الكتاب الضخم الذي صدر لحليم بركات باسم "المدينة الملونة" جاء
تسجيلا موحيا مؤثرا لمزيج من الذكريات والامال والاحلام والخيبات على
امتداد نصف قرن من الزمن في ذلك "المصهر" البشري الحضاري اي منطقة راس
بيروت احدى اكثر مناطق المدينة الملونة التصاقا بالذاكرة اللبنانية
والعربية فكريا وادبيا وفنيا.
يقدم حليم بركات وفي كتابة ممتعة كما تنقل رويترز "تسرق" القارىء
بسردية اخاذة مضمخة بالشعر لا قصة شعب ومدينة فحسب بل قصص فقراء
وطامحين واناس اخرين من "بيارتة" وغرباء نازحين بفعل الفقر او السياسة
والظلم. انها خيوط ملونة مميزة ما لبثت ان "تبيرتت" من خلال مصهر راس
بيروت.
بركات عالم الاجتماع والباحث والروائي البارز وصاحب الكتب العديدة
من روايات ودراسات والاستاذ الجامعي في بيروت والولايات المتحدة كتب في
ما يشبه سيرة ذاتية من ناحية وقصة احداث وافكار شكلت تاريخ مرحلة لا في
لبنان فحسب بل في المنطقة العربية احيانا.
يسرد حليم ويتذكر الشخصي والعام ويحلل ويحاكم النفس والاخرين ويتنقل
بين الماضي والحاضر والمستقبل.. بنص هو نسيج من الروائي رغم واقعية
معظمه ومن نظرة عالم الاجتماع -فكثير مما يورده يشبه الدراسات
الاجتماعية- والمحلل الفكري والسياسي.. لكنه دائما دائما يروي بشعرية
واضحة عما بدا في مجمله فردوسا مفقودا على رغم كثير من الالام الماضية.
كتاب بركات الذي صدر عن "دار الساقي" جاء في 539 صفحة كبيرة القطع.
امضى حليم سنوات طويلة في الولايات المتحدة حيث حصل على الدكتوراه
بعد تخرجه من الجامعة الامريكية في بيروت ثم قام بالتدريس في هذه
الجامعة مدة قبل ان ينتقل الى التدريس في الولايات المتحدة. الا انه
كان يعود في استمرار خاصة خلال الصيف الى بيروت مدينته الملونة والى
مسقط راسه قرية الكفرون السورية التي غادرها الى بيروت مبكرا. وقد صدر
الكتاب قبيل حرب اسرائيل على لبنان في يوليو تموز الماضي.
في بعض كلمات حليم اختصار لكثير من معاناة بيروت ومعاناته من اجلها.
يقول مختصرا مراحل مختلفة من احداث المدينة خلال دمارها وبعد اعمارها
"عرفت جيدا ان بيروت ليست المدينة التي تنام باكرا مع العصافير وان
ليلها اجمل ما تعد به سكانها وعشاقها في مختلف الفصول. غير اني نسيت
وانا اتجول في وسط دمار ساحة البرج ما حفظت من تبجيل لبيروت حين
استرجعنا تفاصيل حياتنا فيها... وحين واجهت الدمار العبثي اثر الحرب
الاهلية الثانية. انهارت داخل نفسي الاساطير التي حيكت حول لبنان
فاقتنعت بانه كلام كان يقوم على اسس واهية لم تصمد عندما عصفت به
وببيروت رياح الازمات العاتية... وها قد مضى ربع قرن وما زالت اثار
الحرب المجنونة تلك تتفاعل فتعيش مع ناس وأزمة وذاكرة هذا الوطن وهذه
المدينة المنذورة لتعيد بعثها بعد كل حرب وبعد كل موت..."
وفي حديثه عن الرواية قال ان المخيلة "شاءت ان تكون الرواية تاريخ
حياتنا اليومية واسطورة تربطنا بما غاب وبما سيحضر. تبدأ تلقائيا من
الداخل الى الخارج ومن الخارج الى الداخل... وكان ان اردتها رحلة
سندبادية لاستكشاف بيروت والذات واسرار العلاقة بينهما. انا لست هي ومن
الاكيد انها ليست انا..."
الجزء الاول من الكتاب حمل عنوانا هو "استكشاف المدينة من داخل
دمارها ( في الربع الاخير من القرن العشرين وبدايات قرن جديد."
يقول حليم بلسان نادر الكفروني راويته و"بطله" والاسم الاخر لحليم
بركات في الرواية انه حرص خلال الربع الاخير من القرن العشرين على
العودة سنويا الى بيروت "مما اتاح لي التامل في الدمار الذي اصابها
وسعيها لولادة جديدة من رمادها... ووجدتني ايضا من حيث لا ادري استعيد
ماضيها في منتصف القرن وهو زمن فتوتي فخضت احاديث ممتعة ومثيرة مع نفسي
والاخرين وكثيرا ما تحولت هذه الاحاديث الى نقاشات حامية مرة بعد ان
تجولت وسط الدمار... انت يا نادر الكفروني لا تعرف هل دخلت بيروت من
بوابة الف ليلة وليلة ام دخلت حكايات الف ليلة وليلة من بوابة بيروت..
واهم من هذا هل اردت ان تسجل سيرة شبابك انت ام سيرتها هي.."
يقول نادر الكفروني "في وسط الدمار اطللت على بيروت الخمسينات من
شرفة نهاية القرن العشرين وبداية قرن جديد فاستيقظت الذكريات من رماد
الحاضر كما لو كانت طائر الفينيق. وهم بل خداع هو الحديث عن لبنان سابق
متسامح ومتعايش. الحرب بدات قبل ان تبدأ في التعصب والادعاء والجشع
واستحال البلد الجميل من حيث لا يدري تنينا مستعدا لالتهام بناته
الجميلات واحدة بعد الاخرى. لذلك نسال هل لبنان ضحية الاخر ام ضحية
نفسه ام كلاهما معا.. في مطلع الخمسينات ولدت طموحات لا حصر لها. بدأ
زمن الدولار.. ارتفعت الاسعار. اقتحمت القرية المدينة والمدينة القرية.
جرى هجوم على الطبيعة كما لو انها عدو. التهم الجشع الروح. انهار كل ما
هو عام وكاد كل ما هو خصوصي ان يفقد خصوصيته. ومع هذا عشت ايامي بحفاوة
كما لو انها كتاب أقرأه مأخوذا به..."
حديث عن الام الرائعة المناضلة التي ترملت مبكرا ولها عائلة تريد
لها حياة افضل مما فرضه عليها القدر فتركت قريتها الى بيروت التي عرفها
الكاتب منذ طفولته. يقول نادر -لسان حال حليم- مخاطبا احد اصدقائه
"يوما ما سأخبرك دكتور اوراسيو.. بعض حكايات كفاح ونضحيات امي وابنة
عمي بهية. للاسف لا استطيع ان احكي قصتهما المتداخلة مثل جذور صفصافة
قديمة على حافة النهر. امي كافحت من اجلنا وكانت تعتبر نفسها محكوما
عليها بالعذاب في سبيل النهوض بعائلتها بعد موت زوجها باكرا. اما بهية
فنزحت وحيدة وارادت ان تتحرر من الفقر وتحرر عائلتها معها. نجحت في
المهمة الاولى وفشلت في الثانية فاستولى عليها احساس عميق بالخيبة لم
تتغلب عليه حتى الان وهي تقترب من حافة قبرها الذي تريده في بيروت
واتمناه لها في الكفرون حيث يعرف الناس من هي وماذا تعني..."
تحدث عن نادر الولد الكفروني واخيه واخته في المدينة الملونة وجهاد
الام وتاثيرها الكبير.. ثم عن الدراسة والتقدم فيها وعن دخول الجامعة
الامريكية في بيروت والعمل.. وعن السياسة احداثها والاهتمامات الوطنية
في فترة الشباب واثر انطون سعادة فيه وحزبه السوري القومي الاجتماعي.
وتجدر الاشارة الى ان ثلاثة كتب قيمة لاسماء معروفة صدرت في فترة
الاشهر القليلة المنصرمة تحدثت بطريقة او اخرى عن اثر سعادة في كتابها.
انها كتاب بركات وكتاب للمؤرخ الباحث "انيس الصايغ عن انيس الصايغ"
وكتاب "حفاة وعقارب" دفاعا عن المقاومة لنصري الصايغ. وليس بين
الصائغين اي قرابة عائلية.
نلتقي اسماء ادبية عديدة عند حليم. ادونيس ويوسف الخال وانسي الحاج
وجبرا ابراهيم جبرا ومحمود درويش وكثير من الاصدقاء الاخرين. ويلفت
النظر هذا الاختلاف المبكر بين نظرة يوسف الخال تلميذ الدكتور شارل
مالك وبين نظرة حليم بركات المنفتحة الى لبنان والعروبة والعلاقة بين
الشرق والغرب. كتابة حليم الحارة انسانية و"معدية" حيث تضع القارىء
الذي يستبد به الحنين .. وسط دفء عالم افل وحكايات بيروتية عتيقة..
اناسا وجيرانا وعادات وعلاقات وشوارع وحارات اكل الزمن من كل ذلك
الكثير الكثير.
الدكتور ماهر جرار عرض باعجاب كتاب "المدينة الملونة" لكنه تمنى لو
انه جاء على قدر اكبر من الاختصار احيانا. كتب جرار وقد ايقظ نادر
الكفروني في نفسه تاريخ عائلته و"جمال" ايامها الماضية رغم المعاناة
الشديدة بدفء ايضا في مطلع مراجعته للكتاب "هل كانت جدتاي ام مهيب وام
احمد تعرفان ام نادر الكفروني.. هل تعارفن او التقت طرقاتهن في ازقة
راس بيروت في اربعينات وخمسينات القرن الفائت... حملت ام مهيب اولادها
الستة -اربعة صبيان وبنتين- بعد ان ترملت باكرا مثلها مثل ام نادر
وانتقلت بهم من )منطقة/ برج ابي حيدر... الى راس بيروت... ام مهيب..
تمام ابو خير مارونية من بيت الدين تزوجت من منيف نور الله السني من
بلدة جيلة جنوبي اللاذقية (في سوريا)... اما ام احمد جرار الفلسطينية
من حيفا فقد تزوجت من قريبها محمد مسعود جرار... انتقلت ام احمد مع
اولادها الثلاثة -صبيين وبنت- من جنين الى راس بيروت عام 1938 اثر
اعتقال السلطات الانجليزية زوجها اثناء ثورة القسام وتكرر الاعتداءات
الانجليزية على الضياع والقرى..." |