على هامش النقد والإبداع

أمل فؤاد عبيد - غزة

 إن تجسيد المطلق في النسبي المحسوس.. هي لغة الفن/ الإبداع المباشرة.. ولكن يبقى هناك حيزا مقابلا من الفضاء اللامتناهي.. يمتلئ بقراءات متنوعة التأويل عن طريق المتلقي.. فكل قراءة هي امتداد للنص خارج حدود تشكيله الأول.. وهي أيضا استنتاج المعنى.. أو لنقل تحصيل حقيقة المعنى.. إذ إن مطلق الحقيقة يتوالد مرات ومرات.. عبر سطح النص ومن باطنه.. والفن المقروء أو المسموع أو المرئي لا خلاف في انه منطقة لعب جميلة.. لجدلية المطلق الإنساني في قلب مطلق الكون.. عبر آليات الخلق والتكوين.. فإبداع الصورة التشكيلية أو الكادر الحركي أو الصورة الشعرية أو القاطع الموسيقي.. يبقى ترميزا معقولا لكشف حقيقة تفاعل مطلق المبدع مع مطلق الكون.. وترجمة هذا التفاعل عبر سياق فني أو منتوج حسي مباشر يتعامل معه الآخرين على ذات المستوى.. أي من خلال مطلقهم الفردي.. حتى يتم كشف هذا المطلق لا بد أن تكون القراءة فعالة بالضرورة.. من هنا كان النص العالمي.. هو الأكثر لمسا أو قربا أو احتواء لهذا المطلق الشامل.. حيث لا يتحدد انتمائه.. فهو النص غير المنتمي بمعنى اللغة..

أي انه لا يتحدد في سياق أو منظمة أو لا ينتمي إلى سياق محدد أو منظومة واحدة محددة.. من هنا كان الأدب العالمي أكثر التماسا لمناطق المطلق.. مثل شكسبير مثلا.. لقد لمس مناطق الخلاف الأزلي والأبدي.. بين الخير والشر.. وصراعهما في مطلقهما التي تجاوز شكسبير من خلالها ما لهذا الصراع من خصوصية محددة.. لذلك اتخذ أدبه سمة العالمية لتجاوزه حدود الزمان والمكان.. كذلك النص القرآني وكذلك أي فن له قيمة تعلو على حدود الانتماء المغلق أو الضيق.. وكذلك كل إبداع يتجاوز شخصيته الخاصة.. بأن يبدع كينونته المطلقة.. وذلك من خلال حدس المطلق الذاتي للمبدع وتفجيره من قلب المطلق الكوني في ذات الوقت والتماس منطقة اشتباكهما أو تداخلهما أو لحظة انبثقاهما.

ومن ثم يكون قادرا على إيصال ملمحا إنسانيا عظيما.. هو القيمة النهائية والمطلقة.. أيضا.

من هنا أيضا نجد أن النص/ الإبداع الفلسطيني المقتصر على حدود المعاناة الملموسة.. غير ذلك الذي يخرج بمعاناة الإنسان خارج حدود منطقته أو معاناته.. بان يلتمس في اللغة وفي النص مناطق اشتعال.. الحس الوطني وارتباطه بالأرض.. كموطن يتجاوز الحسي.. بأن يتحقق من مقولة الوطن.. قيمة مطلقة في ذاتها.. ولا يقف الحد عند هذا الموطن الحسي.. من خلال حدود وتضاريس وجغرافيا.. ولكن.. من خلال مفهوم الانتماء العميق لهذه البقعة من الأرض والمبرر القوي لهذا الانتماء..

 ذلك أن مطلق الفرد منا يتحدد عبر آليات وحدود هذه البقعة بالذات التي تسمى وطن.. أما ما يلمس مناطق اجتياح الشعور.. وتقليص نسبة الحرية.. في ممارسات الفرد أو مطلقه داخل وطنه.. هو ما يدفع بالكاتب أو المبدع إلى الشعور بالعكس.. ومن ثم يبحث عن مطلقه هذا وحريته.. داخل حدود وسياج اللغة.. وذلك بأن يخلق عالما مثاليا بالضرورة.. يتوسم فيه.. تحقيق مطلقه والشعور به داخل صور معاناة الوطن أو محاولة البحث عنه داخل مطلق الكون.. بحثا عن سر وجوده والغاية منه.. من ثم يتمتع الأدب بهذه الكيفية.. بكونية خاصة.. وهو الأدب الذي.. يخلد الشاعر أو المبدع.. ويبقي الوطن / أو المكان.. حيا حتى على مستوى المعاناة.. وهو بخلاف الإبداع الذي يتخذ طابعا سياسيا.. فإنه يبقى عاجزا عن توصيل هذا الإدراك بالمطلق الفردي من خلال التعبير عن الانتماء..

ولنا في نجيب محفوظ مثالا واضحا حيث كان موفقا لابد مدى في التماس مطلق العامة.. في الوصول إلى مبررات وجودهم.. من هنا كانت عالميته.. وخصوصيته في ذات الوقت..

إن البحث عن مطلق البشرية.. العامة منها والخاصة.. يبقى أسيرا لحظة كشفه.. إما بالتعري.. أو بالتخفي.. ذلك أن الكاتب عندما يتقنع الأشخاص.. يحاول إبراز كينونته من خلال كينونتهم.. ومن ناحية أخرى قد يتخفى سطر إبداعه.. قيمة الكشف.. عبر آليات انعكاسية.. ذلك من خلال تحاوره المباشر عبر نصه أو إبداعه.. يحاول الكشف أو هي محاولة البحث عن سر وجوده ومطلق كينونته من خلال أبطال إبداعه أو شاعرية أبياته.

 وكلما لمس هذا مناطق بعيدة الغور لدى القارئ.. وساعده على كشف كينونته.. كان هذا الإبداع أكثر تأثيرا.. ومن ثم كان أكثر جدوى وأبعد أثرا.. فإن التماس مناطق التقاء الغايات مباشرة بين المبدع والمتلقي وذلك من خلال ذكاء الوسيلة.. وهي كما قلنا بفاعلية مناطق الالتحام بين مطلق الفرد/ المبدع ومطلق محيطه أو كونه الخاص.. والذي يبقى مسألة مرهونة لعبقرية الكاتب.. يكون تأثير هذا قويا وجذابا.. في ذات الوقت.. من هنا أيضا لنا أن نقول إن ليس كل كتابة تحتمل هذه القراءة.. حتى لو كانت منتوج لمعاناة لا سبيل للإقلال منها.. ولكن هذا يدفعنا إلى طرح سؤال مهم.. لمن يكتب الكاتب في الحقيقة.. لمحيط بيئته.. أم هو رسول قيم على تقديم أنقى حقيقة لواقع ماساته أو معاناته أو واقعه.. ؟ بالطبع إن تفرد الكاتب بموهبته تجعله قادر على أن يستحث قراءة عقله ووجدانه بكثير من الكشف واليسر أيضا.. لذلك لربما كما قيل في الثقافة اليونانية إن الأدب ما هو إلا وسيلة للتطهر والتطهير.. ولكن في رأي الخاص أيضا أن الكتابة هي بحث قي سياق الذاكرة والحضور في آن. حيث كما يتوسم الكاتب من خلال كتابته أن يعبر عن ذاته.. فهو أيضا.. يحاول البحث عن هذه الذات.. أو بمعنى وطبقا لما سبق.. فهو يبحث عن مطلقه البعيد.. ضمن قوالب الصورة أو الصور التي يعبر من خلالها.. هذا المطلق قد يكون في شعوره بالحرية.. أو غايته التمرد على مشاعر معينة أو أوضاع معينة.. من ثم.. يأخذ اللغة وسيلة له لخلق عالم من الوقائع يتوصل من خلالها إلى غايته.. ومن هنا كلما كان الأدب قادر على أن ينتقل بالمبدع من حيز حدوده الضيقة ويكشف عن البعد الكوني الذي يتوافق مع غيره فيه أو من به أو يتحد من خلاله مع نقاط التقاء مع الآخر.. يكون قد توصل من غاية هذا الكشف.. تعري الحقيقة.. وليس تعري ذاته.. من هنا تعددت أوجه الحقيقة.. لتعدد جوانبها.. وتحصيل تقاطعاتها.. عبر التقاءات تقع في ذات التبئير.. من سردية هذه الشاعرية الكونية أو هذه الصورة أو هذا التمثل الكوني.

 وكلما التذ الكاتب إبداع كينونته عبر الكوني والشامل والمطلق.. التذ أيضا.. شعوره بالنشوة عند الكتابة.. فيروق له.. التقاء الحقيقة بأوجهها المتعددة في كل مرة.. ولكن نلاحظ أن الكاتب.. يجمع بين إبداعه.. خيط رفيع.. هي أداته التعبيرية وأسلوبه في الكشف واختراع المعنى أو أسلوب احتوائه.. ومن كل ما سبق تتحقق المصداقية الأدبية.. وهي غير مصداقية العلم او النظريات العلمية عندما تتوصل إلى حقيقة الأشياء والوقائع.. إنما مصداقية هذا الإبداع تكمن في تمثل المبدع للحقيقة الإنسانية في شكلها الكوني.. أو البالغ عمقه.. وتجذره في الإنسان.. بهذا المقياس يكون الحكم على النص الأدبي.. بما له وعليه.. عندما يعطي للناقد فرصة ليس للحكم عليه بقدر ما يعطيه فرصة ان يستولد المعنى في أثواب عديدة.. تثري النفس والروح. مع كل قراءة.. وهو ليس وقفا على الكاتب.. وإنما أيضا الناقد والقارئ يتطلب منه اقتحام جدارات النص والوصول إلى المعنى البليغ والحقيقي.. أو أن يلمس أعتاب الحقيقة ويتلمس خيوطها ووجودها.. هذا هو سر تفاعل واستمرار طلب الأدب والإبداع كوسيلة خلق وإمكان.. لتحقيق مطلق الإنسان.. في كامل إبداعه ومطلقه.. توازيا مع مطلق الحقيقة والكون.

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 4/كانون الثاني/2007 - 13 /ذي الحجة /1427