اصدارات جديدة: مجلة عالم الفكر.. السميائيات ثورة معرفية

في التقديم لعذا العدد كتب المحرر:

تشكل العلامة أو الإشارة جوهر إبداع الإنسان وتطوره، وبات يعتمد عليها كلياً في تطوره المعرفي وتنوعه الثقافي، فمنها انطلق في اتجاه كسر قيود الوجود إلى آفاق أوسع عن طريق إبداعه أشكالاً تعبيرية ورمزية تعينه على التخارج والكشف عما بداخله، وأخذت العلامة تتطور في تاريخنا البشري كمحصلة لصيرورة تفاعل الذات مع الوجود، إلى أن أصبحت منظومة معقدة ومتشابكة نسعى من خلالها إلى توصيل معنى أدق وأوضح عن حقيقة التواصل فيما بيننا من جهة، وبين الوجود من جهة أخرى.

لقد أخضع الإنسان الطابع المركب لوجوده – الذي هو إفراز طبيعي لميراثه الثقافي – للدراسة والبحث، وذلك رغبة منه في اكتشاف قواعد سلوكه الرمزي، وكان نتيجة ذلك ظهور (علم السيميائيات)، الذي ستكون مهمته رصد وتتبع الدلالات (العلامات) التي ينتجها الإنسان من خلال جسده ولغته وأشيائه ومكانه وزمانه، وكذلك تعريفنا بوظيفة العلامة والقوانين التي تتحكم فيها، فأصبح مجال السيميائيات شاملاً ومتشعباً بحيث يشمل كل ظاهرة مهما كان نوعها، ما دام العالم الذي نعيش فيه غارقاً في العلامات.

إنها ثورة معرفية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد كان تأثيرها كبيراً بحيث تخطى الحقل الإنساني إلى مجالات معرفية متعددة؛ بدءاً من الأنثروبولوجيا إلى النقد الأدبي، وحتى التحليل النفسي. ويجب ألا نغفل دور ثورة الاتصالات في تطور علم السيميائيات في العقدين الأخيرين، وخصوصاً في مجال الإعلانات التجارية، التي كان لها الأثر الكبير في سرعة تنامي وتقدم هذا العلم.

لقد اهتم العرب بشكل كبير بعلم (السيميائيات)، وتجلى ذلك بوضوح في مجال النقد الأدبي والمسرح؛ فقد اعتمد كثير من الباحثين على دراسة النصوص الأدبية من خلال المنهج السيميائي، وكان لهم دور الريادة في هذا المجال. أما في مجال المسرح العربي فقد ساهم هذا المنهج في إثراء حركته كأحد أركان هذا المسرح، أو من خلال النقد المسرحي.

و(عالم الفكر) إذ تخصص محور هذا العدد لعلم السيميائيات لتأمل أن تكون قد أسهمت في إضافة لبنة إلى صرح هذا العلم.

للباحث الدكتور سعيد بنكراد نقرأ (السيميائيات: النشأة والموضوع) وللدكتور أحمد  يوسف نقرأ (السيميائيات التأويلية وفلسفة الأسلوب)تساءل فيها: هل في مقدور السيميائيات بعامة والسيميائيات التأويلية بخاصة الاهتداء إلى متصورات نسقية مفتوحة تضبط مقولة الأسلوب ومفهومه وفلسفته، وهي مقبلة على قراءة مركبة لحقول معرفية تسعى بدورها إلى البحث المضني عن المعنى وانزلاقاته، كما تتجلى في البلاغة واللسانيات وفلسفة العلم وتاريخه؟ إن النظريات السيميائية تحاول ما وسعها جهد المحاولات إلى ذلك سبيلاً أن تحيط بجملة من المسائل الشائكة التي تربط فلسفة الأسلوب بمفاهيم مجاورة له ومتباعدة عنه في آن واحد.

فما العلاقة التي تربط الأسلوب بالمنهج والبنيات اللسانية والخطاب وتاريخ العلم وفلسفته؟ لعل ما يضفي بعض المصداقية على مقاربة هذه المسائل العويصة وتلك يتمثل في الفضاء العام للسيميائيات الذي يكاد يتماهى مع (علم العلم) و(الإبيستمولوجية) و(نظرية الخطاب) و(فلسفة المعنى) وسيرورة (الدلالات المفتوحة) ودراسة (الأنساق الدالة) جميعاً و(المنطق الواصف وجبر العلامات)، حيث إن فيه متسعاً رحباً لمعاينة تلك العلاقة. فمن مقاصد فلسفة الأسلوب أن تتصدى للإكراهات السيميائية التي يبسطها التفكير الخطابي مستعينة بالتحليلين المنطقي واللساني، وعليها أن تتجاوز مشكلات العلم لتتأمل مشكلات (لغة العلم) والأنساق السيميائية الدالة بعامة في صورها اللغوية الطبيعية والاصطناعية على السواء.

نقرأ للدكتور الزواوي بغورة (العلامة والرمز في الفلسفة المعاصرة – التأسيس والتحديد) وللدكتور محمد مفتاح نقرأ (أوليات منطقية رياضية في النظرية السيميائية) وكتب الدكتور عبد القادر بوزيدة (يوري لوتمان.. مدرسة (تارتو – موسكو) وسميائية الثقافة والنظم الدالة) وكتب الدكتور مصطفى شادلي (في سيميائيات التلقي) يقول فيها :يبدو لنا أن سيميائيات التلقي تمثل لعدد متزايد من الباحثين العاملين في مجال السرديات وتحليلات الخطاب، إطاراً نظرياً مطابقاً – لأنه منفتح وقابل للإتقان – قادراً على الاضطلاع بالمقاربة الدلالية (بالمعنى الواسع للتسمية) للنص الأدبي من وجهة نظر القارئ أو المتلقي الأمثل أو المستهلك الفعلي.

فلا عجب إذا رأينا كل الجهاز المفهومي والمنهجي لنظرية التلقي السيميائية، كما نادى بها إمبرتو إيكو (1985) أساساً، يُبنى على إشكالية القارئ النموذجي المركزية، فهذا القارئ النموذجي يعقد صلات مع النصوص عموماً (بواسطة إوالية التناصّ التوليدية) ويقيم علاقات خاصة مع النص، موضوع التحليل (بواسطة إجراءي الاسترماز والتأويل، هذه المرة). وهذا يحمل المحلل السيميائي على إعادة التفكير في مساره القرائي من منظور الاستراتيجية المعرفية التي له قواعد وطريقة عمل خاصة بها. وتتطلب هذه الاستراتيجية الكشف عن البنى السردية والخطابية، وإيلاء الأهمية لفرضيات القراءة ووجهات النظر المعبّر عنها ضمن التخييل (أو العوالم الممكنة) ومستويات التعاون النصي التي تتطلبها القراءة.

ونقرأ للدكتور محمد الداهي (سيميائية الأهواء)التي راى فيها انشغال السيميائيون مدة طويلة بمعنى العمل أو حالة الأشياء (موضوع سيميائية العمل). وخلال العقود الأخيرة أصبحوا يولون أهمية لمعنى الهوى أو للحالة النفسية (موضوع سيميائية الأهواء). فإلى جانب أن العامل يعمل فهو يحس ويحتاج إلى الحالتين معاً لإثبات وجوده، والصدع بمشاعره ومواقفه وإدراك مبتغاه، والتأثير في الآخرين. وإذا كانت سيميائية العمل قد بلورت مع مر السنين عدة مفاهيمية، وراكمت تراكمات نظرية وتطبيقية كثيرة، فإن سيميائية الأهواء – رغم ما قطعته من أشواط، وسرقته من أضواء – مازالت تبحث عن تعزيز مكانتها داخل النظرية السيميائية العامة، وتحصين تراكماتها ونتائجها للتدليل على استقلالية البعد الانفعالي على المستوى النظري والتطبيقي على حد سواء. ويُعرف هذا الصنف من السيميائيات بأسماء أخرى على نحو السيميائية التوترية والسيميائية الاتصالية وسيميائية المحسوس.

استقطب الأهواء مجالات عديدة، بحكم أنها تمس جانباً أساسياً في حياة الإنسان، وهو ما يتعلق بحالته النفسية وما ينتابها من مشاعر وإحساسات متأرجحة بين اللذة والألم. و(يعد الشعراء أول من يقدم على مجال سيميائية الأهواء، لأنهم يصيخون إلى تقلبات واضطرابات المعيش قبل أن يُؤطَّر في الخطاب).

وتعتبر الأهواء محط اهتمام الفقهاء الذين يذمونها، باعتبارها مفسدة للعقل ومقوضة للإيمان، والفلاسفة الذين يقرنونها بالعذاب والضعف والفوضى والخطيئة الأصلية، ويعرفون بمحتوياتها ويرتبونها منطقياً ويضعونها في صنافات إيحائية، وعلماء الأخلاق الذين يحددون المعايير القيمية المتحكمة فيها وما تستتبعه من علاقات خاصة بين البشر، وينطلقون منها لتمييز الإنسان من الحيوان.

وللدكتور الطاهر رواينية نقرأ (سيميائيات التواصل الفني)ذكر فيها: تشمل السيميائيات ميادين بحث متنوعة جداً وخاصة أيضاً، وقد حظي التواصل والدلالة باهتمام خاص من قبل السيميائيين، وأدى ذلك إلى اختلاف بعضهم حول الموضوع الرئيس للسيميائيات؛ هل هو التواصل أم الدلالة، وانتهى الخلاف إلى الإقرار بأن العلاقة بين التواصل والدلالة علاقة جدلية.

وأن كل تواصل لا بد أن يتضمن دلالة في مستوى ما، أو أن يسهم في إنتاجها بالاعتماد على أنساق متنوعة وخاصة من التسنين الثقافي والاجتماعي واللغوي والإشاري والقيمي...، وهو ما جعلها تنفتح على عدد مهم من المناهج والإجراءات النسقية والتداولية المعتمدة في التحليل والقراءة والتأويل، بحثاً عن الدلالة في مختلف مجالات الحياة التي يمكن للتجارب الإنسانية أن تتأطر داخلها كوقائع قابلة للإدارك، ومنتجة للدلالة انطلاقاً مما تتميز به هذه الوقائع من بنية وتشكيل ومن أنساق وشبكات علائقية تتجلى على أكثر من مستوى. وتعد الأعمال الفنية – كعلامات أو ملتقى وتقاطع للعلامات الفنية – فضاءات خاصة تلتقي داخلها الممارسات الفردية الخلاقة والمبدعة بالوعي والتصور الاجتماعي للعالم ولمختلف القيم والتجارب الإنسانية الواقعية أو المتخيلة. وتشكل مدونات ووقائع متنوعة وغنية ومجالات خصبة للتحليل السيميائي، بدءاً بالتحليل المحايث وانتهاء بالتأويل والتفكيك الذي يتيح للأداة الفنية – مهما كان النسق اللغوي أو السيميائي الذي تتموقع داخله – أن تقول أكثر مما يكشف عنه مستوى التعيين، وأن تفتح مجال التأويل لينطلق في كل مرة من البواقي التي لم تستكشف أو لم تؤول، أو تلك التي تتوافر على طاقة دلالية كامنة تتيح لها خرق مفهوم المدلول النهائي، والانفتاح على ما هو متوقع أو غير متوقع من العوالم والدلالات.

وأخيراً كتب الدكتور محمد بادي (سيميائيات مدرسة باريس: المكاسب والمشاريع – مقاربة إبيستمولوجية).

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 14 شباط/2007 -26/محرم/1428