لا تؤخذ النصيحة بلا وقوف على المقدمات والمعطيات … فلم أبال وأنا
أُنصِّب أدوات وأجهزة الاستقبال الفضائي في العاصمة لندن حتى نجحت في
تسجيل تردد فضائية البحرين وطفقت أتابع برامجها بمفردي بينما كان
أولادي في غرفة أخرى مشغولين بمتابعة برامج فضائيتي (الزهراء ) و(أهل
البيت).
وأنا على هذه الحال ؛ لم أُصب بفكرة موجهة ولا معرفة مقصودة وكأن
غطاء لم يُكشف لي أبدا أمام فضائية البحرين، فتذكرت (أيام أول) وصرت
أتجول بذاكرتي بين أقسام محطة تلفزيون البحرين، ثم شعرت فجأة بأنني
أمام فضائية عبثية تحاول شد انتباهي إلى تخلف السبعينات… فضائية لا
منهج إعلامي جاد يحكم حركتها… وكان الجديد فيها بالنسبة لي عبارة عن
صور غير مألوفة لمذيعين من ذوي اللحن الطائفي الخاص يسردون أخبارا
وتقارير عن لقاءات وحفلات بعض مسئولي دولة مازالت تعيش عقد السبعينات
بمفاهيمها الرسمية الدعائية، يمثل فيها التقسيم الوظيفي عريّا طائفيا
فاضحا يشوبه الكثير من العناد! … ولم يكن من بد … ألغيت سجل تردد
الفضائية البحرانية من جهاز البث الفضائي على وجه السرعة وبشكل نهائي
لا رجعة فيه، ثم عدت أدراجي أشاطر أولادي متابعاتهم التلفزيونية!.
فبعد مضي خمسة وعشرين عاما على آخر صورة للتلفزيون البحراني شاهدتها
في مطار البحرين في يونيو من عام 1980م؛ عزمت على إيصال مشاهداتي
القديمة بمشاهدات جديدة أقتبسها من خلال متابعة هذه الفضائية لكي
أستعين بها أيضا في البحث عن المساواة مع رفاقي من أبناء بعض الجاليات
العربية في بلاد المهجر.
ولكن أصدقاء السبعينات نصحوني: (لا تتعب نفسك … هي هي …لم يطرأ
عليها أي تغيير. وتكفيك آخر صورة للتلفزيون علقت بذهنك وأنت تهم
بالهروب عن قانون أمن الدولة إلى خارج البحرين لتعممها - بلا تكلف- على
أحوال البث التلفزيوني الراهن. فربما كانت صورة الأمس أجلى وكانت أكثر
وضوحا من صور اليوم، لأنها كانت تقر بطائفيتها وميولها الاستبدادية
العبثية بلا حرج، بينما صور اليوم تتخفى خلفها طاقات ومساعي طائفية
منظمة مست نظامنا الجغرافي والسكاني والوظيفي في ظاهرة مكملة لمشروع
قانون أمن الدولة!
هكذا هي الرؤية المؤسفة في متعلقات وسائل الإعلام البحراني وفضائيات
التلفزيون على وجه أخص. ومازالت هذه الرؤية السلبية تسود موقف كل
المكونات الثقافية البحرانية بازائها، ولن تجد من بين مثقفينا إلا من
يحدثك عن جمود فكري مطبق وعن غياب مطلق عن أي شأن رقابي محلي، وكل ما
ميز هذه الأجهزة منذ أول يوم نشوئها حتى اليوم محاكاتها لمهمات الولاء
القبلي المجردة من مفاهيم الأصالة.
وإذا ما رصدت البعض البسيط ممن يثني على فضائيات البحرين فلا يغرنك
قوله، فهو لا يعدو كونه وحدة من خشب مسندة إذا ما أحصيتها، وسترى
عناصرها من ذوي شعر الحب النبطي الذي لا ينمو في الأغلب الأعم إلا من
بين شريحة اجتماعية مغلقة ينتسب معظم عناصرها في العادة إلى عزلة أمنية
فرضتها ظروف الولاء لأجهزة الأمن أو قوة الدفاع، أو ستجدهم من بين بعض
متقدمي السلم الوظيفي في وزارات السيادة من ذوي اللهجة الخاصة.
وإذا ما حدث ووجدت نفسك باحثا في المنهج الدعائي (العجيب الفريد)
(الصامد منذ السبعينات) ذي القول الفصل الواحد الذي لا يناله التحول
والتغير لا من خلفه ولا من أمامه ولا من بقية جوانبه ؛ ستصل إلى نتيجة
مفادها: أن المنهج هذا قديم قائم على مبدأ عرفي لا هم وظيفي له سوى كسب
رضا طبقة وزراء السيادة والمسؤولين المتقدمين الذين تنتظم تحت إمرتهم
كل مؤسسات الدولة بالإضافة إلى وزير عام واحد فقط هو وزير الإعلام دون
بقية العموم من وزراء البحرين. وأتذكر هنا عناد وإصرار وزير إعلام سابق
على عرض برنامج غنائي راقص غربي فاضح في كل ليلة أربعاء من كل أسبوع
برغم توافق إحدى هذه الليالي بليلة العاشر من محرم. وقد أصدر هذا
الوزير أمرا بتجميد كل وسائل الاتصال مع محطة التلفزيون بعد وفود ألوف
من المكالمات المعبرة عن احتجاجها!
ربما يرى البعض في ذلك تحاملا ثوريا غير وجيه، لأن وزيرين للإعلام
تعاقبا على الوزارة منذ وفاة طارق المؤيد، وأن وضعا سياسيا وتشريعيا
جديدا قد حل بالبلاد من بعد سيادة الدولة القمعية لم يسلم فيه وزير
الإعلام الحالي من المسائلة أمام حلقة تلفزيونية عامة !...هذه الرؤية
مشكوك في أمرها لأن عامة الناس ترى أن الطعن في هذه الرؤية ليس بحاجة
إلى عناء وجهد إحصائيين أو حتى استنباطيين، ولأن واقع الحال بسيط جدا
يغني عن السؤال وعن كل ملاحظة أو رؤية أو مشاهدة أو تجربة أو خبرة
فاحصة.
لقد عشت من بين أجهزة التلفزيون البحراني في عقد السبعينات لمدة
ثلاثة أعوام تقريبا، تنقلت خلالها بين أقسامه، حتى حفظت برامج البث
اليومي وأوقاته عن ظهر قلب لما وصفت به من رتابة وتكرار في موادها
وللخصوص الطائفي والمجون القبلي و(الحضاري) في بعضها، ولم تكن في أية
حال من الأحوال تتجاوز ثلاث مواد بث رئيسية هي: مادة التغطية
الأخبارية، ومادة الترفيه الشعبي، ومادة الإعلان والدعاية.
وبين لحظات بث هذه المواد الثلاث: تجد مدا وازدحاما لموظفين خاصين
على أقسام إدارة البث التلفزيوني عند بث المادة الأولى فقط دون غيرها،
ولن تلبث أن تجد انحسارا وجزرا يجري بسرعة الضوء بينهم حتى تكاد محطة
التلفزيون تخلو إلا من ستة موظفين فقط: فني فيدو، فني تلسينما، فني
إخراج، فني صوت، فني كاميرا، فني اتصالات…لماذا ؟! فيأتيك ما يغني عن
إجمال السؤال: مادة التغطية الخبرية شاملة لبث لقاءات (الأمير) ورئيس
الوزراء واستقبالاتهما واحتفالاتهما في المناسبات الرسمية، وأن وسيلة
الإعلام المحلي لم تنشأ إلا لكمال هذه المادة الدعائية دون غيرها !.
ألغيت تردد فضائية البحرين، ورحت اشارك أولادي مجلسهم وترنمهم
بقصائد عاشوراء الرائعة بلا تردد، وتابعت معهم برامج فضائيات أهل البيت
(عليهم السلام) الجديدة التي سجلت كسبا مبينا لرضا الجميع برغم حداثتها
وقلة خبراتها وإمكانياتها المادية. ولها كل الفخر في شغل أفضل أوقات
متابعيها في مثل هذه الأيام، ولها كل الفخر أيضا في مهمة التثقيف بما
تمتلك من مواد أصيلة. ولا أجانب الحقيقة إذا ما قلت بأن هذه المحطات
باتت تغزو كل مساكن المواطنين لتعرفهم بعد الاستئذان بمعالم دينهم فضلا
عن بعض معالم أوطانهم. فبالأمس مثلا بثت فضائية (الزهراء) تقريرا موجزا
عن أكبر تجمع ديني ثقافي بحراني كانت تجري أحداثه على ظهر هذه الجزيرة
منذ القرن الثاني للهجرة، وفي عقر إمكانيات إعلامية محلية رسمية هائلة
تغافَلت وتجاهَلت عن عمد هذا التجمع ولم تقبل به تمثيلا لهوية ثقافية
أو تراثية محلية، لا لسبب مبرر، إلا لكون هذا التجمع يمثل الهوية
الطائفية السائدة التي لا تنسجم مع البيئة الفكرية الحاكمة ونظامها
العرفي، حتى باتت البحرين تتساءل عن دواعي هذا الغياب الصريح للإعلام
المحلي الرسمي وبعده عن تمثيل وقائع مازال المواطن يعدها معيارا دينيا
له أن يحدد بموجبه صدقية أية مرحلة سياسية وطنية إصلاحية.
فإلى متى سيبقى هذا الإعلام أجنبيا عن وقائع الساحة الشعبية،
والحال أن مشروعا إصلاحيا ممثلا للقانون يحكى عن التزام الجميع، الحاكم
والمحكوم، بنصوصه بعدل ومساواة ؟!.
والأعجب في ذلك أن البعض من الإعلاميين ممن حمل على عاتقه مهمة
ترويج مفاهيم المشروع الإصلاحي ذهب يبحث عن (كشبارة) في غير موضعها
ليصوب من خلال موضعها الخاطئ سهام نقده ثم راح يتباهى ببثه لبرنامج
تلفزيوني نقدي كان فيه وزير الإعلام – الحلقة الأضعف في توازنات الخلاف
حول التقسيم الرسمي الوظيفي – طرفا مساءلا بينما سُدت عينا هذا البعض
بقطعة خشب (مربعة فور باي فور) …فنأى بنفسه وقلمه عن تغطية أسباب
الموقف الإعلامي السلبي من مناسبات دينية (ثقافية تراثية) اشتغلت بها
جزيرتنا من أقصاها إلى أقصاها منذ القرن الثاني للهجرة ولا زالت تبدع
في صور إحيائها وتستقطب إليها مواطني دول المنطقة ممن يحب ويوالي أهل
البيت (عليهم السلام).
وهذه مناسبة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) قادمة، وهي مناسبة
عزيزة على قلوب أبناء البحرين والمنطقة جميعا، تجتمع لإحيائها كل
المناطق بلا استثناء وينفرد تلفزيون البحرين وفضائيته للإعداد برنامج
تغطية وقائع وادي أجنبي آخر ربما يكون غنائيا ماجنا أو رياضيا عبثيا.
وأتصور أن مناسبة الأربعين هذه ستشهد ظهور جليا فاضحا لقاسم مشترك بين
مرحلتي دولة قانون أمن الدولة ودولة قانون الإصلاح الوطني الراهنة،
وسيتمثل هذا المشترك السياسي والأمني والطائفي – كالعادة - في عناد
إعلامي مناهض لصور إحياء هذه الذكرى التزاما بمبدأ كسب رضا أعمدة
الدولة بلا أي وازع ديني أخلاقي أو مسؤولية وطنية.
فهل تجد أعمدة الدولة في ذلك تمثيلا حقيقيا لرؤيتها الدينية
واستفراغا لذمتها بقياسات المذهب الذي تعتنقه؟! |