الرؤية الإسلامية ونمطية الاقتصاد العراقي

كتب: عدنان عباس سلطان 

 شبكة النبأ: يجري الحديث هنا عن رؤية إسلامية، لم تتم تجربتها في أي زمن، عدا الفترة التي كانت على عهد الإسلام الاول، والتي كانت محدودة جدا، لم تتخذ  طابع الشمول كقانون ملزم للجميع، الا من لهم تماس مباشر من المؤمنين في ذلك العهد، ويمكن استخلاص تلك الرؤية من السيرة النبوية الشريفة كتطبيق.

وخلاصة الرؤية الاقتصادية الإسلامية، يكون اساسها الاول الذي ينبثق منه البنيان التالي:

هو اعتماد الفرد والجماعة في آن واحد كركيزتين متوازنتين، وذلك لان هاتين الركيزتين قابلتين ان يدخلا في عبائتهما أي منهما، ومن ثم هضمه وغبن حقه في الحياة الكريمة، ولابد والحالة هذه من ان تتواجد القوانين لحماية كل طرف من الآخر.

 وقطعا يكون ذلك وفق الشارع في القرآن كأساس، والميدان كمحتوى للتطبيق.

فلا يطغي الفرد على ما للمجموع من حقوق، ولا يطغي المجموع على الفرد وماله من حق في الحياة، والعيش الذي يضمن له انسانيته بكرامة، ورؤية مثل هذه تعتبر ان الملك لله وحده، ولابد ان تتماشى كل الفعاليات وفق هذه  الحقيقة، فليس هناك قداسة للملكية الخاصة، الا بحدود ضيقة، لا تؤثر عمليا ولا تفاعليا على النمط العام.

فالحكومة هي المخول الوحيد في ادارة نعم الله سبحانه وتعالى على خلائقه، ضمن الحد الجغرافي كالاقليم او الدولة التي تحت تصرفها واشرافها، ووفق ما يمليه عليها الوضع الاقتصادي والحاجة والتطوير.

وعلى هذا فان القطاع العام يملك الارض وما تحتها وما فوقها، وهو الذي يحدد سقوف الاستثمارات والاسعار، والاشراف على الزمن الذي يستغرقه استغلال المنشأ الانتاجي، سواء كان زراعيا او صناعيا، في حين يتولى الضمان العام، الضمان الاجتماعي، الضمان الصناعي، الضمان الزراعي كذلك ضمان الخدمات، بدرجات محددة، بحيث تساعد على التنمية والتجديد، كذلك تدعم التعليم باعتباره تدريبا وتاهيلا يكون على عاتق الدولة، ويشمل الدعم الصحة.

ماعرضناه في هذا الاختصار يتعارض تماما مع الاقتصاد الراسمالي، الذي يعتبر كيان الدولة فيه مجرد حامي لكيان الفرد ، وصيانة لحريته اللامحدودة في استغلال الآخرين، وبأي اسلوب يراه هذا الفرد مناسبا، والصعود بسقف ثروته الى ما لانهاية. ولا يقوم نظام الحكم بالدعم او الضمان باي شكل من الاشكال، وهنا تكمن معركة الوحوش النقدية في التهام بعضها البعض، وتنطلق هائمة وراء الفرائس اينما وجدت في ارض الله.

في العراق لم يؤسس للنظام الراسمالي من البنى او هياكل او أي شكل آخر محدد يمكن الاستناد اليه، كذلك لم تجر اية ممارسة اقتصادية له، عدا منشآت قليلة.

وضئيلة الفاعلية، وهي معامل متواضعة كالنسيج، وما شابه من صناعات بسيطة لم تصل الى مستوى راس المال المهيمن، في حين انعدم الاستثمار الزراعي الذي كان يدار بأساليب بدائية وطرق متخلفة بعيدا عن المكننة او التخطيط، أي بمعنى ان الجانب الزراعي قد خلا من الانموذج الراسمالي فيما عدا النمطية الاقطاعية السائدة قبل ثورة عبد الكريم قاسم.

ومنذ عام 1958 وحتى اواسط الحكم الدكتاتوري وعبر النضال الطويل للاحزاب السياسية والدينية، كانت الساحة العراقية قد امتلات بقناعات اشتراكية، كطريق للخلاص من التخلف بشتى اشكاله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فضلا عن التخلف السياسي، وقد تجذرت ايديولوجيتها في العقل الاجتماعي، سواء لدى النخب او في الاوساط الشعبية والتجمعات المهنية، وقد التقت الاحزاب الدينية مع المفهوم الاشتراكي بالنقاط الرئيسية والمهمة، باعتبارها اقرب الى الخط الديني العام، الذي لا تختلف عنه الا في المسائل الفلسفية، وبالحدود التي لا تمس النتائج الكبرى، ومسالة خلاص الانسان من العبودية والاستغلال والاستبداد.

وقد اجبرت تلك القناعات العامة جميع الانظمة المتعاقبة، وكانت سببا لتاسيس اغلب الهيكليات الاقتصادية التي لها طابع الملك العام .

استجابة للضغوط التي مارسها التوجه الاجتماعي والثقافي، وقد حذت السلطة الصدامية حذو من سبقها في تمويه الهيكليات بالصبغة الاشتراكية، وان لم يجر تفعيلها واقعيا الا بحدود ضيقة ولفترات قصيرة، ومن ثم وجهتها لخدمة وتقوية ركائز النظام واحكام السلطة، مثل التصنيع العسكري وكان ذلك اسقاطا لهويتها حتى بالنسبة لمن خدعوا، وساروا على موالها النظري الذي كان زائفا.

ولعل هذا السقوط كان واضحا جدا ابان الحرب الايرانية العراقية، تلك الحرب التي شكلت مسوغا كبيرا لتثبيت دعائم السلطة، كما اتاحت للدولة ان تبيع قسما كبيرا من البنى والشركات والمعامل والاراضي الزراعية والصناعية، لمن كانوا يسيرون وفق هوى عجلة النظام، ليتحكموا بسيف من نار باقتصاديات البلاد.

ولدينا الآن كثير من هذه المعامل التي تعمل في الانتاج وفق طريقتها الرديئة، في حين ظلت بعض الهيكليات قائمة بلا عمل، سوى كونها شعارا واهيا لحلم الاشتراكية الميت، والذي كان ولا يزال في الذهن الاجتماعي، كأحد المنافذ القوية للخلاص من الفقر والمرض والجوع، والذي اسس له على مستويات، تكاد ان تكون شاملة في جميع انحاء البلاد، بحيث ان المواطن مهما كانت درجته الثقافية، يرى لا شعوريا بان الدولة هي صاحبة الدعم اولا وآخرا ، وبكل الظروف، وهذا القول انما يعني نزوعا سايكولوجيا في تقبل فكرة القطاع العام، والاقتناع به كشئ مسلم به بصورة طبيعية، بكونه راعيا لسواد المجتمع.

اما اليوم ووسط اللجة المتلاطمة عن الخصخصة وتحكيم راس المال كنهج اقتصادي بين مؤيد ومعارض ، لم تطرح مسالة الرؤية الاقتصادية الاسلامية ، وكأن لا وجود لها على نطاق البحوث او التنظيرات الايديولوجية .

يقودنا تسلسل الحديث الى السؤال عن البنى، التي يمكن ان يستفيد منها الاقتصاد الإسلامي في العراق، كما لم يجر الحديث عن النمطية التي ارتكز عليها الاقتصاد العراقي او ما حضر له من البنى والهيكليات التحتية والفوقية، وشمل الامر القطاع الخاص واساليبه المذوبة في مفهوم اشتراكي في ان يتصرف بما ينسجم مع تلك النمطية، باعتباره مع البرنامج الوطني، معضدا في الاستثمار والتنمية المرحلية، وكعامل مساعد لعموم الانماء، وفق الخطة العامة للبلاد.

ويستطيع النظام الاسلامي ان يعالج الاوضاع المتردية، بما لا يستطيعه أي نظام آخر ، فالنظام الراسمالي او حتى الاشتراكي لن يكون بمقدوره النهوض بالحالة المتردية في العراق.

كون النظام الاول ليس معنيا باي شكل من اشكال التنمية او الضمان، وهو بالمحصلة يهئ للنكوص المعرفي والاخلاقي،  نتيجة للعلاقات الاقتصادية، ودورة الربح الغاشمة، التي ستعصف بخلائق الله، وتقضي على كل عرف انساني كما هو شانها في بقاع العالم المترامية، هذا فضلا عن كونها لا تضمن أي تطور يذكر للقطاع الوطني،  حيث سيكون هذا القطاع لقمة سائغة بين اسنان الوحش الكبير، المتمثل براس المال الاضخم، وغالبا ياتي من وراء البحار، ويمتلك كل المواصفات التكنولوجية والمعلوماتية، التي تخوله الانفراد بالغنيمة، وبهذا نكون قد استبدلنا بشركات عملاقة وحولنا الناس الى خراف سمان.

اما النظام الاشتراكي فهو يؤدي الى أنشاء دولة يحكمها جبار من الجبابرة، وهذا جلي من تجارب الشعوب، التي خاضت غمار تلك التجربة المريرة، وادت الى بزوغ طبقة جديدة من سلاطين السياسة، والموظفين المؤدلجين من الطبقة الحاكمة.

ولا يكن الامر سوى كون النظريات قد استبدلت اثرياء قدامى بلا عقائد ولا فلسفة ولا مبادئ، باثرياء جدد، نظروا بإمعان، وخاطوا البساط بخيوط رفيعة، فلسفتهم الوحيدة العوم في دماء الشعوب.

وبكثير من الاسف لم يتطرق احد من مفكرينا الاختصاصيين، الى فكرة طرح الاقتصاد الاسلامي، كبديل للاقتصاديات المتصارعة، التي لا تخدم الحالة العراقية لا من قريب ولا من بعيد، ولعل المحاولات التي قام بها علماؤنا الافاضل، هي الوحيدة في هذا المجال والتي كانت للمفكر الكبير محمد باقر الصدر في رائعته (اقتصادنا)، كذلك للمفكر الكبير الامام الشيرازي الراحل عبر الدرّة الفكرية( فقه الاقتصاد)، لكنها ظلت مجرد محاولات، عزف  جميع اهل الاختصاص،  عن مناقشتها او استثمارها او التعقيب عليها، ويبدو من هذا العزوف ان هذه النقطة بالذات كانت على الدوام تمثل للمفكر الاقتصادي، حفرة خطرة هولتها الانظمة المستبدة، وصبغتها بصبغة حمراء، وظلت في اللاشعور كشئ نافر ومخيف، اضافة لما فرضته الهيمنة العالمية بيدها الطولى، وتفردها على الساحة الدولية.

ونهاية للكلام فان ذوي الخبرة والمختصين في المجال الاقتصادي مدعوون الآن ليدلوا بدلوهم،  لطرح هذا الموضوع المهم، على ساحة البحث والتنظير، كونه البديل الاستراتيجي،  للخلاص من التبعية والتعسف، ونحو تطوير نظرية اقتصادية اسلامية فاعلة للحالة العراقية المتردية، والامة الاسلامية بشكل عام.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 4 نيسان/2007 -13/ربيع الاول/1428