نحن في عصر يسير نحو التنوير !

زهير الخويلدي*

"هم في ذلك أشبه بأعمى يريد أن يصارع خصمه البصير في شروط متماثلة، فيستدرجه إلى قاع قبو مظلم دامس" ديكارت 

شاع خلط بين الناس بخصوص مفهوم التنوير فهم يعتقدون أنه العصرنة بالمعنى الحضاري الغربي واتباع النهج الليبرالي في المجال الاجتماعي والاقتصادي والانفتاح على العولمة وعالم السموات المفتوحة ونسي أصحاب هذا الرأي أن هذه الكلمة هي مشترك بشري وقيمة كونية وجدت منذ الأزل عند المشرعين الأوائل وموقظي الشعوب ومدشني يقظة الحضارات وأنها ليست حكرا على العقل الغربي المتمركز حول نفسه إذ هناك تنوير اقتصادي مزلزل في شرق آسيا وتنوير ماركسي في الصين وأمريكا اللاتينية وتنوير ديني عرفته الحضارة العربية الاسلامية في عصور الازدهار وتنوير فلسفي عند الإغريق وتنوير سياسي شيده العالم الهندي في مرحلة ما بعد الاستعمار البريطاني وتنوير علمي تقني شهدته الحضارة القارية الأوربية وامتد إلى العالم الأنجلوساكسوني الجديد.

زيادة على أن التنوير هو بالأساس مفهوم فلسفي وقع نقله واستخدامه في الفضاءات المعرفية والعملية أخرى وتعرض للتشويه والمسخ نتيجة هذا الاستخدام ونحن نعلم كيف تتقاذف مصالح السياسة والدين والاقتصاد بطهارة الكلمات وتغلفها بإيديولوجيا الأنساق المطلقة والأقاويل الشعوبية المغشوشة.

 من هذا المنطلق ولكي نعرف كيف استقر هذا المفهوم في مسطح الفلسفة وتوهج في ساحة الفكر كان علينا أن  نعود إلى أصوله النظرية ومنابته الفكرية مفككين كل الطبقات التي غطت معناه النفيس،وإذا ركز انتباهنا على الفترة الراهنة من العصر الفلسفي فإن خير من انشغل بهذا المبحث هو كل من الفيلسوف الألماني كانط في عصر الأنوار والفيلسوف الفرنسي فوكو في فكر1968 فهما اللذان أفردا رسالتين حول هذا الموضوع الشائك،فكيف عرف كانط التنوير؟ وماهي مؤاخذات فوكو على هذا التعريف؟ وهل نستطيع نحن اليوم أن نخلق نحن السكان الافتراضين لحضارة اقرأ التنوير الأصيل الذي يخصنا والذي يلاءم خصوصية فكرنا ولغتنا دون السقوط في وهمي التقليد المطلق والتقدم المطلق؟

1/ شعار التنوير عند كانط:

يعادل سؤال:ما التنوير؟ عند كانط سؤال الفكر البشري السرمدي: ما الحقيقة؟ فلكي نعرف حقيقة التنوير ودلالته لابد أن نعرف أولا مفهوم الحقيقة ثم على ضوئه نحدد معنى لمطلبنا وكأن الإنسان لن يرتقي إلى مساحة النور مادام يتخبط في دائرة الوهم والخطأ والكذب وظلام المعتقدات والخرافات.

وان رأى البعض أن نشأة التنوير كانت بين أحضان اللاهوت وتعود إلى الخروج عن الزواج عن طريق الكنيسة إلى الدفاع عن الزواج المدني من قبل موسى أندلسون فان الأخبار متضاربة حول اطلاع كانط على ما نشره هذا الراهب البروتستانتي  وكذلك تمكن كانط من الإجابة عن سؤال ما التنوير؟ بطريقة واضحة بينما لم يفعل موسى أندلسون ذلك،فهو الذي رفع شعار:تشجع على استعمال عقلك بنفسك، ورأى أنه القيام بخطوة نحو الرشد معتبرا إياه شعار عصر بأسره وليس مجرد فصل من فصول المرحلة.

يحدد كانط نقيض التنوير بالقصور بقوله:" التنوير هو  خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسئول عنه"،ويضبط أسباب القصور كما يلي:

-         عجز المرء عن استعمال عقله وذلك ليس لوجود عيب في العقل بل لرفضه القيام بذلك فهو "عاجز الآن فعلا عن استعمال عقله هو لأنهم لم يدعوه أبدا يحاول ذلك"،فإذا كان العقل أعدل الأشياء قسمة وتوزيعا بين الناس كما يقول ديكارت فان سبب التفاوت بينهم هو طريقة استخدامه لأنه ليس المهم أن يكون لنا عقل حسن بل الأهم أن نحسن استخدامه.

-         إشراف الغير على هذا الاستعمال وكثرة الأوصياء وأخذهم على عاتقهم مهمة الإشراف على تربية البشرية،إذ:"لو كان لي كتاب يقوم مني مقام العقل ومرشد يقوم مني مقام الضمير وطبيب يقرر لي نظام غذائي الخ...فلن أكون بحاجة إلى تجشم أي عناء بنفسي...إذ أن آخرين سيتكفلون بهذا العمل المضني".

-         البقاء رهن العادة وقيد الأفكار المألوفة والقوالب الجاهزة والرضا بالحياة كما هي والارتياح إلى ماهو موجود والارتكان إلى السهل والنفور من الأمور العويصة والنظر إلى المغامرة والتشجع على أنها مخاطرة ومقامرة قد تجلب المهالك والويلات.

-         الكسل والجبن وتعويض الترشد الذاتي بنظام الدفع المسبق كلها من الأسباب المنتجة للقصور،إذ"لست بحاجة إلى أن أفكر طالما أن بوسعي أن أدفع" كما أن محاولة المرء الخروج من زريبة المخلوقات الوديعة التي أحكم الأوصياء تربيتها على الخضوع والانضباط " يجعل المرء جبانا والهلع الذي ينجم عنه يثني عادة عن تكرار المحاولة."

-         سيطرة المؤسسات والصيغ الجاهزة وأدوات الدمج والتنميط والأدلجة على طرق استعمال العقل وتكون سلسلة استعمالات ميكانيكية مقيدة للمواهب الطبيعية تكرس التبعية وتبرر العبودية وتحرمه من الحرية والاستقلالية و"من يتخلص منها لا يقدر على القيام سوى بقفزة غير مأمونة فوق أضيق الحفر لأنه لم يتعود على تحريك ساقيه بحرية".

-         رسم مجموعة من الحدود والأسوار التي تقيد الحرية وهي سلطات السياسة والاقتصاد والدين والمجتمع،"ففي كل مكان ثمة حد للحرية.

ورغم هذه الممانعات والعوائق التي تسبب بقاء الناس في حالة من القصور فإن كانط يستنتج مجموعة من الملاحظات النقدية الرشيقة والحركات الذهنية التأسيسية:

-         التنوير مطلب صعب ومهمة شاقة لثقل الميراث وسماكة طبقات الأوهام التي تحجب الرؤية الصافية عن العقول واختلاط الأمور والتباس الوضعيات عن الناس.

-         لا يتمكن من الوصول بجهده الخاص إلى التنوير إلا النخبة من أصحاب الفطر الفائقة،"إن الذين توصلوا إلى التحرر من القصور والمشي بخطى ثابتة بالجهد الخاص لعقلهم هم قلة".

-         تنوير الحشد ليس مسألة مستحيلة وممتنعة بل تدخل في دائرة الممكن  بشرط أن تتوفر لهم الحرية وينتشر بينهم روح التقدير العقلي للقيمة الخاصة بكل إنسان.

-         الحشد لن يصل إلى  التنوير دفعة واحدة وبسرعة بل لابد من التدرج وتحقيق التنوير عبر مراحل من خلال التربية والتمرس والتدريب،"فالجمهور لا يمكن أن يصل إلى الأنوار إلا ببطء"."فإذا سئلنا إذن:هل نعيش حاليا في عصر مستنير؟فإليكم الجواب:كلا،بل في عصر يسير نحو التنوير".

-         التمييز بين الثورة التي قد تطيح بالاستبداد والاضطهاد لتستبدله بتحكيمات وتقييدات جديدة والتنوير الذي هو"إصلاح حقيقي لطريقة التفكير".

-         المماهاة بين التنوير والحرية لأن الذي يوصل الأنوار إلى الناس ليس الخضوع ولا السيطرة والإملاء والوصاية بل تركهم أحرار في استعمالهم العمومي لعقولهم وتربيتهم على الاعتماد عقولهم الخاصة.

-         العدالة في التنوير وإعطائه حقه هي إتاحة فرصة ممارسة النقد الذاتي بالنسبة للناس وتمكين المواطنين من إبداء ملاحظاته حول أخطاء المؤسسات وإلغاء كل التحفظات والمحاذير وأشكال المنع التي تحد من حركة النقد.

-         يحقق التنوير التقدم ويجعل كل خطوة إلى الخلف أمرا غير معقول وكل حركة إلى الوراء حركة رجعية لا تتفق مع روح العصر وتحترم منطق التاريخ والتقدم بالأساس هو تقدم سياسي بأن تعبر السلطة التشريعية عن الإرادة العامة للشعب وأن يعامل النظام الناس كمواطنين لا كرعايا."فالمهم أن يسهر فقط على أن يكون كل تحسين واقعي أو مفترض منسجما مع النظام المدني".

-         مهمة التنوير موكولة بعهدة الدولة ولها المشروعية في إكراه الناس على ذلك ولو باستعمال القوة ولا يحق للحاكم أن يتبع أهواء شعبه في امتناعه عن تحصيل المعرفة طالما أن هذا التحصيل هو من الحقوق الإنسانية المقدسة التي يجب أن تفرض بقوة القانون لأن"شأنه هو السهر على أن يمنع بعضهم بالقوة الآخرين من العمل لتحقيق هذا الخلاص والتعجيل به بكل ما أوتوا من القوة."[1]

لكن ألا يؤدي هذا التنوير الكانطي إلى الاستبداد الديمقراطي؟ وألا يبرر لجوء العقل الغربي المتمركز حول نفسه إلى اعتبار زمنه الوجودي الزمانية الوجودية المطلقة وتاريخه الخاص بوصلة التاريخ الكوني؟ أليس هذا التصور الضيق للتنوير هو المصدر الخلفي للاستعمار الذي تعرضت له المعمورة زمن صعود البرجوازية الأوربية بفضل نشأة الرأسمالية التجارية أولا تفجر الثورة الصناعية فيما بعد؟ فكيف سيعمل فوكو على الحفر في تضاريس مفهوم التنوير الكانطي؟ وماذا سيبقي منه للبشرية التي طالما حلمت به؟

2/ مفارقات التنوير عند فوكو:

"إن التاريخية التي تحملنا وتتحكم فينا تاريخية شرسة... إنها ليست تاريخية لغوية، إنها علاقة سلطة لا علاقة معنى"

تقوم الرؤية الفكرية للفيلسوف الفرنسي فوكو على نقد النزعة الانسانوية من خلال العمل على تقويضها لأنها لم تخلق لدى الإنسان سوى الأوهام والادعاءات الباطلة وقائمة على فكر جدلي تطوري مزيف وحداثة موهومة تهتم بالذات والحقيقة والمعرفة والعلم ولا تأخذ بعين الاعتبار دور الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في نشأة هذه المفاهيم. ويعترف فوكو منذ البداية بصعوبة تعريف التنوير وعسر إيجاد جواب عن سؤال ما التنوير؟ وكأن هذا السؤال دخل خفية إلى تاريخ الأفكار ولم تتمكن الفلسفة الحديثة من حلحلته فاكتفت بتكراره وإعادة طرحه، ولكنه يلمح أن التنوير ارتبط بلحظة اعتراف الثقافة الغربية بأوهامها ومراجعتها لأسسها فبعدما ادعت معانقة الكوني هاهي تشرع لحق المواطنة لماهو خصوصي فيها من خلال البحث عن عامل مشترك وقبول مصير مشترك لكل الثقافات المحلية. كما يبين فوكو أن التساؤل عن التنوير بتلك الصيغة وفي ذلك العصر قد طرح مشكلا كبيرا في ساحة الفكر وهو التشريع لضرورة تأمل الحاضر باعتباره مجال للانتماء وميدان للمساءلة ونقطة انتشار نحو عصر جديد.

 يفكك فوكو تعريف كانط للتنوير ويرى أنه حدد بطريقة سلبية لكونه خروج ومنفذ وليس عصر تنتمي إليه البشرية أو حدث ينبغي المشاركة في انجازه،فكانط لا يحدد غائية مستقبلية للتنوير بل يكتفي بالاهتمام بالوضع الراهن الخالص أما فوكو فانه يعثر على ماهو مخفي في مشروع التنوير الكانطي وهو الاختلاف لكون كانط يبحث عن الشيء الذي أتى به الحاضر وجعله يكون مختلفا عما سبق.

التنوير الحقيقي عند فوكو هو مساءلة الحاضر،أنطولوجيا الحاضر،لأن الحاضر انتماء لعصر يختلف عن غيره من العصور،ولأنه يحمل بصمات تنبئ بعالم جديد بصدد التشكل،ثم هو"نقطة تحول نحو فجر عالم جديد". فالتنوير يتطلب تغيير في العلاقة بين الإرادة والسلطات من أجل الاستخدام الشرعي والحر للعقل حتى يعوض التفكير الفردي الكتاب والضمير المرشد الأخلاقي والانهماك بالذات الطبيب لأن التنوير صيرورة خروج من حالة معينة كانت عليها الإرادة تتميز بالشلل والعجز إلى حالة جديدة تتميز بالتصميم والعزم .

 يضع التنوير الكانطي الفكر أمام عدة مفارقات:هل هو مهمة يقوم بها كل فرد بنفسه أم ضرورة تاريخية بالنسبة للجماعة؟ كيف يمكن أن نوفق بين حرية الفرد وانعتاق الجماعة؟ أليس كل طلب لحرية الفرد هو تحد وخيانة لقيم الجماعة؟ وأليس كل بحث عن انعتاق الجماعة يكون بالتضحية بحرية الأفراد؟ وإذا كان الإنسان مسئولا على هذه التجربة وينبغي عليه أن يغير نفسه بنفسه وكان التنوير تغييرا يحدثه المرء بنفسه على نفسه وتعليمات يعطيها المرء لنفسه ويقترحها على الآخرين ألا تتحول هذه الاقتراحات إلى وصاية جديدة وتؤدي التعليمات إلى تكون سلطة إكراه؟

المفارقة الثانية تتمثل في أن التنوير فعل شجاع يقوم به الفرد بنفسه استجابة للنداء الشهير:فلتكن لك الشجاعة والجرأة من أجل المعرفة،وهو في الآن نفسه حدث مشترك لجميع الناس يكون الأفراد فاعلين ومنتجين له.

المفارقة الثالثة تتعلق بمفهوم الإنسانية: هل يتعلق الأمر بالنوع البشري عامة أم بالإنسانية الغربية التي تعايش عصر التنوير؟ هل التغيير المنشود هو تاريخي يمس الظروف السياسية والاجتماعية أم هو تغيير وجودي يمس ما يكون إنسانية النوع البشري؟

إن أهم شروط التنوير هي التفكر كيفما شئنا في مجمل القضايا التي تمس الإنسان حتى وان كانت عقدية مقدسة وينبغي أن يكون التفكر لغاية التفكر وذلك بالتمييز بين الاستعمال العمومي للعقل والاستعمال الخاص له وهنا يكتشف فوكو مفارقة رابعة تهز التنوير من أعماقه وهي القول بأن العقل يجب أن يكون حرا في الاستعمال العمومي وخاضعا في الاستعمال الخاص وهو ما يتناقض مع حرية الرأي،فكيف يستعمل العقل استعمالا خاصا وهو أداة في يد جهاز أو سلطة ما وله وظائف ودور يلعبه في المجتمع؟ ألا يتحول إلى عقل وظيفي تبريري أداتي وبالتالي يخسر حرية الحكم على الأشياء؟

التنوير لن يتحقق إلا إذا حصل تطابق بين الاستعمال الكوني الحر للعقل والاستعمال العمومي له.

المشكلة بالنسبة لفوكو ليس في الاستعمال الكوني الحر للعقل فهذه تجربة ممكنة التحقيق بل في الاستعمال العمومي،إذ"كيف يمكن لجرأة المعرفة أن تشتغل في واضحة النهار رغم أن الأفراد يطيعون كما يجب؟" و"كيف يمكن للاستعمال العمومي للعقل أن يأخذ شكلا عموميا خاصا به؟"

هل أن التنوير حدث عام يمس جميع البشر أم أنه مسألة سياسية وضرورة مفروضة من قبل الدولة على المجتمع؟ إذا كان كذلك ألا تتحول إلى استبداد أو من يضمن عدم انحرافها نحو ذلك؟ ألم يقترح كانط على فريدريك2 نوعا من الاستبداد العقلاني يتطابق بمقتضاه الاستعمال العمومي للعقل لدى الأفراد مع الاستعمال الحر الكوني؟

يحفر فوكو نص التنوير الكانطي بقوله:"لنترك الآن هذا النص،فأنا لا أسعى تماما إلى اعتباره يمثل وصفا وافيا للأنوار،وأظن أنه لن يستطيع إشفاء غليل أي رجل تاريخ" لأن هذا النص تاريخي وله طابعه الظرفي الذي نشأ فيه وسياق اجتماعي خاص به وجمهور موجه إليه،ثم هو لحظة للتحرر من السيطرة والخضوع وممارسة النقد .

إن النقد هو الاستعمال المشروع للعقل لكي يحدد الإنسان ما يمكن معرفته وفعله وما يمكن توقع وقوعه وان الاستعمال غير المشروع يؤدي بالمرء غالى الوقوع في الوثوقية والتعصب والتقليد والتبعية وهي أوهام لا يستطيع أي عقل التخلص منها ألا بممارسة النقد.

هناك علاقة وثيقة بين التنوير والنقد والحداثة والتقدم لأن كانط يجعل التنوير لحظة مرور الإنسانية إلى حالة من التطور والجديد في هذا النص هو التفكير في الآن كاختلاف داخل التاريخ ودافع نحو مهمة فلسفية جديدة وهي تدشين لحظة الحداثة،والحداثة هي عند فوكو ليست حقبة تاريخية نفصل فيها بين القبل والبعد بل هي موقف متعقل و"شكل من العلاقة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيار واعي يقوم به البعض، وأخيرا نمط من التفكير والإحساس وطريقة في السلوك والاستجابة التي تدل على انتماء معين وتظهر كمهمة يجب فعلها".

يسند فوكو مجموعة خصائص للحداثة:

-         الحداثة الطارئة والمتقلبة وهي قطيعة مع التقاليد وإحساس بالجدة ووعي بالحركة المتقطعة للزمن.

-         الحداثة المتجولة التي تعلي من شأن الحاضر وتعمل على تتبع سيلان الزمن وتشد الرحال نحو ماهو عظيم وجميل فيه من أجل ممارسة لعبة الحرية.

-         الحداثة الإرادية  وهي شكل من العلاقة مع الذات وهي التأنق في الكشف عن الذات بماهي موضوع معقد ومضني من أجل بنائها ككائن مستقل.

هكذا فإن التنوير يتعرض إلى نوع من الابتزاز عندما يعمل البعض على تشريحه وتحليله والتمييز بين وجهه المضيء ووجهه المظلم  وبين ماهو ايجابي منه وماهو سلبي ويدعو فوكو إلى بناء أنطولوجيا الحاضر التي تعمل على القيام بنقد مستمر لأنفسنا من أجل تحليل ذواتنا ككائنات تاريخية يساهم التنوير في تشكيلها،ومن أجل تحقيق هذه المهمة يجب أن يقطع التنوير مع النزعة الانسانوية لأن التنوير هو نمط من العلاقة التي تقيمها الذات مع الحاضر ومجموعة من الأحداث التاريخية المعقدة التي هي بصدد التشكل والحدوث أما النزعة الانسانوية فهي مجموعة من أحكام القيمة تستعمل النقد لخلق التمايز لا غير وتضم عديد الاتجاهات من وجودية وشخصانية وماركسية ووضعية وكلها تتكلم باسم الإنسان وضد الإله والدين والميتافيزيقا،وهي تصورات مستقاة بطريقة ضدية من الدين والسياسة والعلم من أجل تزيين صورة الإنسان عن نفسه بطريقة وهمية. من هنا فإن التنوير لا يعد مذهبا إنسانيا بل هو وعي تاريخي يلتزم بالنقد كسلاح ويلزم الإنسان بالسعي إلى الاكتشاف الدائم لنفسه من خلال تمتعه باستقلاليته.[2]

 إن التنوير عند فوكو ليس سلوكا رفضيا وهجوما تحطيميا بل هو موقف فلسفي حدودي يقف عند العتبات ولا يكتفي بالوقوف مع أو ضد بل يتعدى ذلك "نحو نقد ما نقوله وما نفكر فيه وما نفعله من خلال أنطولوجيا تاريخية لأنفسنا".ومن أجل تلبية هذا المطلب يغير فوكو من مضمون النقد فهو لم يعد نقدا متعاليا بل محايثا وهو لم يعد مجرد رسم للحدود وجغرافيا ذهنية بل أصبح يمارس كتجاوز ممكن و"كبحوث تاريخية من خلال الأحداث التي أدت إلى تكوننا والتعرف على أنفسنا كذوات لما نقوم به وما نفكر فيه وما نقوله". فهو يجمع بين الأركيولوجيا والجنيالوجيا وبين التعامل مع الخطابات التي ينعقد فيها ما نفكر فيه ونفعله ونقوله ككائنات تاريخية واستخراج إمكانية أن لا نكون ولا نفعل ولا نفكر ما نكونه وما نقوله من الحالة العابرة التي جعلتنا نكون ما نحن عليه. لكن ما معنى مثل هذا التصريح:"الإنسان اختراع تظهر أركيولوجيا فكرنا بسهولة حداثة عهده وربما نهايته القريبة...عندئذ يمكن الرهان أن الإنسان سوف يندثر مثل وجه من الرمل مرسوم على حد البحر..."[3]؟

3/ في تأصيل التنوير في حضارة اقرأ:

"الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم"[4]

التنوير ضروري في حضارة اقرأ من أجل أن يتضح شيء من الوعي الذي نملكه عن أنفسنا وعن ماضينا ومن أجل القيام بعلمنة جذرية للملة طالما أن جوهر القرآن هو علماني وطالما أن النصوص تدعوك إلى تجاوزها وتأويلها بلا حدود. صحيح أن تجربة التنوير تبدو عصية المنال وصعبة الإدراك في ديارنا لتفجر المكبوت وانفلات اللامعقول وعودة الميراث إلى احتلال سطح الأحداث وسطوة المد السلفي وانتهاج القراءات النصية القطعية وشيوع موجة التقليد وصعود الخطاب الهووي المصاب بالوله الذاتي وانتشار النزعة الافتخارية الامتداحية من جديد ولكن كل ما يحدث الآن هو صيرورة إلى الحداثة وفي عمقه مسيرة نحو التنوير لأن ما نلاحظه على المستوى السياسي والاجتماعي والدولي أن الجميع أصبحوا يحركون عجلة التنوير حتى وهم كارهين لها وتحالفت في ذلك النخب المثقفة والدول المحلية مع المنظمات الأهلية والجمعيات غير الحكومية وحتى إمبراطوريات المعولمة فهي جعلت من شعار التنوير مطب للتدخل في شؤون الآخرين ومهما يكن من أمر فإن الذي يحدث هو التنوير بالإكراه وكأن الشعوب المنتمية إلى دائرة الضاد تقاد إلى التنوير بالسلاسل وتحت الضرب بالسياط وأنه لحدث تاريخي جلل تتفكك فيه كل العقد وتتفجر معه كل المكبوتات لتتحقق مصالحة قارئ الرسالة مع نفسه ومع السارد الأكبر الذي دعاه للقراءة."يمكننا أن نفتتح الحقل الفكري للتيولوجيا –الاناسية – المنطقية على مرحلتين: فأولا ينبغي علينا تصفية كل المواقع التبجيلية الافتخارية التي تزعم أن الإسلام قادر على مقاومة العلمنة بفضل تعاليه الإلهي وحده. وثانيا ينبغي علينا أن نرفض مزاعم الفكر العلمانوي الذي يدعي أنه يمثل المرحلة الحاسمة من تحرير العقل خارج كل العقائد الخيالية"[5]

المطلوب هو عرض الإنسية العربية الأولى التي تأسست على يد كل من الجاحظ والتوحيدي والمعري ومسكويه على محك النقد والتمييز بين ما فكرت فيه وفعلته وقالته وما بقي عصيا عن التفكير ولم تفعله ولم تصرح ولو بكلمة حوله من أجل تجذيرها واستكمال ما كانت قد بدأته،ثم من جهة ثانية حري بنا أن نفتح العقل الأكسيولوجي العربي الإسلامي على ثنائية التحسين والتقبيح الاعتزالية حتى تكون أساس الحكم على الأفعال والخروج عن الثائيات الميتافيزيقية اللاهوتية المتمثلة في الخير والشر والحلال والحرام لأن ثنائية التحسين والتقبيح تجعل الإنسان في موضع المشرع للمعايير التي ينظم بها علاقاته مع نفسه ومع الآخر ومع العالم وليس في موضع المتقبل لمعايير كوسمولوجية فوقية ولأن "لله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".

زيادة على ذلك إن جهات الحكم الستة في الفقه:المحظور والمكروه والمباح والمتروك والمندوب والواجب تصلح لتجديد المنطق العقلي الذي يستعمل من جهة المعرفة والوجود والذي يحدد ميزان العمل بالنسبة للمرء ويجعله يخرج من ثنائية الوجود بماهو صادق/ كاذب إلى المنطق التعددي الذي يميز بين الحقيقة والصلاحية وبين الحقيقة المطلقة الثابتة والحقائق النسبية المتغيرة.

كما أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كفيل بأن يجعل من الدين مجرد موعظة حسنة ونصيحة وتذكرة وليس تسلط وفرض للهيمنة وإكراه بحد السيف ويستدعي السياسة من أجل أن تخدم الحياة لا أن تقود إلى الهلاك والموت وأن يحول نظرية الإمامة إلى نظرية في الحكم الراشد الذي يدعو إلى النظام السياسي الصالح من خلال الشورى والبيعة العامة.إننا "نطالب في كتاباتنا بالعودة إلى الفصل بين ماهو من شؤون الدنيا-التي نحن أدرى بها كما قال الرسول صلعم- وبين ماهو من شأن العقيدة والدين. هذه الدعوة للتحرر لا تقوم على إلغاء الدين وإلغاء نصوصه بقدر ما تقوم على فهمه فهما علميا وتحديد المجال الخاص بها."[6]

 إن التنوير في حضارة اقرأ ينبغي أن يكون تنويرا أصيلا ضد الجهل والزيف والخرافة وينخرط في تجربة التفكير وتقصي الحقائق والكف عن انتظار الأنوار المرسلة من العقل الفعال الإلهي إلى العقل البشري المنفعل وتقليب الأمور على مختلف وجوهها قبل إصدار الأحكام وهو ضد التكفير والإقصاء والاستئصال ويحتكم إلى الدائرة التأويلية والتراث بوصفه مجوعة من أفكار المسبقة التي تساعد على الفهم ولا تعيقه ،انه يتوج جهود السلف ويقتدي بما بذله العلماء والفلاسفة من غير ملتنا احتراما لقيم العقل ومثالية المعنى وانه لابد أن يبتعد عن كل أشكال التنوير الهجين الذي يكتفي بمحاكاة الغرب وتقليده دون مراعاة للخصوصية ودون احترام للمخزون الثقافي الذي يزخر بها التراث في هذا المجال.مما لاشك فيه أننا ننتقل ببطء شديد نحو التنوير وأن هذه الولادة العسيرة للحداثة في حضارة اقرأ هي ولادة قيصرية تتطلب تحريك العلوم الأصيلة على مسطح محايثة جديد يقتطع من السديم الذي يغوص فيه الفكر العربي الإسلامي."إن الانتقال من مرحلة الاجتهاد الكلاسيكي إلى مرحلة نقد العقل الإسلامي ينبغي أن يصمم ويصور على أساس انه امتداد للاجتهاد الكلاسيكي وإنضاج له."[7]

فهل قدر التنوير الأصيل أن يكون نقدا للعقل أم أنه مرتبط ببناء الحداثة من وجهة نظر عربية إسلامية ذات أفق كوني؟

...........................................

المراجع:

    كانط ، في الإجابة عن سؤال:ماهو التنوير؟    ترجمة إسماعيل المصدق مجلة فكر ونقد المغربية.

ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء ترجمة مركز الإنماء القومي بيروت 1989/1990.

    ميشيل فوكو: ماهي الأنوار؟ ترجمة حميد طاس مجلة فكر ونقد المغربية.

محمد أركون، من الاجتهاد التقليدي إلى نقد العقل الإسلامي ترجمة هاشم صالح دار الساقي بيروت لبنان سلسلة بحوث اجتماعية الطبعة الأولى1991.

     نصر حامد أبو زيد،  التفكير في زمن التكفير   مكتبة مدبولي الطبعة الثانية القاهرة 2003.

* كاتب فلسفي من تونس

------------------------------

الهوامش:

[1]  اعتمدنا النص المترجم من الألمانية إلى العربية عن طريق إسماعيل المصدق  بعنوان في الإجابة عن سؤال:ماهو التنوير؟ مجلة فكر ونقد المغربية

[2]  اعتمدنا الترجمة التي قام بها حميد طاس من الفرنسية إلى العربية وعنوانها: ماهي الأنوار؟ ميشيل فوكو. مجلة فكر ونقد المغربية

[3]  ميشيل فوكو   الكلمات والأشياء ترجمة مركز الإنماء القومي بيروت 1989/1990ص 313

[4]  سورة النور آية35

[5]  محمد أركون من الاجتهاد التقليدي إلى نقد العقل الإسلامي ترجمة هاشم صالح دار الساقي بيروت 1991ص 104

[6]  نصر حامد أبو زيد   التفكير في زمن التكفير   مكتبة مدبولي الطبعة الثانية القاهرة 2003  ص 155

[7]  محمد أركون من الاجتهاد التقليدي إلى نقد العقل الإسلامي ترجمة هاشم صالح دار الساقي بيروت 1991ص20

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 7 آذار/2007 -17/صفر/1428