الناقد بين النص والتراث

علي كاظم الخفاجي

 ان أيما محاولة تسعى لتأسيس مشروع إصلاحي أو تغييري يمكنه ان يطال البناء المعرفي للذهنية الإسلامية عموماً والعراقية على وجه الخصوص، لابد لها اولاً من تحديد موقفها النقدي إزاء جملة من العناصر المكونة للبنية الفكرية للمجتمع، أهمها (العقل، النص الديني، التراث).

في هذا السياق يقال ان الموقف من هذه العناصر هو الذي اوجد التفكك الاجتماعي والديني والفكري، حيث توزع المجتمع حيال هذه العناصر إلى عدة اتجاهات:

1. اتجاه مارس الخلط بين قداسة النص وقداسة التراث مما اوجب الجمود الفكري والعملي على انساق ومشاريع إصلاحية محددة، مهمشاً دور الإنسان "العقل" في صناعة المشروع التغييري.

2. وكرد فعل على الاتجاه الأول حاول أصحاب هذا الاتجاه نزع القداسة من النص والتراث معاً معتبراً القداسة هي المسؤول الأول عن التخلفات الحضارية التي رافقت تاريخنا المعاصر مانحاً " العقل الإنساني" دوراً اشمل.

3. اتجاه أخر مارس الوسطية في نزع القداسة عن التراث، وحفظها للنص الديني، وبالتالي إسناد الوظيفة النقدية والتحليلية للعنصر الأول من هذه العناصر على أساس ان العقل يشكل عند هؤلاء محوراً ادارياً وتفسيرياً للنص الديني والتراث.

السؤال ألان: كيف يمكن للناقد قراءة هذه العناصر وتجاوز الاشتباكات المفاهيمية فيما بينها ؟ وما هي آلية تعامله معهما بوصفه العنصر الثالث والمهم في المعادلة لحلحلة المشكل، والذي ربما يساهم في بعض الأحيان في تعقيده أكثر من حله ؟

للإجابة عن هذا التساؤل نقول: ان الإدراك الصحيح لعلاقة هذه العناصر بعضها بالبعض الآخر يشكل منطلقاً اولياً للتقارب الفكري بين مختلف التيارات الفاعلة في المجتمع، فعلى الناقد الإسلامي – كخطوة أولية في حل المشكل - مقاربة سؤاله النقدي للتراث بوسطية عقلانية مفاصلاً بينه وبين النص الديني فالخلط القراءاتي بينهما قد يبررالهجوم المضاد ليأخذ مدياته التحريضية اجتماعياً، فالاقتراب من النص المقدس يفاصل بين الناقد والمجتمع مما يجعل تجسير الهوة بين الطرفين متعسراً.

من هنا نجد ثمة ضرورة ملحة في خلق التمايزات في مراجعاتنا النقدية بين النص المقدس والتراث المحمل بالقداسة، لكونهما يشكلان نسيجاً متوحداً باللحاظ العرفي مع ملاحظة ان هذه التمايزات لم تبتنِِ على أساس اعتباري، فالثقافة الإسلامية عموماً والتراث الديني خصوصاً (لا تستطيع ان تكون مطلقة، تامة، ثابتة، كما هو حال النص المقدس"1"، ولا ان تكون تاريخية تماماً ايضاً، فالفهم الصادر عن غير المعصوم، هو فهم بشري قابل للتغير والنقاش العلمي، ولا يدعي احد مطابقة هذا الفهم مع حقيقة النص إلا في موارد قليلة تشكل ثابت النص نفسه، وبالتالي فان الثقافة الإسلامية هي حصيلة المسلكيات والذهنيات المعمول بها في فهم النص وقراءته من خلال التسليم بتعاليه واطلاقيته. نعم تكون هنالك ثوابت في هذه المسلكيات الذهنية غير قابلة للتحول، بيد ان هنالك شق كبير لا يحمل هذه الصفة )"2"

مع هذا فالذهنية العامة تعاملت مع التراث بقداسة منقطعة النظير، تلك القداسة التي مارست استبداداً وتسلطاً على الذهنية الإسلامية، مع ما لازمها من انعكاسات عملية على الواقع الاجتماعي، فالمهمة الأساسية الراهنة للناقد "بمختلف انتماءاته" توهين الترابطية المتأصلة بين الطرفين وحلحلتها، تمهيداً لتوجيه خطاباً تفكيكياً للمنظومة التراثية، مع الابتعاد عن القداسة النصية لما لها من حصانة نقدية، فالنص بطبيعته- كما نوهنا - متعالٍ عن الاختراقات النقدية حتى وان كانت القداسة مشتركة بين الناقد والنص.

فهي تمنع الناقد من ممارسة الفهم البشري في اقتراباته التفكيكية، وتتمانع في الوقت نفسه عن ممارسة الفوقية المعرفية للعقل الإنساني، وبالتالي فان ثمة ما يدعو الناقد الى الاشتغال على خلق تراث جديد "لمليء الفراغ الذي ينتجه الخطاب التفكيكي للتراث" من خلال إعادة الدرس التفسيري للنص ضمن السياقات المعمول بها مستعيناً بالتراث نفسه، فهو يشكل وعي الأجيال بالنص وعلى جيلنا الراهن ان يثبت جدارته الحضارية بتأسيسه وعياً تراثياً خاصاً به، يقوم بتعميق ايجابيات التراث ويعيد قراءته للعناصر المتحركة منه ليوائم واقعنا المتجدد مبتعداً عن القولبة الجاهزة، فلا يوجد لدينا ايما عقدة ضد التراث فعلاقتنا به ليست علاقة غائية أو تهميشية.

من هنا ينبغي التنويه ان الاشتغال الثقافي على إزالة القداسة عن المفردات التراثية لا يعني الغاءًَ للعلاقة بين القيادة بمختلف مستوياتها والقاعدة الشعبية التابعة لها، كما لا يعني الاشتغالات العشوائية المسيئة للتراث،  بقدر ما يعني ضبط المسافة الوظيفية بين الطرفين. 

وفي موازاة ذلك يمكن ان نمارس مع النص قراءة توليفية وتوفيقية لأجزاءه المتعددة ونتعامل معه كوحدة واحدة، منعاً من الفهم التجزيئي له، فعندما نقوم باستنطاق النص نتقبل منه حينئذ ما كان متوافقاً مع المبادئ الفطرية للإنسان ونعتبرها قاعدة أولية وثابتة وهي التي يتبناها "النّاص" في السياق الطبيعي للتعاملات الإنسانية الحياتية، اما أجزاؤه الأخرى التي تقع خارج هذا الإطار بحسب النظرة الظاهرية، فلابد ان تُدرس ضمن سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وان نرجعها إلى الأجزاء المتوافقة مع الفطرة وهذا ما يمكن ان اسميه بالقراءة الأخلاقية للنص وهو ما يفرض علينا فسح المجال امام "الناص" في ان يقوم بترجمة نصوصه بالطريقة التي يراها مناسبة، فلا نحمّل إسقاطاتنا الفكرية وقيمنا الاجتماعية وخصائصنا النفسية عليه لنخرج بمعنى يتوافق مع قناعاتنا القبلية، كي نبقي الباب مفتوحاً نحو مستقبل تأويلي ربما ستصل إليه الأجيال اللاحقة.

 فالقراءة الأخلاقية للنص تنتج كما أنتجت فيما سبق الخير الحضاري والقدرة على التعايش الديني والمذهبي بين مختلف الطوائف، دونما إضاعة ايما جهداً بشرياً في المحاججات العقيمة التي لا توصل الإنسانية إلى النتيجة المرجوة منها.

اخيراً ينبغي التنويه على ان هذا النهج في القراءة النصية ليس من مستحدثات العقل الراهن بل له امتداداً معرفياً في النسق التفسيري للنص القرآني، بل حتى في الفقه التقليدي الذي يترك "للنّاص" الفسحة الكافية لسحب تأويلاته على النص وان كان معارضةًََ له بحسب الظاهر مادامت محتملةً عرفاً وصولاً إلى تآلف نقدي لا يحاول تصيد التخلفات المعرفية في النص بقدر بحثه عن الترابطية  بين أجزاءه للوصول إلى أرضية مشتركة مع " الآخر ".

[email protected]

..........................................................

الهوامش:

1. ان الاطلاق والتمامية والثبات من حيث النزول لا من حيث الفهم والتفسير.

2.  خطاب الثقافة الإسلامية الهوية وثقافة السؤال نحو برهنة تواصلية، عباس المرشد، الوعي المعاصر، العدد 12، السنة الثالثة، خريف 2003، ص163.

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 29 آذار/2007 -9/ربيع الاول/1428