الفقه الحضاري.. المعنى والأبعاد

 الاستاذ زكي الميلاد*

 لعل مفهوم الفقه, هو من أكثر المفاهيم قرباً إلى روح الدين, وجوهر الحضارة الإسلامية، فهو المفهوم الذي استعمله القرآن الكريم, لتحديد شكل العلاقة بالدين في قوله تعالى: (ليتفقهوا في الدين)، ولهذا ارتبطت عملية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية بالفقه، بوصفها منهجية دقيقة ومتكاملة في تكوين المعرفة بالشريعة الإسلامية, وتحديد الموقف الشرعي حسب مقتضيات الحال في الزمان والمكان.

والفقه في حقله الدلالي, ليس مجرد المعرفة, فهو يشير أيضاً إلى عنصر الفهم، ونقصد بالمعرفة تلك التي تتصل بجانب العلم, ونقصد بالفهم ذلك الذي يتصل بجانب العقل، وبالتحليل المنطقي يمكن القول أن المعرفة تتصل بجانب التصورات، والفهم يتصل بجانب الخبرات, فالفقه إذن هو معرفة, وتعقل لهذه المعرفة.

القصد من هذه الفكرة, محاولة تفسير الاستعمالات الكثيرة لمصطلح الفقه, التي دخلت على حقول معرفية متعددة لها علاقة بالدراسات الإسلامية, وبالدراسات الإنسانية والاجتماعية، كالحديث عن: فقه التاريخ، وفقه الاقتصاد, وفقه السياسة, وفقه الحقوق, وفقه البيئة, وفقه الحياة, إلى فقه الواقع.. الخ، وهناك مؤلفات معاصرة منشورة بهذه العناوين وغيرها, وفي هذا السياق أيضاً, يأتي استعمال الفقه في مجال الحضارة، باطلاق تسمية: (الفقه الحضاري).

ومن الذين استعملوا هذه التسمية, الدكتور سيد دسوقي حسن في كتابه: (مقدمات في مشاريع البعث الحضاري), الصادر عام 1987م, الذي افتتحه بمقدمة عنوانها: (نفر الفقه الحضاري), دعا فيها علماء هذه الأمّة أن تنفر طائفة منهم ليتفرغوا لعملية الفقه الحضاري، كجزء جوهري من عملية الفقه الديني، ولينيروا للأمّة دربها فلا يختلط عليها الوافد باسم المعاصرة, ويسمي هذه المجموعة (نفر الفقه الحضاري), وهؤلاء النفر حسب قوله يجتمعون فيما بينهم للعمل الفكري.

وقد توقف عند هذه التسمية وباهتمام كبير, عمر بهاء الدين الأميري في كتابه: (الإسلام وأزمة الحضارة الإنسانية في ضوء الفقه الحضاري), الصادر عام 1993م, حيث اعتبر أن تسمية (الفقه الحضاري), اصطلاحاً جديداً لمنهج سديد في البحث والعلم والفهم والسلوك. وتوصل لهذا المفهوم، كما يقول، بعد تدريسه لمادة الحضارة الإسلامية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة فاس المغربية، في بداية الثمانينات من القرن العشرين, حيث اعتمد في استخلاص مادة محاضراته على المعطيات القرآنية والمعارف الإسلامية، فتوقف متأملاً في كلمة: (يفقهون) التي وردت في آيات عديدة كقوله تعالى: (قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون) ـ سورة الأنعام, الآية 98ـ وقوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) ـ سورة الأنعام, الآية 65ـ وتوصل إلى أن فقه الدين هو فقه الحياة، وهو عنده بالتالي الفقه الحضاري, الذي حدد له أربعة عناصر، هي:

1 ـ الاستيعاب الحضاري للقضايا والقيم والأفكار من جميع الجوانب، ومن جهة أصلها وملابساتها، لتحقيق دقة البحث ورشد التخطيط وسلامة التصرف.

2ـ النظر الحضاري، وهو خصوص من عموم الاستيعاب لتعميقه وتنويره وترشيده، والجمع فيه بين الشمولية والدقة لإمداد البحث النظري والتطبيق العملي بضمانات الصحة والسداد.

3 ـ الإدراك الحضاري، وهو حصيلة العنصرين السابقين، الاستيعاب والنظر لوضع القضية المدروسة في سلمها الصحيح ومرتبتها اللازمة.

4 ـ السلوك الحضاري، لإخراج الفقه الحضاري من حيز البحث النظري وتكوين الخبرة والملكة الشخصية، إلى حيز الإفادة العملية فردياً وجماعياً، وبالتالي وضع المناهج الحضارية لسلوك الأفراد والجماعات والأمم, مستمدة من معطيات التجارب, وعبر الماضي, ومكابدة الحاضر، وذلك لتسديد المستقبل.

كما تطرق الأميري لهذا المفهوم في مؤلفات أخرى, منها كتاب: (في الفقه الحضاري) وكتاب: (وسطية الإسلام في ضوء الفقه الحضاري).

ولعل الجهد الأكثر أهمية في مجال الحديث عن الفقه الحضاري, هو ما أنجزه الباحث التونسي الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه القيم: (الشهود الحضاري للأمة الإسلامية) الصادر عام 1999م, في ثلاثة أجزاء, حمل الجزء الأول عنوان: (فقه التحضر الإسلامي), وحمل الجزء الثاني عنوان: (عوامل الشهود الحضاري)، وحمل الجزء الثالث عنوان: (مشاريع الإشهاد الحضاري). وهذا العمل على أهميته وقيمته البحثية والمعرفية لم يعرف على نطاق واسع, ونادراً ما يأتي الحديث عنه في الكتابات الفكرية العربية التي تطرقت إلى فكرة الحضارة, وتحليل المشكلة الحضارية في العالم الإسلامي.

 في هذا العمل حاول الدكتور عبد المجيد النجار, أن يقدم تحديدات هي الأكثر وضوحاً وتماسكاً لمفهوم (الفقه الحضاري), ويعطي هذا المفهوم إمكانية التقبل العلمي والموضوعي، أو على أقل تقدير إخراج هذا المفهوم من ما يمكن أن يحيط به من ضبابية وغموض، ويضع له حداً منطقياً, لا أقل ليبرر لنفسه استعماله بقناعة ووضوح.

والفكرة الأساسية التي ينطلق منها الدكتور النجار, في صياغة مفهوم (الفقه الحضاري), هي أن كل حضارة ـ حسب رأيه ـ تصطبغ في منهجها كله، وفي إنتاجها جميعه بلون الفكرة التي منها نشوؤها وتطورها، حتى يتكون من ذلك في كل حضارة فقه خاص بها, يتمثل في منطق داخلي تقام عليه بنيتها، وتتحكم به سيرورتها، انفعالاً بالفكرة التي نشأت منها. وأن المنطق الذي يحكم الحضارات, يختلف من حضارة إلى أخرى, تبعاً لاختلاف الأفكار التي أنشأت كلاً منها، ومن ذلك كان تمايز الحضارات وتنوعها عبر التاريخ.

 واستناداً على هذه الفكرة يرى الدكتور النجار, أن معنى الفقه الحضاري في بحثه هو المعنى المنهجي، ويقصد به المبادئ والأصول والقواعد التي تشكل نسقاً يحكم الظاهرة المعينة, أو العلم المعين, أو الحضارة المعينة، ولا علاقة له بالفقه الذي هو العلم المعروف. وبناء على ذلك فإن أية حضارة يكون تطورها في نطاق نسقها على قدر وفائها لمنطقها الداخلي الذي يتكون به فقهها الخاص، فإذا ما دخل ذلك الفقه اضطراب فقد أذن نسقها بالتداعي، وربما آل إلى الزوال، وكذلك فإن فهم أية حضارة في مظاهرها المختلفة، والسعي في توجيهها لما فيه تقويم انحرافها، أو في بعثها من ركودها، كل ذلك يتوقف على فهم فقهها الخاص الذي عليه قامت وتطورت، ثم إحياء ذلك الفقه وتقويمه لتعود حركة التحضر جارية عليه. وأيما محاولة لإحياء حضارة ما وبعثها من ركودها تكون من خارج ذلك الفقه, فإنها تبوء بالفشل في تحقيق هدفها.

 والاستنتاج الذي يتوصل إليه النجار على ضوء ذلك أن الحضارة الإسلامية, هي حضارة تختص من بين الحضارات بفقه خاص بها، هو منطقها الذي حكم نشأتها وتطورها، والذي أصابه بعد فترة من ازدهارها خلل في ترابطه وانسجامه أدى إلى ركودها وانحدارها. وتبعاً لذلك فإن كل محاولة للنهوض بالتحضر الإسلامي, وإعادته إلى وضع الشهود تتطلب أول ما تتطلب الوقوف الواعي على ذلك الفقه، وفهم طبيعته وقواعده، ليكون ذلك ميزاناً لتعديل المسار الحضاري تعديلاً يفضي إلى استئناف الحركة المترقية بالإنسان من حيث قوامه الفردي والاجتماعي، ومن حيث أوضاعه المادية، وهو جوهر التحضر المنشود, وأي منطق آخر يجعل فقهاً لنهضة التحضر الإسلامي ليس من شأنه إلا أن يفضي إلى التشويه للحياة الإسلامية من جهة، وإلى الاضطراب والارتباك من جهة أخرى، بحيث لا تكون به نهضة بل لعله المزيد من الارتكاس.

لا شك في مبررات استعمال هذا المفهوم وما يتضمنه من دلالات مهمة، إلا أنه ما زال بحاجة إلى تحديدات معرفية، وتعميقات في مكوناته المفهومية, ليكتسب قدراً أكبر من الوضوح والتماسك.

*باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة،

رئيس تحرير مجلة الكلمة.

http://www.almilad.org 

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 27 شباط/2007 -10/صفر/1428