قد تكون مكة وعلى عادتها حاضنة لكل ما يطهر النفوس من الذنوب
والخطايا والدنس، هكذا هي مكة المكرمة، وهكذا عرفناها منذ بزغ عليها
ومنها فجر الهداية، ذلك الفجر الذي اصبح منارة سامقة المعاني لكل ما
يحيط بالتاريخ الاسلامي الديني والدنيوي على حد سواء، ولا شك بان الامل
المعقود في نفوسنا الان ونفوس كل الفلسطينيين وكل العرب وكل المحبين
والمناصرين للقضية الوطنية الفلسطينية يتسامق ايضا لما لمكة من وقع
مفترض في النفوس المتطلعة الى الالتفاف فيها حول كعبة المسلمين
المؤمنين وقبلتهم، وبالتالي، وافتراضا منا نحن الفلسطينيين فانه من باب
اولى ان تتحول القضية الخلافية بيننا الى قضية قابلة للتصالح مع الذات
في افياء مكة التي شهدت ما شهدت من احداث جسام عظام في تاريخ الامة،
سواء ما ارتبط منها بالصلح مع الاعداء او ما ارتبط منها بالعفو الكريم
عنهم فيما بعد في تلك العبارة التي ذهبت مذهب المثل الاخلاقي العام
الذي تختص به اخلاق الامة الاسلامية في كل مكان وزمان مع اعدائها
ومحاربيها ( اذهبوا فانتم الطلقاء)، تلك العبارة التي لا زلنا نفاخر
بها في كل موقعة على المستوى الفردي او حتى على المستوى العام الذي يخص
الامة، ويجب ان يبقى في اعتقادي ديدنا قائما في اعرافنا النفسية التي
تشكل روحية الامة في القدرة على كظم الغيظ وما ينتج عنه من جروح وندوب
حتى لو كانت غائرة في الروح والجسد ( والكاظمين الغيظ العافين عن
الناس).
اجدها فرصة مشتهاة من اعظم الفرص الفلسطينية على الاطلاق، تلك
الفرصة المتعلقة بالتفاف الاخوة حول طاولة الكعبة، حول معانيها
ومقتضياتها، وحول اول بيت وضع للناس ببكة مباركا، عسى ان تتحرك النفوس
وتخشع لذكر الله الذي يحثنا في قوله ( وان طائفتنان من المؤمنين
اقتتلوا فاصلحوا بينهما)، فرصة متميزة، ومن الفرادة بمكان يؤهلها لان
تتربع على عرش الفرص، سابقها ولاحقها، في لم شمل الفلسطينيين الذين
انفلت عقالهم ومال الى الجنون اكثر من العقلانية، فرصة لتذكيرهم بحتمية
الرضوخ الى الامال الشعبية التي باتت ملفوفة بالاحباط والتراخي
والتكاسل وربما الاقتراب من النزع الاخير الذي يقربنا من موت الجسد
الفلسطيني الذي بدأ يستسلم لامراض الانفلات والتفلت واستشراء الاحقاد
في نفوس الاخوة الذين ما تمنيانهم وما تخيلناهم ولا اردناهم في هذه
الصورة المتفسخة التي يبدون عليها.
قمة مكة المرتقبة، اراها قد تعيد تذكير الاخوة باخوتهم، تذكيرهم
بواجبهم الوطني والديني في الاتفاق على صون الدماء والارواح، ذلك ان
شعار الحفاظ عليهما بدأ يتساقط من قواميسنا كما اوراق الشجر في خريف
قاس يعمل على تعرية ما اجسادنا من ثياب الحرمة والقداسة والارتقاء،
صحيح بانني لم استجل ولم اقف على اعتاب النوايا التي تقف خلف الرغبة
في اللقاء المكي بعد، ولكنني عازم على الامل والصدقية العالية التي
اعلقها على صاحب الدعوة الكريمة والحكيمة في ذلك ( المملكة العربية
السعودية)، مع عزمي طبعا على التصديق بحسن النوايا الفلسطينية التي
سارعت الى الترحيب بالدعوة بدون اي اشتراطات، مسارَعة اخالها وآملها
صادقة بعيدة عن الرياء الذاتي الذي ارهق عقولنا وضمائرنا لكثرة ما
تناقض الواقع مع الشعارات التي تطلق من هنا او هناك.
بمعنى اخر، استيطع القول بان لقاء مكة، او قمة مكة، هي لقاء الفرصة،
كما كان لقاء الطائف الذي اثمر اتفاق الطائف لبنانيا وحقنت بموجبه
الدماء اللبنانية، واخرست تلقاءها كل الدعوات والنفوس والاسلحة المريضة
التي دأبت على تمزيق الجسد اللبناني في ذلك الحين، وهو الامل ذاته الذي
يحق لكل الفلسطينيين الان ان تقف قلوبهم معه نبضة بنبضة وهم يرمقون
قادتهم بعيون ملؤها الامل والرجاء في اقناع الذات بان الوطن اغلى منهم
جميعا، بان الدماء يجب ان تصان من جديد، وبان الارواح المسافرة ستكون
حسابا عسيرا لهم امام الله في يوم من الايام، اعتقد، واتمنى ان يكون
اعتقادي في محله، بان هذا اللقاء يجب ان يكون املا دافعا، وقوة متدفقة
تسري في الجسد الفلسطيني من جديد، ذلك ان النفوس تعبت وملت، تعبت
اقتتال الاخوة، وملت لون الدماء المراقة هنا وهناك، تعبت من الموت
المأزوم الذي لا يتمناه احد فينا لنفسه او لذويه، ملت الشوارع من ازيز
الرصاص المخيف والمرعب، وملت النساء من الخوف على اطفالهن وبراءتهم
المهدورة مع كل قذيفة او رصاصة او عبوة ناسفة هنا او هناك، تعبنا نحن
ايضا من الاخبار التي تحملها لنا الرياح الفاسدة باغتيال من هنا
واغتيال من هناك، مللنا من التخوين ومن التجريح، بعدما اكتشفنا بان
الوطن قد تحول الى ضحية جريحة دائمة النزف على الرغم من توفر الدواء
بين يدي ابنائه.
اقول لمن قد ينفعه حسن القول، من العظيم جدا ان نبدأ الان بالتفكير
العميق ما بين النفس والنفس، وما بين النفس وتعليلاتها، ومن ثم ما بين
النفوس المتآخية قبل الذهاب الى مكة بقدسيتها وعظمتها المادية
والمعنوية، التفكير الجدي بتطهير العلاقة المتاخمة الان للعفن القاتل
في شكله ورائحته، والتفكير بعمق اكثر في ان تكون مكة مولدا لميثاق مقدس
غليظ يتناسب مع قدسية المكان الذي يحج اليه الملايين تقربا من الله
شهرا اثر شهر وعاما اثر عام، طلبا لعفوه ومغفرته ورحمته وهدايته، حيثية
اتمنى ان يفكر فيها كل المدعويين كما فكر فيها وبحكمة مطلقة اؤلئك
الداعين لهم، لما قر في انفسهم ممن قداسة مكة وطهارة القضية التي ستعرض
فيها، وهو تحريم الدم الفلسطيني المهدور دون حساب لحرمته او قدسيته.
ان الامال المعقودة على قمة مكة، من الممكن ان تتحول الى وقائع على
الارض وبسرعة كبيرة جدا، اذا ما قام المجتمعون اذ ذاك بالتفكير الملي
في حلحلة القضايا الرئيسية المثيرة للخلاف والتأزيم الدائم، والذي لا
اراه مستحقا لكل ما جرى او يمكن ان يجري، سواء بتخطيط واصرار او بعفوية
مطلقة باتت مكبوتة في كثير من النفوس. الان وقد حان موعد لنا مع الفجر
الذي بزغ من مكة، على المجتمعون ان يتجردوا من انانيتهم الحزبية، ان
يستقبلوا وجه الله مخلصين له الدين والنية، متطلعين الى مستقبل خال من
الاحقاد، مع تذكيري لهم بان الفشل في هذه القمة يعني فشلا مستقبليا
محتما لا افتكاك من اثاره على المستوى التاريخي والاستراتيجي الحاسم،
على الاباء والابناء، على التركة الحاقدة التي ستخلفها هذه الازمة اذا
ما استمرت على حالها، على مستقبل الفلسطيني الذي سيعاني اجتماعيا
واقتصاديا لعشرات من السنين القادمة وربما اكثر، عليهم ان يتأملوا مليا
في رحاب الله، مذكرين انفسهم بان مكة هي ارحب مكان على هذه الارض
ليقولوا فيها كلمتهم المدوية والحانية في نفس الوقت ( اذهبوا فانتم
الطلقاء)، متذكرين كلام الله ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)،
ولهم بعدها ان يتخيلوا كم سيكون الشعب الفلسطيني والعربي وكل الشعوب
المحبة سعيدة وراضية ومهللة لتسامح فلسطيني نعقد عليه امالنا المشتركة
في عيش كريم لا تشويش فيه.
انا متأكد باننا مقبلون على قمة عظيمة، لن استغرب فيها ان يخرج
المتخاصمون وقد علت الابتسامة وجوههم، وقد لبس الرضى محياهم، وهم
يعلنون ان الاخوة الاعداء قد اصبحوا اخوة اصدقاء، اخوة متحابين في
دينهم وشعبهم ووطنهم وانسانيتهم، لا تعقيب عليهم الا من شعب احب ان
يحيا حرا كريما متطلعا ان يكون امله في الحرية والاستقلال والكرامة
واقعا ماديا بعد امل طال اختزانه في ردهات النفوس. |