مناوشة بحرانية لفقهاء ربيع الثقافة  في يوم صيف ساخن

كريم المحروس

 مجالسة "الشيّاب" البحرانيين والاستماع إلى أحاديثهم المتبادلة في ذروة أيام حرب حزيران كانت تبعث على شعور نفسي وجداني ممتع جدا يندر أن يجد المرء مثيلا له صدقا وعدلا وتعبيرا عن الثقافة المحلية في أيامنا المكفهرة هذه التي اختلط فيها الحابل بالنابل وتضاربت فيها الفكر والثقافة وألفاظهما ومفاهيمهما واضطربت علاقة الكلمة بالمعني، حتى لم يعد أحدنا يميز في مجالس اليوم المراد من أهم أعمدة الأحاديث المتداولة: الفكر، الثقافة، المعرفة، العلم، التي طالما تراود محافلنا الرسمية والشعبية.

يقول أحد "شيّاب" الستينات: كان المتلفظ من شبابنا بكلمتي "طبعا" و" آخير" أثناء تداول التقارير الخبرية لحرب حزيران وما بعدها - يضعه جلساؤها في دائرة المثقفين بلا حرج بينهم في ذلك مطلقا. وأما الشاب المتلفظ بكلمتي "شاهدنه" فيضعه جلساؤه في دائرة المتفقهين بلا أدنى حرج مطلقا. ثم لن تلبث أن تجد الموصوفين بـ" المثقف" و"المتفقه" وقد تحمسا بجد لجعل ذاتيهما مصداقا للوصفين "المثقف" و"المتفقه" من بعد اجتهاد علمي يصدر عنهما يؤهلهما لبلوغ الوصف، فيميل "المثقف" إلى جهة عمل ثقافي، وينحاز "المتفقه" إلى جهة عمل ديني، ثم تبرز مظاهر التمايز بينهما: بذلة وربطة عنق "نكتاي" ورأس شامخ، وعمامة أو "غترة" و"بشت" ومشية لا هون فيها ولا عجل، ثم لا يلتقيان مطلقا في محفل، وقد يتنافران عند كل لقاء مجلس إذا ما صادف وجودهما فيه!.

 وتفرض الإثارة نفسها بين حاضري مجالس "شيّاب" الستينات وتسود بينهم الدهشة في مثل هذا التحول الوظيفي السريع والتنافر والتباين بين رائدين شابين كانا من رواد مجالسهم.. فكم كانت مجالسهم منتجة وفاعلة وغير بطّالة !.. ثم كل العبرة تستخلص من خاتمة الأشياء والأشخاص. فلو بحثنا عن مناسبة جامعة بين المثقف والمتفقه منذ انصرافهما عن مجالس الستينات حتى مرحلتنا الزمنية الراهنة هذه فلن نجد أثرا لتلك المناسبة، لأن المتفقه في ذهن المثقف أصبح عبارة عن صورة داكنة للإنسان الحزبي المتزمت أو القاصر المتخلف الذي لا يعلم شيئا عن دوائر العلم والمعرفة المعاصرة، بينما أصبح المثقف في ذهن المتفقه عبارة عن صورة مشوشة للإنسان المضطرب الولاء والمقيد بأصفاد يومياته في دوائر اللهو أو الفسق أو الفجور أو الانحلال السياسي والتمرد الخلقي.

مثقف الستينات "يرطن" دائما بكلمات مفخّمة تُفتَّح أمامها الأفواه والعيون "على آخرها" تعجبا واستغرابا، وغالبا ما كانت أسعد ساعات هذا المثقف هي التي يقترب خلالها من أمي يصغي إليه، فـترى لسانه"يلعلع" ويعمد إلى التشدد في استخدام الكلمات الثقيلة حتى يحسبه الأمي "أنسان العصر" العظيم، ويحسب نفسه إلى جانب المثقف العملاق "الأنسان الأول" الذي بدأ للتو يتجرد من لغة الإشارة وحياة الكهوف. إلا أن حال الانعزال في مرحلة الستينات تظل ملازمة للمثقف لما للمحيط الاجتماعي من ضغوط تفرضها الثقافة العامة، بينما كان "متفقه" الستينات ذا شعبية كبيرة وود مستتبع للطاعة والخضوع، ويتحدث للناس بلغتهم حين يختلط معهم كأحدهم، لا يقبل تلقي الدعم المالي إلا في مقابل جهد يبذله ويتساوى معه، وأكله أكلهم، سكنه سكنهم بلا تفاوت، وترى الأبواب كلها مفتحة له، ولم يحدث يوما وأن تعاطى مع الناس بواسطة تعظيما لهم واحتراما..رحمكما الله يا سيد هاشم الطويل ويا شيخ أحمد مال الله.

في الستينات نجد في الفكر والثقافة بما تحملانه من خصائص حداثة علمية أمران متلازمان يحتكرهما سياسيو المنامة وبعض رواد القومية والشيوعية في القرى، ويعنى بـ"الفكر والثقافة" هنا النظريات والقواعد والقوانين المستخلصة من تفاعلات الحضارة الوافدة وصور تطبيقهما. وأما الفقه فكان حكرا على المتفقهين ويعنى بحكم الشارع في القضايا المبتلى بها في نظام الحياة على طريقتي الأخبارية أو الأصولية. ولم يعرف للـ"الثقافة" ولا للـ"الفكر" من صفة متداولة بين المتفقهين وكأنهما من الاستعمالات اللفظية الحديثة الرائجة بين "الأفندية". وبين ذلك يجتمع كلا الطرفين، المثقف والمتفقه، على لفظي "العلم والمعرفة"ويختلفان في المعنى المراد منهما.

في أيام البحرين هذه، أصبحت "الثقافة" رائجا مهما بين المثقفين والمتفقهين معا، ويندمج معناها بين كلمات ثلاث: الفكر، المعرفة، العلم. فقد يستخدم أحدهما الفكر أو المعرفة ويعني بها الثقافة والعكس صحيح عنده. ويرجع السبب في هذا الاندماج إلى دوافع المنطلق الفكري الأيدلوجي التي تحدد وترسم معنى الثقافة وتمهد الطريق لنموها في الوسط الاجتماعي. من هنا تعج محافل "الثقافة" عند الطرفين اليوم بهذا الاندماج والخلط بلا ضوابط لغة أو اصطلاح أو استعمال، ما يصعب على المراقب تمييز المراد بالثقافة والفكر في جهة، والعلم والمعرفة في جهة أخرى.

إن معنى ومؤدى "الثقافة" ربما يكون صريحا وواضحا متداولا بين المثقفين البحرانيين لأن أجهزة الدولة وضعت نفسها ممثلا ومدافعا عن هذا الشكل من الثقافة منذ نشوء الدولة البحرانية، ومازالت تبدي محاولات ضخمة للتعبير عنها من خلال أنشطة وزارة الإعلام، ويظهر "ربيع الثقافة" الذي كلف حوالى مليون دينار ويراد منه "تطوير" العلائق بين الثقافة البحرانية والثقافات الأخرى تجسيدا لتلك المحاولات. وكادت وزارة الإعلام في مرحلتنا الراهنة أن تنجح في تمثيل الثقافة وحصرها بين دوائرها ومؤسساتها بعد أن لمست استجابة كبيرة من قبل طائفة كبيرة من المثقفين البحرانيين لقلة ذات اليد وخشيتهم من سيادة التيار السياسي المناهض للصور الثقافية الحاكمة بين المثقفين التي تميل إلى اعتبار "العلم والمعرفة" وآثارهما الحضارية المصدر الأساسي لصناعة الثقافة البحرانية الحديثة المجردة من أثر السياسة ونزاع الأقطاب والتيارات.

واما "فكر" المتفقهين فمصادره ليست صناعة حديثة، وتعد حيوية وصريحة وواضحة بحكم قدمها ورواجها، ومحكمة جدا لا تقبل الجدل ولا يعتريها الخطأ أو التباين أو التناقض أو حتى الاختلاف، وتمثل الامتداد الثقافي السائد اليوم في البحرين، ولكن حركة "الفكر الديني" بين المتفقهين البحرانيين خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي لم يكن له من تأثير يذكر، وكان الفراق بينهما شاسعا. وأن ما نراه اليوم من مظاهر حشد شعبي هناك وهناك لا يمثل ثقافة دينية حديثة مميزة إنما هو نتاج سياسي صنعته مؤثرات خارجية لمتفقهين ومثقفين غير بحرانيين ولعبت فضائيات الثمانينات والتسعينات وتغطياتها السياسية الدور الأعظم في بناء هذا الحشد. ولذلك أصبح مجتمعنا مسيسا ومتقدما في وعيه ورؤاه ومواقفه السياسية على متفقهيه، ولولا المتبقيات من مظاهر ثقافة الستينات بين عامة الناس فضلا عن الوساطة الدينية المرجعية لما ركّب المتفقه السياسي البحراني على رأس التيار السياسي العام، ولكان من نصيبه المعاناة من هول أزمة العزلة التامة.

والى جانب ذلك، فشلت الدولة في صناعة ثقافة خاصة تمثل الاتجاه العام، لأن حكومتها قدمت مشروعها الأمني على أي متبنى رسمي آخر وهيئت إمكانيات الدولة لدعم هذا المشروع منذ أكثر من قرن، وكان لها بذل خاص موجه بعد عقد الثمانينات من خلال بعض الجمعيات الدينية لجعل المتبقي من الثقافة المحلية منسجما مع أدائها الرسمي، ولكن هذا البذل لم يأخذ طريقه إلى النجاح أيضا، وكان المعوق الأساس في ذلك اشتداد الأزمة الأمنية والسياسية واحتكار الزعامات الدينية تياراتها بما قدمته من مشروع سياسي حاول التعبير عن هم المواطن وغمه.

وإذا ما تتبعنا وقائع الخلاف حول "ربيع الثقافة" وفعالياته تبدي لنا أزمة الثقافة تباينا صريحا بين المتفقه، والمثقف الحر، والمثقف المؤيد رسميا، والدور الحكومي في تعزيز ثقافتها الخاصة تحت شعار " تطوير أواصر العلاقة مع الثقافات الأخرى"، بالرغم من التصريح المعتدل الذي يبديه المتفقهون بإزاء أكثر الفعاليات الثقافية لـ"ربيع الثقافة" وتشددهم بإزاء فعالية الشاعر البحراني قاسم حداد "مجنون ليلى".

إن الثقافة البحرانية عبارة عن نتاج فعلي للفكر السائد في المجتمع، وتتمثل بشكل واضح في السلوك العام الذي يمارسه المجتمع في مجريات حياته اليومية ويتوّجه في أفضل الأحوال ببعض مظاهر الإبداع التي باتت مضطربة الهوية في ظرفنا الراهن. وقد نحتفي بالثقافة فنعبر عنها ببعض المظاهر الفنية، ولا نقدر نسبة هذه المظاهر وفيما إذا كانت محلية بجد أم أجنبية ولا تمثل الثقافة المحلية كما هو المتصور عند المتفقهين. وتأتي هذه المظاهر الفنية في أسوء أحوالها بين الفريقين، المثقفين والمتفقهين، إلى الحد الذي يراها الكثير من المثقفين إبداعا وإن خالفت الذوق العام أو خالفت تعاليم وقيم الثقافة البحرانية العامة ولولا هذه المخالفة لما شهدت البلاد لونا من التمرد على عوامل الجمود الثقافي المحلي ولما كان هناك دافع لشحذ مولدات الثقافة. والى جانب ذلك يذهب المتفقه بالثقافة المحلية إلى حد احتكار مجد صناعتها، وإلى الحد الذي يرى في الفن الراهن مصنعا للشعائر الحكومية البديلة عن صور التقليد الثقافي الدارج.

وبين هذا وذاك، تظل الثقافة المحلية الشعبية والرسمية في حال من الجمود والاضطراب، وتبقى الساحة بحاجة إلى بعدين ضرورين لخلق ظروف صحية مساعدة على إنتاج الفكر المستقر القادر على صناعة الثقافة المحلية المبدعة:

البعد الأول: إن صناعة ثقافة محلية مستقرة ومبدعة بحاجة إلى استقرار سياسي منصف وعادل. ومن يعتقد بأنه قادر على الالتفاف على مشروع النظام السياسي العادل الذي يكفل للجميع حريته وكرامته ومن ثم صناعة ثقافة خاصة بديلة موازية لمشروع الالتفاف ومعززة له، فقد أخطأ الطريق، ويكفيه العلم بأن جزيرة البحرين لم تعرف الاستقرار السياسي منذ قرنين وكانت الأسباب كلها مرهونة بفكرة الفتح التاريخي للبحرين، وهي فكرة سُخّرت في سبيل تعزيزها في الوسط الثقافي العام كل إمكانيات الدولة وكان مآل هذه الفكرة الوفاة من بعد إخفاقها في ترك أي أثر ثقافي بين فئات المجتمع البحراني ولأن الثقافة المحلية رفضتها وأبت أن تدخلها في دائرة الفكر المولد لهذه الثقافة. 

البعد الثاني: إن التسيس لوحده قد يصنع ثقافة ولكنها على غير مولدات الفكر السائد في الوسط الاجتماعي العام، وغالبا ما تكرس السياسة ثقافة الانقلاب والإقصاء والعزل والتحطيم الاجتماعي بين متبنيها، ومن اليسر لهذه السياسة إيجاد مبررات لهذه الإثارات تحت غطاء المصلحة العامة وما أشبه. ومصداق ذلك يبدو جليا وواضحا بين تيارات العمل السياسي المتفقه على وجه أخص.

وإذا ما رجعنا إلى الواقع العملي ومعطيات "ربيع الثقافة" وردود الفعل المؤيدة والمعارضة، فإن الميول الرسمية لم تجد أي حرج مما قدمه مارسيل خليفة من عرض فاحش في المنكر، لأن من شأن مثل هذا العرض دعم وتعزيز ميول ثقافتها الخاصة المراد صناعتها وسيادتها في البلاد فضلا عن فرز الساحة الثقافية وجر المتفقهين والمثقفين معا الى اصطفاف في مواجهة مباشرة. وقد أبدت الميول الشعبية ممثلة في بعض أعضاء البرلمان وبعض شخصيات الجمعيات المتفقهة اعتراضها بازاء هذا العرض الثقافي لكن مثل هذا الموقف من "ربيع الثقافة" قد أحال الأذهان إلى مستوى الجمود الفكري والثقافي الذي يعانيه مجتمع البحرين بسبب غياب الاستقرار السياسي العادل فضلا عن القصور الكبير في الدور الثقافي الموجب للأداء من قبل الجمعيات والشخصيات الدينية المتفقهة نفسها.

وقد يمر "ربيع الثقافة" بسلام من بعد ظهور تهاون اثر مقارنات أجراها البعض مع معطيات وسائل الاعلام المحلي والمشاهد المخلة بالاداب التي تقدمها للمجتمع البحراني كل يوم. وقد يستمر الجدل حول الموسم الثقافي ويعاضد بجدل قانون الاحوال الشخصية الى يوم صيف ساخن قريب. فكل صيف لا يختلف عن آخر في البحرين حتى في أحوال الكهرباء وانقطاعها وإن أقيل الوزير أو خلفه آخر.  

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة 30 آذار/2007 -10/ربيع الاول/1428