شبكة النبأ: ان«قتل الكتاب اخطر من
قتل الانسان (...) لأن الانسان له عمر اما الكتاب فيبقى خالداً وقد
حرقوه». بهذه الكلمات وصف نعيم الشطري الرجل الستيني الذي يعمل مسؤول
مزاد الكتب في سوق الجمعة الفعل الشنيع وأكد ان «الارهابيين يحاولون
قتل المعرفة في هذا البلد وهم يقتلون الطلبة في الجامعات واليوم يقتلون
الكتاب في أعرق شوارع بغداد الثقافية» واضاف «هذا العمل جرى فقط في زمن
هولاكو واليوم يحدث مجددا من قبل المجرمين الذين استرخصوا حياة
الابرياء».
ودمر تفجير سيارة ملغومة في عملية انتحارية منطقة شارع المتنبي
التاريخية المليئة بالمكتبات مما أسفر عن سقوط ما يصل الى 26 قتيل
واشعال النيران في متاجر وسيارات تصاعدت على أثرها أعمدة كثيفة من
الدخان الاسود الخانق في المدينة.
وقال شاهد من رويترز في مكالمة هاتفية من فوق سطح مبنى في شارع
المتبني "الدخان الاسود في كل مكان."
وأضاف أنه يسمع أصوات سيارات الاسعاف في المنطقة وان الشارع في حالة
من الفوضى وان الارصفة ملطخة بالدماء وان واجهات المتاجر دمرت وتناثر
الحطام في المكان.
وقال الشاهد الذي كان في مكتبة بالشارع عندما تحطمت الواجهة بسبب
الانفجار "كان الدخان كثيفا للغاية حتى أنني تقيأت." وطلب الشاهد الذي
يعمل مع رويترز عدم نشر اسمه.
وتمكن رجال الاطفاء من اخماد النيران التي وصلت الى الطابق الثالث
من بعض المباني وتناثرت صفحات الكتب على الارض بعضها محترق والبعض
الاخر ملطخ بالدماء. وشوهدت جثث متفحمة ملقاة على الارض دفن نصفها تحت
أنقاض واجهات المتاجر.
ووقع الانفجار على بعد نحو 50 مترا من مقهى الشهبندر الذي كان منارة
للحياة الادبية التي كانت منتعشة يوما في بغداد.
وأضاف الشاهد من رويترز "شبت النيران في عدد من المحال واحترقت أكثر
من 15 سيارة" وقال انه ساعد في نقل عدد من النساء المصابات الى سيارة
تابعة للشرطة حملت سبعة منهن الى المستشفى وكانت الدماء تغطيهن.
وقال أبو علي الذي بدت عليه علامات الذهول الشديد والذي يعمل في
مبنى احترق فيه الطابق الارضي ولقي فيه عدة أشخاص حتفهم انه كان في
الداخل عندما انفجرت السيارة ومضى يقول "لا أعلم أين ولداي.. سمعت
أنهما أصيبا ولكنني لم أرهما."
وقال محمد سلمان شقيق صاحب مكتبة عدنان الشهيرة «بحثت عن اخي في
ثلاثة مستشفيات ولا زلت اجهل مصيره»، مضيفا «المشكلة الكبيرة ان جميع
الجثث عبارة عن قطع سوداء يصعب التعرف عليها بسبب الحروق التي تعرضت
لها».
وروى مراسل وكالة الصحافة الفرنسية الذي وصل الى مكان الانفجار ان
اوراق الكتب المتناثرة اختلطت بالدماء والجثث المتفحمة على جانبي
الشارع مشيرا الى ان النيران لا تزال تلتهم المكتبات التاريخية التي
يشتهر بها شارع المتنبي. ويشهد شارع المتنبي طيلة ايام الاسبوع ما عدا
الجمعة بسبب حظر التجول المفروض في هذا اليوم، حركة نشطة من رواده
الصحافيين والمثقفين الذين يجدون ضالتهم في البحث عن الكتب والمصادر.
وقد وقع الانفجار على مقربة من التجمع الثقافي العراقي وهو عبارة عن
قاعة يتجمع فيها المثقفون والأدباء، انشئ نهاية العام 2003 وأصبح ملتقى
للكتاب والأدباء.
وقال حجي علي صاحب مقهى الشابندر وهو ملتقى الشعراء والأدباء
والصحافيين «هذه كارثة إنسانية». وأضاف الحاج الذي وقف امام مقهاه الذي
تحطم زجاجه بسبب قوة الانفجار ان «هذا المكان معرفي بعيد عن العنف
واليوم حولوه الى هشيم وحطام». وتابع «لطالما كان هذا المكان يقود حملة
توعية ضد العنف (....) والمفروض ان يكون خارج دائرة الصراع (...)
والكثير من العرب والأجانب من اصدقائنا لا زالوا يزروننا هنا».
وقال محمد حميد، صاحب احدى المكتبات التاريخية القديمة «لقد احترقت
مكتبتي التي تضم موسوعات وكتب تاريخية نادرة ودينية مهمة جدا غير
موجودة الا في بغداد»، وراح يبكي وهو يردد «لا حول ولا قوة الا بالله».
وأضاف ان «هذه الكتب تعتبر مصادر بحث علمية وأدبية للكثير من طلبة
الدراسات العليا».
وقال الصحافي جمال كريم الذي يعمل في قسم ثقافي في احدى الصحف
المحلية وهو يبحث عن اصدقائه «الجميع لم يرد على مكالماتي، مما زاد من
مخاوفي على حياتهم». واضاف ان «المجرمين استغلوا هذه الثغرة في الشارع
الذي يبدو انه خارج الخطة الامنية».
وبين أنقاض المحلات التي تحولت إلى ركام في (شارع المتنبي) وسط
بغداد ،جلس واثق أحمد أمام محله في وقت مبكر من اليوم الثلاثاء...
وجالت عيناه لدقائق في المكان الذي كان يضم المئات من الكتب الدينية
والتاريخية القديمة والحديثة ولم يعد به إلا بقايا محترقة ، وقال "
أفضل العودة إلى داري... بدلا من البقاء هنا وإجترار الحسرات والألم."
وأسفرت عمليات الإنقاذ ،التي مازالت مستمرة حتى يوم الثلاثاء ،عن
العثور على تسع جثث إضافية... كان الدخان مازال ينبعث في قسم منها.
ويقول أحد رجال الشرطة العراقية إن عملية إنتشال الجثث "مازالت مستمرة"
،موضحا أن احتمال العثور على عدد آخر من الجثث هو "احتمال قائم."
ويقع (شارع المتنبي) بداية شارع الرشيد ،أقدم شوارع مدينة بغداد...
وأحد أبرز معالمها ، وتقع على مقربة من شارع المتنبي منطقة ( القشلة)
التي كانت مقرا للحكومة العراقية في العهد الملكي ،وشهد هذا المقر
تتويج عدد من الملوك الذين حكموا العراق بداية إستقلاله عن الدولة
العثمانية .
ومازالت المنطقة حتى اليوم تحتفظ بمعمارها القديم، وهي تمثل شاهدا
ومعلما تاريخيا لمدينة بغداد القديمة.
واحتشد العشرات من اصحاب المحلات وعمال انقاذ وعدد من العوائل في
وقت مبكر من يوم الثلاثاء لمعرفة مصير عدد الاشخاص الذين مازالوا
مفقودين حتى الان.
ومع العثور على الجثث التسع اليوم الثلاثاء يرتفع عدد الذين لقوا
حتفهم إلى (39) شخصا ،
وإصابة ما يقرب من (65) آخرين بجروح .
وقال إحسان عبد الهادي ،وهو أيضا صاحب محل في الشارع ،إن الإنفجار
"دمر المكتبة العصرية... حيث إحترقت بالكامل ،وهي أقدم مكتبة في
الشارع... وتأسست في العام
(1908) وتضم آلاف الكتب التاريخية الثمينة ،والتي لا يمكن أن تقدر
بثمن... ولا يمكن أن تجدها في أي مكان آخر."
وأضاف عبد المهدي لـ ( أصوات العراق) أن "مكتبة النهضة ،وهي أكبر
مكتبة في الشارع ،دمرت واحترقت بالكامل... وهي الأخرى تضم آلاف الكتب
التاريخية والدينية والقانونية التي تحاكي تاريخ العراق القديم والحديث."
ولم يكن بالإمكان التجول في الشارع أو مجرد الإنتقال من مكان لآخر
او من محل إلى آخر ، بسبب كمية الاكداس الهائلة التي تغطي أرجاء المكان...
وبسبب رائحة الدخان المنبعثة من الجثث المحترقة ،والتي كان الجميع مهتم
بالبحث عنها وإنتشالها من تحت الانقاض.
وقال أحد عمال الإنقاذ إن عملية تنظيف الشارع ورفع الأنقاض "قد
يستغرق وقتا طويلا ، خصوصا وان العديد من المحلات مازالت تحترق وعمليات
انتشال الجثث مازالت مستمرة."
وأضاف أن كمية الانقاض التي تغطي الشارع "والتي تمثلت بشكل كبير
باكداس من الورق والكتب المحترقة اضافة الى كميات كبيرة من مواد البناء
والتي كان سببها تهدم العشرات من المحلات بالكامل تقدر بعشرات الاطنان."
وأحدث الإنفجار حفرة عميقة وسط الشارع ،وقال عماد عباس (صاحب محل في
الشارع) إن "مايقارب الـ (70) محلا تضررت... (40) منها دمر بالكامل ،إضافة
إلى تدمير نحو (15) من المطابع الصناعية الموجودة في الشارع... فضلا عن
سبع عمارات سكنية دمرت بالكامل."
وقال آخرون ،إن مقهى ( الشاهبندر ) الذي يعتبر أحد المعالم المهمة
في هذا الشارع ، دمر هو الآخر بالكامل.
ويمثل (مقهى الشاهبندر ) ملتقى الأدباء والمثقفين والكتاب
والفنانيين ،وأغلبهم من كبار السن... إعتادوا الحضور إلى هذا المكان
رغم كل مايعاني منه البلد من تدهور أمني كبير.
وفى متجر لبيع الصحف المحلية والعربية والمجلات في ساحة الطيران وسط
بغداد ،قال أحد العاملين إن السيد قحطان حسن الربيعي صاحب المتجر
"إختفى منذ أمس ،حيث كان ذاهبا لتبضع القرطاسية والمجلات من شارع
المتنبي."
وأضاف "الربيعي لم يعد منذ أن ذهب إلى شارع المتنبي قبل وقوع
الإنفجار ,وكلما حاولت الإتصال به أجد هاتفه مغلقا... ولا نعرف شيئا عن
مصيره."
وذكر قريب للربيعي أن عائلته "بحثت في كافة المستشفيات ،دون أن تجد
ما يدل على مقتله في الإنفجار" ,مشيرا إلى أن العائلة "بحثت بين جثث
متفحمة جراء الإنفجار ،وضعت في كرفان بمدينة الطب ،ولم يستطيعوا التعرف
عليه... بسبب الإحتراق والتشوه التام الذي أصاب الجثث."
وقال إن العائلة "ما زالت تبحث على أمل العثور عليه... خاصة وأن
هناك جثثا أخرى لا زالت تحت ركام وأنقاض الإنفجار" ,وأوضح أن العائلة
"ستقيم مجلس عزاء للسيد الربيعي ،في حال عدم العثور عليه."
وكان هذا الشارع الذي يعود الى اواخر العصر العباسي، يعرف اولا باسم
«درب زاخا» وقد اشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضن اعرق
المؤسسات الثقافية منها مدرسة الامير سعادة الرسائلي ورباط ارجوان
(تكية دينية). وقد اطلق عليه اسم المتنبي في 1932 في عهد الملك فيصل
الاول تيمنا بشاعر الحكمة والشجاعة ابو الطيب المتنبي. وكان يعرف ايضا
باسم «شارع الاكمك خانة» أي المخبز العسكري.
وكان من اشهر رواد هذا الشارع المستشرقان الفرنسيان لوي ماسينيون
(1883ـ1962) وجاك بيرك (1910ـ1995) والاديب المصري زكي مبارك
(1891ـ1952) الذي كان يسكن في 1938 في منطقة الحيدرخانة القريبة من
الشارع والشاعر السوداني محمد الفيتوري.
ومن الشعراء العراقيين الذين كانوا من رواد شارع المتنبي، محمد مهدي
الجواهري (1899ـ1997) وبدر شاكر السياب (1926ـ1964) وعبد الوهاب
البياتي (1926ـ1999). وقبل 15 عاما وفي ظل الحظر الدولي الذي فرض على
العراق وافقر اهله، تحول هذا الشارع الى «بورصة ثقافية» تنظم كل جمعة
وتعرض خلالها اشهر الكتب والمصادر وتنتعش فيه مكتبات الرصيف الذي يفترش
اصحابها جنبات الشارع طوال ساعات النهار.
والى صفته «الاقتصادية» هذه، كان شارع المتبني يشكل ملتقى العديد من
الادباء والمثقفين العراقيين من باقي المحافظات الذين كانوا يزورونه كل
يوم جمعة ويلتقون زملاءهم في بغداد.
ويرجع تاريخ شارع المتنبي المحصور بين نهر دجلة وشارع الرشيد الى
فترة الحكم العثماني ويعد مركزا لتجارة الكتب في العاصمة العراقية
بغداد.
وساء حال الشارع بعد أن كان في يوم من الايام قلب النشاط التجاري في
المدينة وكان باعة الكتب يصطفون على جانبيه لعرض افضل المطبوعات في
الشرق الاوسط.
لكن رغم حالته الرثة استمر نشاط بيع الكتب في شارع المتنبي وترى
الناس يتزاحمون في مجموعات حول أكوام الكتب القديمة والحديثة المعروضة
على الارصفة أو فوق عربات صغيرة.
وغالبية محال بيع الكتب الموجودة في الشارع صغيرة الحجم ويتركز اغلب
نشاطها يوم الجمعة حيث ينشر الباعة الكتب العربية والانجليزية على حصير
فوق ارصفة الشارع المتربة والمتهدمة ليقوم الجمهور بالاطلاع عليها
وشرائها ليتحول شارع المتنبي إلى سوق مفتوح للكتب في قلب بغداد.
ويحمل الشارع أسم الشاعر العربي الكبير الذي أصيب بجنون العظمة
وادعى النبوة لكن تاريخ الشارع مع الكتب يعود إلى العصر العباسي الذي
بدأ في القرن التاسع وتزايدت فيه أعمال التأليف والترجمة للكتب العلمية
وازدهر خلاله الشعر العربي في بغداد بالاضافة إلى الفنون والآداب
الاخرى.
وفي فترة لاحقة خلال الحكم العثماني حمل الشارع اسم "الخامنيه" وهي
كلمة تركية تعني ثكنات الجيش التي يمكن مشاهدتها من احد المقاهي
الموجودة فيه.
واثار عشق العراقيين للقراءة والكتب مازالت موجودة بوضوح في نهاية
شارع المتنبي حيث توجد مطبعة يعود تاريخها الى القرن التاسع عشر تحولت
اليوم الى مقهى يرتاده أصحاب الفكر والقلم.
وقال محمد كاظم الخشالي صاحب مقهى الشابندر "شارع المتنبي تاريخه
تاريخ قديم يمتد إلى زمن العباسيين حيث كان يدعى بهذا "بدرب زاخي" أي
يوصل صوب الرصافة بالكرخ الطريق الوحيد الذي يمتد من الباب الشرقي إلى
هذه المكان إلى الصافي إلى الجانب الثاني. أشتهر الشارع المتنبي بالعهد
الملكي على الاكثر."
وفي عام 1917 بدأ شارع المتنبي في الازدهار كمركز رسمي لبيع الكتب
في وسط بغداد.
وبعد الغزو العراقي للكويت والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الامم
المتحدة على بغداد عام 1991 تراجع الاقتصاد العراقي وكان لذلك اكبر
الاثر على شارع المتنبي حيث اختفت المجلدات والمطبوعات الفاخرة وتحول
الشارع إلى سوق للكتب المستعملة بعدما باع الناس كل ما لديهم من أشياء
وكتب للحصول على أموال لشراء قوت يومهم.
وفي فترة حكم صدام حسين كان الشارع يخضع لرقابة الامن العام الذي
كان يعمل على ضمان حظر تداول كتب تتناول التاريخ الحديث للعراق ومعظمها
مذكرات كتبها منفيون وأعمال لرجال دين شيعة وسنة.
ومع ذلك كان يتم تهريب الكتب الممنوعة والتي غالبا ما كانت تطبع في
بيروت إلى العراق عبر الاردن وسوريا وتركيا.
وحب العراقيين للقراءة كبير مثل حبهم للبنان الذي يعشقه رواد شارع
المتنبي حيث تاتي منه معظم المطبوعات والكتب التي تباع هناك.
ولعقود كان الشارع احد المراكز الرئيسية للحياة الفكرية في العراق
وهو ما يعكسه العدد الكبير من المكتبات المتراصة على جانبيه.
واعتاد المفكرون ورجال الدين واستاذة الجامعات والعراقيين العاديين
التجمع في الشارع لمناقشة القضايا وتبادل الافكار.
وفي السبعينيات سحق صدام حسين الحياة الفكرية في العراق مما أدى إلى
قيام اصحاب المكتبات في شارع المتنبي ببيع الكتب سرا. وكان هناك مخبرون
سريون يبلغون السلطات باي كلمة يتفوه بها معارض في مقاهي الشارع.
لكن الشارع عاد للازدهار مرة ثانية بعد سقوط صدام.
واليوم اختلطت دماء مرتاديه بااحبار الكتب واوراقها لترسم لوحة
قاتمة في التشاؤم لعصر يخيم فيه الظلام والعنف ويموت فيه التنوير
والفكر.
|