العمارة السابقة، بل رفضا لجميع مقوماتها الثابتة والمفروضة على الإنسان والمدينة والحضارة، ولهذا كانت دعوة للثورة التي تحققت فعلا وبسرعة خارقة، بفضل مفاهيم العصر الجديد، عصر الليبرالية والتقنيات وعصر المعدن والزجاج والكهرباء.

ولقد رفض غروبيوس GRPIUS زعيم مدرسة الباوهاوس والحداثة المعمارية فكرة النموذج الأصلي والطراز وقال:" لا بد أن نقطع كل صلة مع الماضي حتى يتسنى لنا تصور عمارة تنسجم مع عصر التقنيات "، وهكذا ظهرت العمارة التي تنسجم مع عالم موحد في صناعته واكتشافاته ، وكان بناء الحديد والفولاذ مظهرا مميزا لهذه العمارة التي أطلق عليها اسم العالمية.

لقد تجلت روعة الحداثة المعمارية في المعرض الذى أقيم في أكاديمية الفنون الملكية بلندن سنة 1986 تحت عنوان " تراث الحداثة "، بمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على ولادة لوكوربوزييه LE CORBUSIER المعماري الفرنسي السويسري (1887-1965). وفي هذا المعرض عرضت نماذج لثلاثة من رواد الحداثة هم: نورمان فرستر FOSTER مصمم عمارة بنك هونغ كونغ الذي وصل الذروة في استغلال التقنيات الحديثة. وريتشارد روجر ROGERS المشارك مع بيانو PIANO في تصميم بناء مركز بومبيدو في باريس، وجيمس سترلينغ STIRLING مصمم متحف شتات غاليرى في شتوتغارت – ألمانيا.

*  نقد الحداثة المعمارية :

لقد انفصلت الحداثة المعمارية نهائيا عن لغة العمارة ، هذه اللغة التاريخية التي عبرت عن الإنسان الذى أنشأ العمارة من أجله. وبقيت عمارة الحداثة بدون لغة وبدون هوية" لأن اللغة هي المعبر عن الهوية " كما يقول هيدغر الفيلسوف الألماني، وليس بإمكاننا اعتماد عمارة لاهوية لها ولا تساعد الإنسان على العيش في بيئته التاريخية والاجتماعية. لقد كانت العمارة تعبر عن مفهوم قومي، ثم أصبحت اعتباطية فاقدة الشخصية، فالعمارة كما يقول هيدغر هي" بيت الوجود "." الزاين".

ومع أن العمارة هي خلية عمرانية، فإنها أصبحت في عالم الحداثة بعيدة عن شروطها التي تحدثنا عنها " اللقاء والتوافق والسكينة ".

لقد تجاهلت عمارة الحداثة هوية التشخيص FIGURAL IDAN TITY إذ أصبحت الأشكال كما يقول فان در روه ، نتيجة عملية التصميم والابتكار.

إن إهمال لغة الذاكرة التاريخية في الحداثة المعمارية، دفع المعمار إلى التعويض عن التاريخ بالحوافز الصناعية، فأصبحت الحداثة مجرد هواية ومغامرة اعتباطية.

* ما بعد الحداثة المعمارية:

لم يكن جنكز أول من أعلن عن نهاية الحداثة ، ولكن كتابه " عمارة ما بعد الحداثة " حدد تاريخ نهايتها معلنا عن قيام عمارة ما بعد الحداثة. وعلى الرغم من معارضة كثير من المعماريين لفكرة نهاية الحداثة، فإن دعوة جنكز قد لامست عواطف الناس الذين باتوا يبحثون – دون جدوى- عن ذواتهم الثقافية من خلال العمارة. ولقد أسهم ستيرلينغ قليلا في دعم هذه الدعوى وحدد مفهوم ما بعد الحداثة بقوله، " نستطيع التطلع إلى الوراء حيث تاريخ العمارة لنجعله خلفية لنا "ولكن قوله هذا لا يصل إلى حدود رفض الحداثة، بل إلى الاتفاق معها وذلك عن طريق استعمال عناصر " موتيفات " من العمارة القديمة.

لقد استعمل اصطلاح " ما بعد الحداثة " لأول مرة سنة 1934 للدلالة على مظاهر رد الفعل ضد الحداثة، ثم استعملها المؤرخ توينبي سنة 1938 للإشارة إلى العولمة والتعددية الثقافية التي لابد من ظهورها حسب طبيعة الدور التاريخي. ثم تكاثر عدد الكتاب الذين تحدثوا عن بعد الحداثة، واختلفت آراؤهم، حتى ظهر جنكز محاولا تحديد معنى ما بعد الحداثة منتقدا ما كتبه أيهاب حسن وليوتارد LYOTARD حول اسم ما بعد الحداثة من أنه استمرار لاسم الحداثة مع التعالي عليها. ويعرف جنكز عمارة ما بعد الحداثة " إنها تتجه نحو أسلوب البناء التقليدي لخلق تواصل بين العمارة والجمهور العام والنخبة المهتمة بموضوع العمارة ".

وهكذا فإن عمارة ما بعد الحداثة تجمع بين القديم والحديث، وبمعنى آخر فإن هذا الاتجاه لا يمكن أن يكون مجرد إحياء للقديم، لأن عالم التقنيات معاش على أوسع نطاق. ولكن من القديم نستطيع أن نحقق خيارات متعددة،هذه التعددية PLURALITYهي من ميزات عمارة ما بعد الحداثة التي تجعلها متجددة، متنوعة حسب الثقافات الذوقية.

لم يقتصر موضوع بعد الحداثة على العمارة فقط عند جنكز، بل تعداه للحديث عن عمران بعد الحداثة URBANISM بخاصة في منطقة عمارة بعد الحداثة، ويتحدث في ذلك عن ثلاثة شواهد تحقق فيها عمران بعد الحداثة خلال الثمانينات، نفذها ستيرلينغ في جامعة كورنيل، وكوروكاوا الياباني في متحف هيروشيما، وبيريدوك PREDOCK في مركز الفن الحديث في جامعة ولاية أريزونا.

وتتمثل عمارة ما بعد الحداثة في اتجاهين رئيسيين يمثلهما ستيرلنغ STIRLING وكرير KRIER فالأول نراه يستخدم الأشكال البسيطة التقليدية والكلاسيكية، ويضمنها أحيانا إفريزا مصريا، ويستفيد من المعابد الإغريقية مثل البارثنون ويستعير من الفن الأندلسي الأقواس المفصصة مع تحريفات تفرضها المواد الحديثة مثل الإسمنت المسلح والتقنيات.

مسرح ما بعد الحداثة

مأزق الصورة المرئية.. مأزق التقنيات الرقمية(8)

واذا كان مسرح الحداثة قد اطلق «مسرح العبث» فان مسرح ما بعد الحداثة قد اطلق فيما اطلقه من القذائف الموجهة: «مسرح الهيستيريا الانطولوجي» الذي اسسه ريتشارد فورمان في بلاد «العم سام» وغايته مسرحة عمليات التفكير في مجموعة من الصور عالية التعقيد لانتاج مسرح تجريدي يقوم المشاهد فيه بممارسة الاستغراق الذهني وسط هيستريا انطولوجية تطلقها الصور المتلاحقة بينما الممثلون خلف براويظ كمجرد متحدثين لايصال الافكار!

مسرحي مابعد حداثي آخر «لي بروير» يستأنس بتقنية الرسوم المتحركة، رسوم تنجزا اجساد الممثلين عن الحياة العاطفية للحصان! هاهنا تتم أنسنة الحصان واتمتة الانسان في عالم يحتج على اكل الكوريين للحم الكلاب ويسكت عن اكلة لحوم البشر!

ويكتب «روبرت ويلسون» نصا ما بعد حداثي خاليا من اي بناء سردي مفتقدا الى اية نقطة يمكن اعتبارها بداية او نهاية فعلا او رد فعل، شيئا من خطاب مكتوب او شفوي على الرغم من عنوان نصه «خطاب الى الملكة فيكتوريا» حيث يعتبره المولف عملا اوبراليا! بالرغم من عدم وجود غناء فيه حيث يبدأ العرض وينتهي بالصراخ وبكلمات مبهمة واصوات حوافر خيل وصفير قطارات ودوي قنابل تتخللها صور مرئية من الجرائد والتلفزيون والسينما واصوات رقمية من مقتطفات تعليقات اذاعية.

تلك هي امثلة من بين اطنان الامثلة لم اقل: آلاف الامثلة لاني اقيس الصورة بالطن كما يقيسون نجاح اي حرب باطنان القنابل! اما مصطلح «المسرح التجريبي» الذي نتبناه عربا فهو مصطلح خلبي حيث الحياة الانسانية نفسها تجريب وتجربة والمسرح نفسه منذ ولادته فعل ابداعي تجريبي دائم ومثل ذلك مصطلح «المسرح الطليعي» الذي يحصر الطليعية في مسرح الحداثة الغربي وتبنيناه نحن آليا كما نتبنى كل اشكال الاستيراد: من ابرة الخياطة الى المصطلحات! الم يكن كراكوزوعيواظ طليعيا في زمانه شكسبير ايضا ابسن، تشيخوف، موليير، بريخت، وآخرين.. كل بما قدمه من ارتقاء وتجاوز للسائد في عصره؟!

...................................................

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

 2- رضوان جودت/ موقع الطريق

 3- تيسير الناشف/ الجامعة الاردنية

 4- فريدريك جيمسون، ترجمة: عابد اسماعيل (شاعر واكاديمي من سوريا)/مجلة نزوى

 5- شبكة النبأ المعلوماتية

 6- سوسن البرغوتي/ المبدعون العرب

 7- عفيف البهنسي/  موقع شرفات

 8- نجم الدين سمان / جريدة البيان الاماراتية

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 11 نيسان/2007 -20/ربيع الاول/1428