من أسمى غايات وضع الدساتير هي التأسيس للحفاظ على حقوق الأفراد
ومنحهم الخصوصية المقترنة بوطنيتهم تجاه الآخرين من أبناء المعمورة من
الجنسيات الأخرى، وجميع الدساتير التي صدرت في العراق وحتى في البلدان
الأخرى ترى إنها تتضمن مفردات تنادي بالحرية والمساواة والعدالة وصيانة
الحقوق وغيرها.
لكن عند التطبيق تقرن هذه العبارات برؤاها الخاصة بها وتوظفها على
مشيئتها لتحقيق أهدافها، والدستور العراقي النافذ الذي يمتاز بكون
شرعيته جاءت من أغلبية سكانية وشعبية بالإضافة إلى الأغلبية
البرلمانية، كما تميز باغنائه بالحوار والنقاش من جميع الأطراف
المشاركة بالعملية السياسية والتشريعية، وجميع بنوده ومواده كانت محلاً
للنقاش المستفيض الذي لم يقتصر على اللجنة المكلفة بكتابته، بل تعداه
إلى كل قطاعات الشعب بما فيها مؤسسات المجتمع المدني والجامعات
والمحافل الأدبية والثقافية.
وتراوح النقاش بين الإجماع على بعض المواد والافتراق تجاه أخرى إلى
حد الاختصام، ومن بين المواد التي أثارت جدلا مازال مستمراً على ذات
الوتيرة حتى اللحظة،وانه يتصاعد طردياً مع اقتراب موعد مناقشة
التعديلات الدستورية المادة 41 من الدستور التي تنص على ما يلي ((
العراقيون احرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب دياناتهم أو
مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون.)).
ولا زالت الندوات مستمرة بالانعقاد لمناقشة هذه المادة بين مؤيد
ومعترض، ومن خلال هذا الجدل المحتدم لفتت بعض الأفكار المطروحة
الانتباه على إن هذه المادة تسعى إلى طمس الهوية العراقية والسعي إلى
تأسيس للمذهبية الطائفية وعلى وفق المسوغات والمبررات المطروحة المؤيد
لوجهة النظر تلك، وحيث إن هذا الأمر يستفز كيان كل فرد ومواطن متمسك
بوطنيته وهويته العراقية لأنها المعرف له بين باقي الأمم فلولا هذه
الهوية الوطنية لكان تابعاً لأمة ودولة أخرى، لذلك أهميتها تقترن
بأهمية وجوده الاعتباري والقانوني، ومن تلك الالتفاتة التي أثارت
الانتباه كان لابد من قراءة أحكام المادة (41) من الدستور برؤية جديدة
تسعى للبحث عن مدى تمسك هذه المادة بالهوية العراقية أو حجم سعيها
لتشظي وتفتيت وحدة الأسرة العراقية المكونة للمجتمع العراقي.
ولهذا الغرض ولبيان هذه الرؤية سأورد الأمر على وفق ما يلي :-
1. الصياغة اللغوية وشكلية التقنين لنص المادة (41).
إن من يقرأ المادة سيرى وبوضوح إنها استعملت بكلمة (العراقيون) وهذا
الذكر له دلالته الشكلية في كون الدالة لحكم النص على المدلول عليه هو
الفرد أو المواطن العراقي ولم تسعى إلى غيره، وان هذا الحصر في استهلال
وصدر المادة على العراقيين، هو تأكيد على إن المادة تأسس للهوية
العراقية دون غيرها، وإذا كان السعي لغير ذلك لما وضعت في صدر المادة
وقدمت في الترتيب على المعتقد والمذهب والقومية، بمعنى إن الصفة
العراقية هي الجامع لهذا الترتيب في الاختلاف المذهبي او العقائدي او
القومي.
وان التعامل مع القومية او المذهب او المعتقد لا يكون في مجال
الأحوال الشخصية إلا من خلال عراقية المواطن وعدم الجواز للقفز على
الصفة العراقية والولوج المباشر في المذهبية او الطائفية او القومية.
وهذا الامر من حيث الصياغة والشكلية يعزز القول بان الهوية العراقية
كانت محل نظر واعتبار عند وضع نص المادة المذكورة مع العرض إن هناك
مواد ذات صلة في الدستور تبين وبوضوح هذه الرؤية ومنها المادة (18)
التي تنص على ما يلي:
(أولا :ـ الجنسية العراقية حقٌ لكل عراقي، وهي أساس مواطنته) حيث
اعتبرت تلك المادة الأساس في المواطنة هي الجنسية العراقية المعبرة عن
هوية المواطن والمجتمع.
2. الأحكام القانونية الناشئة عن المادة (41) من الدستور.
إن من أهم الآثار القانونية التي ترتبها تلك المادة، منح الحرية
للفرد العراقي بالتعامل مع ما يتعلق بأحواله الشخصية على وفق مذهبه أو
معتقده او قوميته، والأحوال الشخصية المقصود بها في هذا النص هي
متعلقات الأسرة وتكوينها والروابط الاسرية وكيفية التعامل بين أفراد
الاسرة الواحدة والآثار المترتبة عليها من حيث الزواج والطلاق والميراث
والوصية والنفقة والحضانة وسواها، وجاء في نهاية النص إن تنظم تلك
الأحوال بقانون.
ولغرض بيان فيما إذا كانت هذه المادة من حيث الأثر القانوني
المترتب على تنظيم العلاقات الأسرية والأحوال الشخصية يتقاطع مع وجود
الهوية العراقية، ام انه يتناغم مع المسعى لتعزيزها؟ والجواب سيكون
برؤية قانونية صرفة لا علاقة لها بالتجاذبات السياسية وكما يلي:-
إن القواعد القانونية المنظمة للأحوال الشخصية سواء كانت في العراق
أو في غيره من البلدان، هي من الأحكام التي تكون محلاً للمنازعات من
حيث الاختصاص التشريعي، إذ تتكون بعض الأسر من رجل وامرأة من جنسيتين
مختلفتين أو إن ولادة احد الأشخاص في بلد غير الذي يحمل والديه جنسيته
أو يتم عقد الزواج أو الطلاق في بلد غير الذي انعقد فيه او في غير
البلد الأم لكلا الزوجين أو احدهم، وهذا التنوع والتنازع من حيث
الاختصاص قد يكون منسجماً مع القول الذي يتردد بان نص المادة (41) من
الدستور سيفقد العراقي هويته لو كان هذا الأمر متروكاً دون تنظيم، ومن
الجدير بالذكر إن مفهوم الأحوال الشخصية لم يكن معروف في التشريع
الإسلامي واستعمل للمرة الأولى في العراق في المادة (11) من بيان
المحاكم الصادر في 28/11/1917 وبيان أيار عام 1921 وقانون المحاكم
الشرعية لسنة 1923 و كذلك في القانون الأساسي العراقي، ومن ثم في قانون
الأحوال الشخصية للأجانب رقم 78 لسنة 1931.
وهكذا بدء التعامل مع هذا المصطلح ويرى الدكتور عبد الواحد كرم في
كتابه الموسوم (الأحوال الشخصية في القانون الدولي الخاص العراقي)
مطبعة المعارف سنة 1979، إن هذا المصطلح استعمل لأول مرة في التشريعات
العربية بعد تأثره بالفقه الغربي وأول بوادر ظهوره في الفقه القانوني،
كان في الفقه الإيطالي القديم عندما ظهرت خلال القرنين الثاني عشر
والثالث عشر ولايات ومدن مستقلة في شمال ايطاليا وكانت كل منها تطبق
قوانين خاصة بها سميت بالأحوال (statute) إلى جانب القانون الروماني
الذي كان يعتبر القانون العام لجميع الولايات.
وعوداً على اصل الموضوع فان المنظومة القانونية العراقية قد عالجت
هذا الأمر وجعلت الأولوية يكون لمفهوم الهوية العراقية بمعنى إن
القواعد القانونية لا تطبق على أي شخص ما لم يكن عراقي وان هذه الصفة
المتعلقة بجنسيته وهويته تجعله خاضع للأحكام القانونية العراقية بغض
النظر عن مذهبه وعقيدته او قوميته فيكون للهوية العراقية الفضاء الذي
يستوعب باقي الأوصاف المقترنة بالدقة تجاه مفردات تكوين الشخصية من
معتقد وقومية وسواها، حيث ورد في نص المادة (17) من القانون المدني
العراقي رقم 41 لسنة 1951 المعدل، بان القانون العراقي هو المرجع في
تكيف العلاقات عند حصول نزاع في الاختصاص والقانون الواجب التطبيق منه
كما ورد في نص المادة (19) من القانون ذاته وعلى وفق ما يلي ((يرجع في
الشروط الموضوعية لصحة الزواج إلى قانون كل من الزوجين إما من حيث
الشكل فيعتبر صحيحاً الزواج ما بين أجنبيين أو ما بين أجنبي وعراقي إذا
عقد وفقاً للشكل المقرر في قانون البلد الذي تم فيه، أو إذا روعيت فيه
الأشكال التي قررها قانون كل من الزوجين)) وأردف النص المذكور في البند
(2) من المادة المذكورة ما يلي (على إن القانون العراقي يسري بحق الزوج
على العلاقات الناشئة من الزواج وأثاره إذا كان الزوج عراقي وقت انعقاد
عقد الزواج وكذلك بالنسبة للطلاق التفريق والانفصال والبنوة الشرعية
والولاية وسائر الواجبات وما بين الآباء والأولاد يسري عليها قانون
الأب).
وهذا النص في المادة (19) وسواها يؤكد على إن الأحوال الشخصية
حينما يتم التعرض لها عند التطبيق تراعي أولا الصفة العراقية عند الزوج
ومن ثم تأتي من بعدها التفرعات الأخرى سواء المذهبية أو القومية أو
غيرها. كما أن القانون العراقي قد شمل بالاختصاص المرأة العراقية حينما
تتزوج بأجنبي وورد في تأكيد ذلك نص الفقرة (5) من المادة (19) من
القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 الذي بين بان القانون العراقي
وحده الذي يطبق على العلاقات الناشئة عن الزواج والطلاق إذا كان احد
الزوجين عراقي.
لذلك فان الهوية العراقية هي الأصل المعول عليه وإذا ما اقترن بنشاط
قانوني يتعلق بالأحوال الشخصية فان الهوية العراقية تراعى فيه بأسبقية
على أي شيء آخر، وان نص المادة (41) من الدستور، وان جاء في محتواها
العراقيون أحرار في أحوالهم الشخصية حسب مذاهبهم ومعتقداتهم
واختياراتهم، إلا أن أي من هذه المفردات سواء المذهبية او المعتقدية او
غيرها يجب أن تقترن بالهوية العراقية، بمعنى إن المذهب الشيعي او السني
يراعى فيه الخصوصية العراقية وليس سواه من الأوصاف الأخرى فالشيعي
البحريني او السعودي لا علاقة له بأحكام هذا النص وكذلك السني المصري
او السوري، كما ليس للأحكام التي يطبقها الشيعي الكويتي او اللبناني أو
الأحكام التي يطبقها السني الليبي او السوداني اثر على العراقي الشيعي
او السني، وإنما تطبق المذهبية على وفق خصوصيتها العراقية هذا بالإضافة
إلى ما يمكن أن يستدل عليه في المواد الدستورية الأخرى المكملة لنص هذه
المادة من إن الدستور عراقي ويسعى لصيانة حقوق الفرد العراقي.
ومن ذلك التوضيح أرى إن المادة (41) من الدستور النافذ قد راعت
الهوية العراقية بشكل دقيق وواضح وعبرت عن تمسك الدستور بهذه الهوية
التي يتشرف بها كل عراقي يؤمن بوحدة العراق وسلامة أمنه وشعبه وأرضه.
[email protected] |