فينومنولوجيا العولمة تعريفها وتاريخها

أمل فؤاد عبيد 

 الاختزال الفينومنولوجي

هو المنهج الأساسي الذي وضعه هوسرل للتأدي على المجال المميز للفينومنولوجيا ولإثارة المشكلات داخل هذا المجال.. وينحصر هذا المنهج في وضع العالم بين قوسين أي في تعليق الحكم على العالم الواقعي الذي نعيش فيه.. والامتناع منهجياً عن إصدار أحكام وجودية تتعلق به.. وإذ ذك يبدو لنا العالم بوصفه ظاهرة مباشرة للشعور الخالص أو الوعي.. ويتجلى لنا ماهية الشعور أو الوعي هو كونه وعياً بوجود شيء ما.. ومن ثم تتحدد مهمة الفينومنولوجيا في وصفها بنيان الشعور الخالص في علاقته بموضوعات العالم.. واستخلاص معنى الظواهر بإرجاعها إلى البنيان المقابل لها من الشعور الخالص.

ليس معنى الاختزال الفينومنولوجي إنكار يقين الإدراك الحسي والموقف الطبيعي من العالم.. وإنما معناه ضرورة الابتعاد مؤقتاً عن هذا اليقين البديهي الذي يفترضه كل فكر وكل فعل وكيما يتسنى إبرازه وإيضاح دلالته.. أي أنه يجب كما يقول هوسرل أن نكف مؤقتاً عن التواطؤ مع العالم لكي ننظر إليه نظرة جديدة تكشف عن معنى العالم وعن أصل الظواهر في الشعور الخلاص.

من ناحية أخرى كان لسارتر فضل توظيف التفكير الفينومنولوجي وتطبيقه.. وهو المنهج الذي أحدث انقلاباً في مجال الفلسفة المعاصرة وعلوم الإنسان ولا سيما علم النفس.. واليوم لنا أن نطبق هذا المنهج على ظاهرة من أخطر الظواهر أل وهي العولمة.

يقول محمود أمين العالم: إن العولمة بغير شك مصطلح جديد يعبر عن مفهوم جديد كذلك.. وإن لم يكن مفهوماً جديداً كل الجدة.. ذلك أنه لا يعبر في تقديره عن قطيعة معرفية مطلقة عما سبقه من مفاهيم في مجاله المعرفي.. وإنما عن تطور مفهومي متوافق مع تطور موضوعي 1.. كما يقول أيضاً: إن العولمة – رغم اختلاف دلالتها الأيديولوجية – باختلاف الرؤى والمواقف منها – ظاهرة موضوعية تاريخية وليست مجرد أيديولوجية ذات دلالات مختلفة1.

من نافلة القول أن نعيد التأكيد مراراً على أن العولمة من الظواهر التاريخية الصعب توضيح معناها أو تحديد محتواها بصورة نهائية.. وليس ذلك غلا لأنها ظاهرة مركبة ومعقدة لدرجة بعيدة.. وهذا العقيد والتركيب ما هو نتيجة تشابك مجالاتها وتداخل تجلياتها وفاعليتها المتبدية في كافة المستويات.. دون استثناء يذكر.. وهو ما يعتبر من أهم العوامل أو الأسباب المباشرة لظهور هذا التركيب المجتمعي والتداخل المشتبك بين كافة فعاليات المجتمع بكل ما يحويه من مضامين صعب إجمالها في تعريف شامل وكامل ونهائي. والعولمة على اعتبار أنها ظاهرة تاريخية متداخلة ومتراكبة تتجلى مفاعيلها بصورة مباشرة  في بعض النواحي وبصورة غير مباشرة في البعض الآخر.. لذا كان من الصعب توضيح أو وضع صياغة لغوية شافية تفي بغرض التعريف.. الذي يغني عن مقولات مختلفة ومتنوعة.. وصياغات متباينة.. لكن بالرغم من ذلك نستطيع من خلال التعريفات المتنوعة والصياغات الكثيرة هذه أن نستخلص أهم خصائص هذه الظاهرة من كافة التوضيحات والتعريفات التي غطت كثير من جوانبها دون إمكانية الاستغناء عن جمعها في بوتقة واحدة.. قد لا تكون مستوفية حق التعريف وهي متفرقة.. وذلك أنه من الصعوبة بمكان تحديد صياغة تعريفية دقيقة للعولمة.. فهي ظاهرة غير مكتملة الملامح والقسمات كما يقول د. سيد ياسين.. فهناك تعريفات وقفت على التغيرات الاقتصادية وجملت ما حدث من تطورات.. وهناك تعريفات اهتمت بالتأثيرات السياسية على اعتبار أنها تأثيرات تابعة قد ترتبت على التغيرات الاقتصادية وتطوراتها.. وهناك من التعريفات ما اختص بالجانب الثقافي – الاجتماعي بما فيه من خصوصية وتفرد.. وهناك من التعريفات ما شمل أكثر من جانب.. كما أن بعض التعريفات قد يكون مجملا كافة المظاهر أو التغيرات والتطورات الاقتصادية والسوسيولوجية والسياسية والثقافية.. على اعتبار أنها تمثل مظاهر متشابكة مع بعضها البعض ومتلازمة التأثير والتاثر لا يمكن الفصل بينها.. ولكن يمكننا القول أن كل تعريف كان مقصوداً به غاية محددة يسعى غليها الباحث.. والذي لا هدف له في نهاية الأمر سوى تحديد جانب من جوانب هذه الظاهرة التاريخية.. بكل ما فيها من ترابط وتجاذب وتفاعل.

بينما حددت بعض التحليلات وصفاً شاملاً لهذه الظاهرة من خلال تعريف جامع لأطرافها.. ففي تقرير (حوارنا الكوني) المقدم حول (حاكمية قيادية كوكبية) في عام 1994 عرفت العولمة بأنها تحرك متسارع نحو عالمية متكاملة عززه إلغاء القيود التنظيمية والتفاعل مع التغيرات المتسارعة في تكنولوجيا الاتصالات والحاسب2.. لذا نرى أنه من الضروري التمييز بين التعريفات الأكاديمية والتعريفات التوضيحية التي لا  هدف لها سوى تقديم تحديد دلالي موجز.. شارح لظاهرة العولمة بصورة مجملة دون التفصيل الذي هو ضرورة من ضرورات البحث العلمي في خصائص الأمور و/أو تحديد مدلولات المصطلح (العولمة) بصورة علمية أكاديمية.

مصطلح العولمة 

في بادئ الأمر لا بد من تقديم تحديد لغوي للمصطلح ذاته.. فنجد المصدر اللغوي لكلمة عولمة هو (علم) على وزن (فعل).. و(عولمة) على وزن (فوعلة) وهو ما يوحي بأن التأثير الصادر عن الفعل هو المقصود به.. وهو ما تركز عليه الكلمة.. أي أن المفعول به أو(ما يقع عليه الفعل) هو المفروض رصده ومتابعة تحولاته.. ذلك أن العولمة " في مفهومها العام وكما تدل الصياغة اللغوية ذات مضمون  ديناميكي  يشير إلى علمية مستمرة من التحول والتغير.. إنها اتجاه متنام" 3.. من جانب آخر " إذا كانت الغلبة لمصطلح (عولمة) في الأدبيات والمجامع والمؤثرات فهي إذن إحدى الاستعمالات الحادثة التي صيغت من الأسماء الجامدة شأنها شأن كثير من المصطلحات مثل (أسلمة) المشتق من (إسلام) ومثل (قولبة , وبلورة , وحوسبة) "4.. لذا نرى أن كلمة (عولمة) مستقة من الكلمة (إعلام). أما في ما يخص الصيغة الصرفية فنجد أن " العولمة ترجمة فرنسية تعني الشيء على مستوى عالمي أي نقله من المحدد المراقب إلى غير المحدد الذي ينأى عن كل رقابة.. وهي أيضاً ترجمة لكلمة (GLOBALAIZATION) الإنجليزية التي ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية.. وتعني تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل4..

في حين يرى د. محمد عابد الجابري أن المصطلح العربي (عولمة) مرحلة ثانية في سلسلة الترجمة للكلمة الأصلية.. إذ يرى أنه ترجمة للمصطلح الفرنسي الذي هو بدوره ترجمة للمصطلح الإنجليزي الأمريكي4.. من جهة أخرى يرى أن هناك توافقاً أو نوعاً من الربط بين تلك الصيغة (عولمة) وبين مصطلح أوروبي آخر والمعبر عنه باللغة الإنجليزية (PRIVATATION) بالرغم من أنه يحمل دلالة مغيرة أو مضادة.. حيث يعني نقل ملكية الدولة إلى الخواص – جمع خاصة -.. حيث ترجم إلى الخصخصة والتخصيص وتخاصية وخصوصية وخوصصة.. وبالرغم من أن الاختلاف في تحديد مصطلح معين أمر وارد وطبيعي.. إلا أن الرجوع إلى أصل الكلمة وجذورها يساعد كثيراً في تحديد معنى محدد وسليم.. ويختار د. الجابري من بين تلك الصيغ صيغة (خوصصة) معللاً ذلك بأن اشتقاق خوصصة إنما هو من خاص لا من خص.. وأما خصخص فليس له اصل في اللغة لا في الأسماء ولا في الأفعال.. والعالم.. فالخوصصة – كما يقول – هي وضعه على مستوى الخاص أو الخواص.. ويخلص من هذا الحوار الصرفي إلى أن العلاقة اللفظية اللغوية تعززها علاقة في الدلالة والماهية.. فالخصوصية خطوة نحو العولمة أو شرط من شروطها4.

أما د. هالة مصطفى فإنها ترى في ذكر كلمة (العولمة) انصراف الذهن على أحد معنيين: اولاً (العولمة) بمعنى جعل الشيء على مستوى عالمي.. أي نقله من حيز المحدود إلى آفاق اللا محدود 5.. وهذا يعني أن الحركة والتعامل السياسي والتبادل الاقتصادي والتفاعل الثقافي ستكون على مستوى العالم دون اعتبار للحدود الجغرافية المعروفة للدول المختلفة.. وهو الشيء الذي سيطرح إشكالية الدولة القومية أمام هذه الكونية المفتوحة.. أما المعنى الثاني فهو أن تعريف العولمة لا يقتصر على ذلك أي مجرد نقل الحركة أو الفعل إلى النطاق العالمي بشكل محايد.. وإنما تعرف العولمة كما جاء في أغلب الأدبيات الأمريكية التي تناولتها بمعنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته.. أو بعبارة أكثر دقة تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية الذي تختص به جماعة معينة أو نطاق معين أو أمة معينة على الجميع أو العالم كله5.

مما سبق كثيراً ما يحدث خلطاً بين الغالبية والعولمة والشمولية.. على اعتبار أنها تعطي نفس الانطباع والمفهوم مما يؤدي إلى تداخل آلياتها وأدواتها وأهدافها لدى الفرد العادي.. من هنا كان لا بد من الفصل أو التمييز ما بين عالمية الشيء وعولمته وما بين الشمولية على أن عالمية الشيء متوقفة على شروط ذاتية توفر له إمكانية العالمية.. أما العولمة فهو توفير الشروط اللازمة ليصبح على مستوى عالمي.. وذلك بهدف كسر المعتقدات الإقليمية المتصلة بها بما هو سياسي واجتماعي.. التي نشأت مع مشروع الدولة والوطنية للحداثة الأولى وتم فرضها فئوياً ومؤسسياً بصورة مطلقة6..  تقول باربارا جودين إن الشمولية نظام حيث تكون تقنيات متقدمة.. وآليات للسلطة السياسية التي تمارس بدون قيود أو كوابح من خلال قيادات مركزية لحركة نخبوية للتأثير في ثورة اجتماعية شاملة تتضمن بناء الإنسان على أسس أيديولوجية محددة ومعلنة من القيادة في وضعية عامة في جو من الإكراه الجماعي7.

وقد ذهب البعض الآخر بأن الشمولية في جوهرها إبطال كل الحدود بين الدولة والتكوينات الاجتماعية في المجتمع المدني.. بمعنى أنها نظام حكم.. كل هياكله الحكومية متسلسلة ومتكاملة.. وكل العلاقات الإنسانية.. وكل النشاطات السياسية الشرعية تبعاً لتأييد الهيكل الحكومي7.. مما يعني أن الشمولية تهدف إلى تضييق كل الحدود بين الدولة والتكوينات المختلفة في المجتمع المدني على كل المستويات.. أو بلغة أخرى إن الأيديولوجية الشمولية وبتعبير البعض هي ابتلاع المجتمع المدني من قبل الدولة 7.

أما العولمة فإنها تعمل أن تسعى لإلغاء الحدود بين الدول.. والكف من دور السلطة إلا في حدود ما تراه العولمة يحقق أهدافها.. أو بمعنى آخر العولمة ما هي إلا أيديولوجيا تحقق اللاقومي.

وتحد من أدوار السلطة أو الدولة.. وإلغاء المسافات بين الشعوب.. وفرض نموذج عالمي موحد يشمل كل جوانب الحياة المدنية.. وبلغة أخرى: إن الأيديولوجية العولمية هي احتواء الدول أو المجتمعات المدنية داخل نموذج واحد عالمي.

أما العامية فإنها تختلف كل الاختلاف عن المفاهيم السابقة.. حيث أنها تعني أولاً وآخراً جعل الشيء على مستوى العالم مع احتفاظه بخصوصيته وهويته.. دون إلغاء لحدوده الخاصة به.. أي إعطائه صفة العالمية دون إلغاء لخصوصيته المحلية وهويته القومية.

من ناحية أخرى نجد أن محمود أمين العالم قد لاحظ هذا الخلط ما بين العولمة والعالمية على أن العولمة رغم اختلاف دلالتها الأيديولوجية باختلاف الرؤى والمواقف منها.. هي ظاهرة موضوعية تاريخية وليست مجرد أيديولوجية ذات دلالات مختلفة 8..  لذا فهو يرى ضرورة التمييز – بادئ ذي بدئ – بين العولمة والعلاقات الدولية والعالمية خاصة وأنه كثيراً ما يتم الخلط بينها.. فهو يرى أن العلاقات الدولية – كما يدل عليها اسمها – هي علاقات من التعامل بين الدول المختلفة سواء في إطار علاقات ديبلوماسية أو تجارية أو عسكرية أو تحالفية أو ثقافية أو سيطرة إلى غير ذلك.. وتختلف  هذه العلاقات باختلاف طبيعة العلاقة ومداها وعمقها.. ولكنها لا تتخذ شكلاً نسقياً ثابتاً شاملاً وسنجد تجليات لهذه العلاقات طوال التاريخ القديم والحديث.. بمستويات وأشكال مختلفة8.. أما العالمية فهي صفة لتلك العلاقات.. عندما لا تقتصر على علاقة ثنائية أو أكثر وإنما تشكل نسقاً من العلاقات بين دول العالم أو معظمها في مرحلة من مراحل التاريخ عبر مساحة ممتدة نسبياً مكانياً وزمنياً 8.. كما وأنه يقدم بعض تجليات هذه العالمية منها بشكل نسبي في بعض الحروب المحدودة بحدود العالم – كما تجلت في بعض الحملات العسكرية والاستيطانية طوال القرن التاسع عشر – ولكن لعل الحربين العالميتين الأولى والثانية في عصرنا الراهن أن تكون من أكثر أشكال هذه العالمية توسعاً نسبياً.. كما تتجلى وتجلت هذه العالمية كذلك في العديد من الشركات المتعددة القومية والمعاهدات الدولية التجارية والجمركية والمرورية والسياسية والقانونية والثقافية والأمنية إلى غير ذلك.. ولعل تشكيل عصبة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الأولى ثم هيئة الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة عقب الحرب العالمية الثانية أن تكون من أبرز أشكال هذه العالمية وأشدها توسعاً وشمولاً جغرافياً وسياسياً والتي كانت نتيجة للتحالف العالمي العملي بين النظامين الأيديولوجيين المتعارضين الاشتراكي والرأسمالي في الحرب العالمية الثانية وانتصارهما على العدوانية والتوسعية النازية.. ثم كانت الحرب العالمية الباردة التي اندلعت بين هذين النظامين عقب نهاية الحرب العالمية الثانية تجلياً آخر لنسق ملتبس آخر من هذه العلاقات العالمية يقوم على التعاون المشترك والصراع الحاد في الوقت نفسه داخل إطار مشروعية دولية  فرضها التوازن النسبي العسكري والذري  بين هذين النظامين8.

على أنه يرى في توصيفه للعولمة أنه مع الثورة العلمية الثالثة في مجالي المعلوماتية والاتصالية خاصة ومع فشل التجربة التنموية الاشتراكية السوفيتيية  وتفكك المنظومة الاشتراكية أخذت العلاقات الدولية تنتقل انتقالا حاسماً من حالة العالمية إلى حالة العولمة.. ولم يكن انتقالا مفاجئاً بل كان انتقالا موضوعياً متصاعداً من حالة القوة إلى حالة الفعل على  حد التعبير الأرسطوطالي أي من حالة الكمون والإمكان إلى حالة التخلق والتحقق والاكتمال.. ولهذا فالعولمة ظاهرة موضوعية تاريخية حديثة تجاوزت دلالتها حدود العلاقات الدولية أو العالمية وتخلقت بدياتها الأولى من رحم الأنظمة الإقطاعية في أوروبا ابتداءً من القرن السادس عشر الميلادي في نمط إنتاجي محدد جديد مختلف تماماً عن الأنماط الإنتاجية السابقة هو نمط الإنتاج الرأسمالي8.

كثيرة هي صور الخلط الخاطئة بين العولمة والعالمية نجده مثلا لدى جيدنز حين عرف العولمة على أنها تكثيف للعلاقات الاجتماعية العالمية.. التي تربط المجتمعات المحلية بطرق تجعل أحداثها تتشكل بفعل الأحداث التي تقع على بعد أميال  والعكس صحيح.. أو لدى روبرتسون التي يعني بها تحويل العالم على مكان واحد.. يتسم بدرجات من الاعتماد الحضاري والمجتمعي المتبادل ومن الوعي بمشكلته.. ذلك أن الفارق قائم بين العولمة كفعل هيمنة يقوم على نفي الآخر وبين العالمية كتوق إنساني وتشبيع أهداف وتشوفات الجماعة البشرية.. بما يحقق شرط تواصلها ووحدتها.. وهو ما ذكره جان بودريارد حين لاحظ أن العولمة لا تسير في خط متوازي مع العالمية.. فالعولمة تخص التكنولوجيا والسوق والسياحة والمعلوماتية.. فيما العالمية تخص قيم حقوق الإنسان والحريات والثقافة الديمقراطية 9.. لذا فعندما نقول أن العولمة هي جعل الشيء على مستوى عالمي لا يعني ذلك ما توحي به  كلمة عالمية.. ففارق بأن تصل الثقافة لبلد ما مستوى العالمية وبين أن تكون ثقافة هذا البلد معولمة.. إذ أن الثقافة العالمية تحتفظ وبالرغم من طابعها الإنساني العام بخصوصية البي!

 ئة أو الحدود القومية التي خرجت من إطارها.. أما الثقافة المعولمة لا خصوصية لها ولا قومية لتأخذ طابعاً موحداً لا سمات له ولا هوية.

ومن جهة أخرى هناك التوجه الإسلامي فكثير من المفكرين الإسلاميين الذين أخذوا يفرقون بين العالمية والعولمة و فيرى د. محمد عمارة أن العالمية هي التي تمثل الأفق الإسلامي.. لأن الإسلام دعوة عالمية منذ المرحلة المكية وبالتالي فإن العالمية ليست غريبة عن الرؤية الإسلامية.. بل الرؤى الإسلامية نزاعة إلى الرؤية العالمية انطلاقاً من أن الإسلام هو الرسالة الخاتمة  والعالمية.

العالمية والعولمة والهيمنة

يميز الدكتور محمد عمارة بين العالمية والهيمنة فهو يرى أن العالمية تمثل حضارات متعددة ومتميزة أي ليست متماثلة أو منغلقة على نفسها معزولة ومعادية.. إنما هناك نوع من الخصوصية ونوع من التشابه.. أما ما يفرض الآن باسم العولمة فليس عالمياً إنما هو الرؤية الغربية.. النظام الغربي. لكن لماذا الغرب يريد أن يفرض علينا العولمة.. فيجيب أن هناك في بنية الفكر الغربي والحضارة الغربية هذه النزعة للهيمنة.. ومن ثم فنحن مع العالمية ولكن هذا الذي يسمى بالعولمة هو تسابق وتطور في أدوات الهيمنة.. والجديد في ذلك هو تقنين هذه الهيمنة.. ويفرق الدكتور الجابري أيضاً في أطروحته الخامسة بين العولمة والعالمية.. فهذه شيء والأخرى شيء آخر كما يقول: فالعولمة هي نفي الآخر وإحلال الاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي.. على حين أن العالمية كما يقول: تفتح العالم على الثقافات الأخرى مع الاحتفاظ بالخلاف الأيديولوجي10.

لقد كان لنا في شخصية روجيه جارودي النموذج المحتذى فقد عمل على نقد الأوضاع الزائفة والمبادرة إلى مهام جديدة بديلة.. وهو لا يتوانى عن نقد الغرب الأمريكي في هيمنته البشعة على العالم والتي تقود الكوكب كله على الهلاك.. وانتقد ما اعترى المسيحية من مسحة متسلطة رومانية.. كما لم يغفل نقداً للمسلمين في أعماله في تطرفهم المستكين للماضي.. وتقاعسهم عن النفاذ إلى الكنوز الروحية والعلمية العميقة لحضارتهم.. واستعادتهم المكررة للظواهر.. دون تحقيق أو مراجعة.. خاصة وأن الحضارة الغربية قد أنتجت الكثير من المشاكل التي لا حصر لها في مجال التسليح أو عدد الجوعى  والمهمشين صرعى الرفاهية المزعومة.. ولا يمكننا الآن النظر على هذه الظواهر على أنها مجرد مظاهر سلبية لسياق إيجابي11.

لا بد من النظرة الكلية الشاملة والتي هي الكفيلة بكشف حقيقة الواقع الذي نعيشه.. لقد قامت الثقافة الغربية على أساس من الشعور بالتفوق العنصري واستبعاد الآخر11.. وهنا مكمن البلاء كما يقول روجيه والذي يرى أن هناك خيط رفيع ما بين أسطورة الشعب المختار في الثقافة اليهودية وتفوق العرق اليوناني في الثقافة اليونانية القديمة.. وبين الهيمنة الأمريكية المعاصرة.. فهو يرى أن المشروع العنصري النازي الذي يقوم على سيادة الجنس الآري على باقي الأجناس لم يتم التخلص منه.. بل يجري استكماله بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية بوسائل أخرى.. وهذا يعني – في نظره – أن الخلاف بين الفاشية والديمقراطية الغربية هو خلاف في الشكل لا في المضمون.. فليست الديمقراطية الغربية هي الكفيلة بإخراج الإنسانية من محنتها.. وليست التنمية الاقتصادية القائمة على اقتصاد السوق بعلاج لهذه الأزمة.. بل هي الداء ذاته.. إن تنمية تقوم على سيطرة وسطوة المال واستنزاف الطبيعة والإنسان.. ليست إلا وسيلة فعالة لتكريس الهيمنة وتفاقم البؤس البشري11..

نمط الإنتاج الرأسمالي

إن نمط الإنتاج الرأسمالي المعمم والمعولم هو القضية الجوهرية التي أثارت كثير من الأسئلة.. والإشكاليات المهمة في كافة أنحاء العالم.. وكما يقول محمود العالم أن هذا النمط من الإنتاج أصبح يمثل بمستوياته المختلفة والمتراوحة ما يمكن أن نسميه موضوعياً – بصرف النظر عن أحكام القيمة الإيجابية أو السلبية – حضارة عصرنا الراهن12.

وعندما  نتكلم عن نمط إنتاجي فنحن لا نقصد – كما يتصور البعض – أنه يقتصر على طابع اقتصادي سائد فحسب ذلك مفهوم نمط الإنتاج يعبر عن مركب موحد من أبعاد ثلاثة متداخلة متفاعلة هي البعد السياسي والاقتصادي والثقافي.. وبرغم أن البعد الاقتصادي هو البعد الأساسي الحاكم عامة في النهاية دون إغفال فاعلية البعدين الآخرين السياسي والثقافي فإن أحد هذين البعدين قد يكون عاملاً حاسماً حاكماً في ظروف وشروط تاريخية ومجتمعية معينة 12.. ويتميز نمط الإنتاج دون أن يلغي الطبيعة التنافسية – سعياً وراء تعظيم الربح والسيطرة.. موظفاً أبعاده الثلاثة – المشار إليها – بحسب الظروف المختلفة.. وقد تخلق هذا النمط الرأسمالي في أوروبا وأخذ يتوسع ويتنامى داخلها مطوراً ومبدعاً أشكالاً جديدة من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتشكلات القومية.. فضل عن المنجزات العلمية والتكنولوجية والمفاهيم الفكرية والثقافية والقيم الأخلاقية والجمالية وأخذ يتوسع ويتنامى كذلك خارج القارة الأوروبية متسلحاً بمختلف أساليب التدخل والغزو والسيطرة العسكرية والسياسية والتجارية والثقافية وبها جميعاً.. سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.. وأصبح هذا النمط الرأسمالي يمتد اليوم إلى كل أرجاء الأرض وإن تفاوت مستوى تحققه من مجتمع إلى آخر بين من اسهموا ويسهمون في إنتاج هذا النمط وإعادة إنتاجه وتطويره والامتداد به وتعميمه باستمرار  وبين من يسهمون إسهاماً هامشياً في هذا الإنتاج وبين من يغلب على علاقاتهم بهذا النط طابع التبعية والاستهلاك12.

ويرى فؤاد مرسي في مقدمة كتابه – أن الرأسمالية تمر اليوم في مرحلة جديدة من مراحل تطورها.. فإذا كانت قد مرت من قبل بمرحلة الرأسمالية التجارية.. ثم الصناعية فالاحتكار والمالية فإنها تمر اليوم بمرحلة ما بعد الصناعة – ولا يقصد بهذا أن الرأسمالية قد تخلت عن التجارة أو الصناعة أو المال.. وإنما يقصد أن الرأسمالية المعاصرة قد تجاوزت ذلك كله إلى مرحلة أرقى من تطور قوى الإنتاج استناداً على العلم والتكنولوجيا.. ولهذا يرى أن الصراع العالمي اليوم يجري حول العلم والتكنولوجيا فهي رأسمالية ما بعد الصناعة.. ولهذا يكاد فؤاد مرسي يجعل من الثورة العلمية والتكنولوجية أساس هذه المرحلة الجديدة من الرأسمالية.. وإن كان يؤكد في الوقت نفسه – استمرار النظام الإنتاجي للرأسمالية القائم على الملكية الخاصة لرأس المال واستمرار مشاكلها الداخلية التي تتكرر وتعيد إنتاج نفسها وإن يكن على نحو جديد ومغاير بشدة 12.

منذ أكثر من ثمانين عاماً أي في عام 1917 صدر كتاب – الإمبريالية أحدث أو أعلى مراحل الرأسمالية – لفلاديمير ايليتش لينين الذي يشخص فيه سمات الرأسمالية منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين فيتكشف صدقية ما تنبأ البيان الشيوعي به.. فالتنافس الرأسمالي أخذ يتحول إلى أشكال من التركيز الاحتكاري في مجال الإنتاج والتسويق والبنوك وتبرز ظاهرة الرأسمالية المالية دون أن تلغي هذه الظاهرة الاحتكارية والمالية.. الطبيعة التنافسية لرأس المال بل تضاعفها وتفاقمها.. سواء داخل البلد الواحد أو خارجها وذلك بالتوسع والتنافس على المستوى العالمي بين الاحتكارات القومية المختلفة.. مع ازدياد التركيز وتشكيل احتكارات أكبر فيما بينها متعددة الأصول القومية.. ثم لم تلبث فيما بعد أن تتشكل منها احتكارات أكبر متخطية للحدود القومية نفسها.. ويطلق لينين على هذه الاحتكارات اسم الإمبريالية.. فالإمبريالية عنده هي الرأسمالية في مرحلة الاحتكار وهو يحددها في سمات أساسية:

تركيز الإنتاج والرأسمال يفضي على نشأت الاحتكارات

تصدير راس المال إلى جانب تصدير البضائع

تشكيل اتحادات رأسمالية احتكارية عالمية تقتسم العالم فيما بينها

هذه هي السمات الإمبريالية التي يعتبرها لينين أحدث أو أعلى مراحل الرأسمالية.

في ضوء هذا وتأسيساً على ما سبق أن عرضنا له من تحول كيفي في نمط الإنتاج الرأسمالي في السنوات العشرين الأخيرة إلى ما أسميناه بالعولمة.. هل من الجائز أن تعتبر هذه العولمة هي أحدث أو أعلى مراحل الإمبريالية12.

لا يختلف سمير أمين فكرياً حول تطور الرأسمالية من رأسمالية تجارية على صناعية على مالية إمبريالية إلى رأسمالية معولمة في المرحلة الراهنة على أنه يقسم الفكر الرأسمالي إلى ثلاثة مراحل أساسية:

المرحلة الأولى تمتد من ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى عام 1945.. ويقترح تسميتها بالفكر الليبرالي الوطني للاحتكارات.. ومصطلح الليبرالية عده يعني اقتناع الفكر بأن الأسواق الاحتكارية هي المسؤولة طوال هذه المرحلة عن ضبط الاقتصاد ولو في إطار سياسات ملائمة للدولة من جانب.. وممارسة الديمقراطية السياسية البورجوازية من جانب آخر.. أما وصفها بالوطنية فيعني عنده تفوق اعتبار المصالح الوطنية.. وعلى أساس هذا الاعتبار تم إضافة مشروعية للسياسات التي تقوم الدولة بها من أجل تدعيم موقع الأمة في المنظومة العالمية.

المرحلة الثانية وهي التي تمتد من عام 1945 على عام 1980 ذلك أن فكر هذه الفترة قد أقيم جزئياً على الأقل على أساس نقد الليبرالية أو الكينزية وإن لم يخرج عن إطار الرأسمالية ولهذا أسماه سمير أمين الفكر الاجتماعي الوطني الذي فعل فعله في إطار نمط من العولمة المنضبطة وقد تحقق من خلال هذه المرحلة تقدم ملحوظ في مجال الحقوق الاجتماعية الخاصة المدعمة للحقوق العامة مثل الحق في العمل وقوانين العمل وحق التعليم والصحة والضمان الاجتماعي وإقامة نظم المعاشات وتحسين أوضاع النساء في العمل وخارجه.

أما المرحلة الثالثة وهي المرحلة التي نشبت خلالها أزمة خلال الثمانينيات في المجالات الثلاثة: في دولة الرفاهة الكينزية في البلاد الرأسمالية.. وأزمة في النظام السوفييتي وأزمة في مشروع البلدان النامية أو مشروع باندونج ما يسميه سمير أمين.. أدت إلى انهيار نمط الفكر الاجتماعي الوطني المتدرج في إطار العولمة المنضبطة وقام فكر ليبرالي جديد غير اجتماعي يعمل في إطار عولمة غير منضبطة يسميه سمير أمين ليبرالية جديدة معولمة يغلب عليها طابع الفوضى ويتسم بالخصخصة والانفتاح والصرف العائم وتخفيض مصروفات الدولة وإلغاء التقنين من أجل إطلاق مطلق الحرية لفعل السوق 12..

تعريف العولمة

" العولمة الوطن الحقيقي للحياة المتشظية والشتات الذهني والظروف القهرية التي يعاني منها المواطن العادي وليست الحياة التي من المفترض أنها توفر للمواطنين السبل الطبيعية لحياة كريمة ورفاهية معقولة "

عند الحديث عن العولمة نجد أن هناك عدة خطابات متنوعة التوجهات.. منها المتطرف والذي يقترب من الأسطورة ويعتبر أن الفئة العليا من الرأسمالية في جميع أرجاء كوكب الأرض ممثلة في الشركات متعدية الجنسية قد حولت الكوكب إلى سوق واحدة تحكمها قوانين السوق العالمية 13..وتلك القوانين هي السلطة البديلة للمصالح المعتمدة على الدولة القومية.. وترى تلك الأسطورة أن الاقتصادات المتقدمة المختلفة قد اندمجت معاً في سبيكة متجانسة مشتركة في هدف واحد هو تعظيم الربح للجميع دون النظر إلى الحدود الدولية13.. وهناك مفهوماً معتدلاً واقعياً للعولمة يقيم تفرقة بين الشركات متعدية الجنسية (اللاقومية) والشركات متعددة الجنسية ذات (القاعدة القومية) والتي  تعتمد على سياسة الدولة القومية في الخارج والداخل13.

والعولمة في جميع الأحوال يحكمها تعظيم الربح قبل المواطنة وهدفها كما يقول بنجامين باربر إعادة إنتاج قبيلة كوكبية من المستهلكين 13.

كما أن هناك تعريفات بصورة عامة غير محددة نوجز بعضاً منها فيما قاله المفكرون العرب في بعض الكتب والصحف العربية:

يشير السيد ياسين إلى أن هناك أوصافاً عامة للعولمة تعطي فكرة بدائية عنها.. منها أن العولمة تصف مجموعة من العمليات التي تشيع على مستوى العالم.. وهذا يمثل البعد المكاني للعولمة.. ومنها أن العولمة تتضمن تعميقاً في مستويات التفاعل المختلفة14.. ويقول  لا بد  لكي نقترب من تعريف شامل للعولمة من أن نضع في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهرها: العملية الأولى تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس.. العملية الثانية: تتعلق بتذويب الحدود بين الدول.. والعملية الثالثة: هي زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات 15.

أما محمود أمين العالم فنجده يعرف العولمة كظاهرة تاريخية ويقول: إن مصطلح العولمة في العصر الراهن.. هو تعبير عن ظاهرة تاريخية موضوعية تمثلت – في البداية – في ثقافة.. بالمعنى الأنثروبولوجي.. تخلقت وتشكلت في رحم الأنساق الإقطاعية في أوروبا في القرن السادس عشر ميلادي بنمط إنتاجي جديد مختلف.. هو نمط الإنتاج الرأسمالي.. الذي أخذ يمتد نتيجة لطبيعته التوسعية التنافسية.. داخل أوروبا ثم خارجها.. بمختلف أساليب التدخل والسيطرة العسكرية.. والتجارية والاقتصادية والثقافية وبها جميعاً حتى شمل اليوم كل أرجاء الأرض.. من أدناها إلى أقصاها شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وأصبح بهذا يمثل حضارة عصرنا الراهن. وإن تفاوت مستواه من مجتمع لآخر بين من أسهموا ويسهمون في إنتاج وإعادة إنتاج وتطوير هذا النمط الإنتاجي الرِأسمالي.. وبين من يسهمون في إعادة إنتاجه إسهاماً هامشياً وبين من يغلب على علاقاتهم بهذا النمط طابع التبعية الكاملة 16.

ومن التعريفات الهامة أيضاً هناك التعريف الذي قدمه المفكر العربي د. صادق جلال العظم وهو من أكثر التعريفات دقة وشمولا.. حيث ينص على أن العولمة هي: وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريبا إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال.. أي الإنتاج وقوى الإنتاج الرأسمالية.. وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً.. ونشرها في كل مكان مناسب وملائم بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره.. إذ أن العولمة: هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء.. في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي لتبادل غير المتكافئ 17.

ويقول في مكان آخر بأن العولمة ما هي إلا حقبة النمو الرأسمالي العميق للإنسانية في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ18.

وهناك من له راي آخر خاصة وأن العولمة في مفهومها العام ما هي إلا اتجاه متنامي يصبح معه العالم دائرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية واحدة تتلاشى في داخلها الحدود بين الدول19.

كما يرى ذلك د. اسماعيل صبري عبد الله: أن العولمة هي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى الوطن أو على دولة معينة.. وهي درجة من درجات تطور النظام الرأسمالي العالمي 20.

وعند اعتبارنا لهذه التعريفات لا يمكننا تجاهل الأخذ في الاعتبار المنطلق الفكري والثقافي الذي يصدر عنه الكاتب أو الباحث في صياغته تعريفه – وهو السبب المباشر في الصعوبة التي نجدها في تحديد صياغة تعريفية دقيقة للعولمة21.. فإلى جانب أن العولمة: ظاهرة غير مكتملة الملامح والقسمات.. نجد تعدد الاتجاهات التي تتنازع الباحثين 21.. لذا فقد بات من الضروري لكي نفهم ما يعنيه باحث معين بالعولمة ينبغي الرجوع إلى الإطار النظري والمعرفي الذي ينطلق من خلاله الباحث.. فقد رأى بعضهم أن العولمة تشير في جوهرها وحقيقة أمرها إلى أمركة العالم (العولمة = الأمركة).. في حين يرى البعض الآخر أنها تشير على الأهمية المتزايدة للسوق العالمي.. بيد أن نفراً غير قليل من الباحثين يضفي على المفهوم طابعاً أيديولوجياً حينما يصفها بأنها تجسيد لواقع ثقافي وأيديولوجي معين.. أل وهو انتصار قيم السوق والليبرالية السياسية (الديمقراطية + السوق)22. وغلى جانب ما جاء من تعريفات متنوعة لباحثين عرب نورد بعض مما قاله أحد الباحثين الغربيين وهو أحد العلماء السياسيين الأمريكيين ويدعى جيمس روزنار فيقرر منذ البداية ضرورة وضع تعريف واضح للعولمة يحدد محتواها بدقة.. ويقيم مفهوم العولمة بأنها علاقة بين مستويات متعددة للتحليل: الاقتصاد والسياسة والثقافة والأيديولوجيا.. وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج وتداخل الصناعات عبر الحدود.. وانتشار أسواق التمويل.. وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتيجة الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة23.

كما أنه من ناحية أخرى يتقدم بأسئلة يرى انه يستطيع من خلالها ومن خلال محاولة الحصول على إجابات عليها.. يمكن الوصول إلى فكرة نيرة عن العولمة فيقول مثلا: ما هي العوامل التي أدت على بروز ظاهرة العولمة في الوقت الراهن..؟ وهل هذا يرجع إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة..؟ وهل العولمة تتضمن زيادة التجانس أن تعميق الفوارق والاختلافات..؟ وهل الهدف هو توحيد العالم أن فصل النظم المجتمعية عن طريق الحدود المصطنعة..؟ وهل العولمة تنطلق من عوامل اقتصادية وإبداع ثقافي أم من خلال الأزمة الأيكولوجية..؟ وهل هي عبارة عن اتحاد لكل هذه العوامل أم أنه لا تزال هناك أبعاد أخرى..؟ وهل العولمة تتميز بوجود ثقافات عامة أم مجموعة من الثقافات المحلية المتنوعة..ظ وهل العولمة غامضة أم أنها تحول بارز على المدى الطويل بين العام والخاص.. وبين المحلي والخارجي.. وبين المغلق والمفتوح..؟ وهل هي استمرار لنمو الفجوة بين الفقراء وبين الأغنياء.. على جميع المستويات..؟ وهل العولمة تتطلب  مفهوماً مركباً يشتمل على أبعاد اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية متعددة.. ولعل صفة التركيب تلك لا تنبع فقط من تعدد الأبعاد التي يشير إليها المفهوم.. وإنما من استخدامه أيضاً للتعبير عن كل من التغيرات التي تحدث في هذه الأبعاد المختلفة والآثار الناجمة عنها.. وبعبارة أخرى فإن العولمة ليست  مجرد عملية واحدية الاتجاه.. وإنما هي في جوهرها تعبير عن ديناميات ديالكتيكية معقدة24.

وهناك أيضا ً تعريف (أولريش بك) الذي يقول: أن العولمة تعني تجربة انعدام الحدود في العمل اليومي ضمن الأبعاد المختلفة للاقتصاد والإعلام والبيئة والخبرة الفنية والنزاعات الثقافية العابرة للحدود والمجتمع المدني.. على أنه يصاحب ذلك في واقع الأمر شيء مألوف وغامض في الوقت نفسه.. من الصعب إدراكه.. ولكنه يغير الحياة العادية بقوة محسوسة بصورة أساسية ويرغم الجميع على التكيف معه وإعطاء الأجوبة عنه.. فالأموال والتقنيات والبضائع والإعلام والسموم.. (تجتاز) الحدود الوطنية.. وكأن هذه الحدود لا وجود لها.. حتى الأشياء والأشخاص والأفكار التي تود الحكومات إبقائها خارج البلاد (المخدرات) والمهاجرين غير الشرعيين والنقد المتعلق بالتعدي على حقوق الإنسان.. تجد طريقها غليها.. إذا فهمت العولمة بهذا المعنى فهي تعني قتل المسافة: الإلقاء بالإنسان في أشكال حياتية عبر الحدود الوطنية.. غالباً ما تكون غير مرغوب فيها.. وغير واضحة 25.. ويزيد التعريف توضيحاً فيقول: لقد نتج عن إلغاء المسافة: أن الغشاء المكاني للعالم لا ينطوي أولاً على بقع بيضاء.. ويمكن (بالشدة على الكاف) ثانياً ومن حيث المبدأ من إمكانيات التوجه لكل واحد بغض النظر عن النقطة التي يوجد أو توجد بها في العالم.. فبفضل وسائل الإعلام والنقل الحديثة أصبحت العولمة.. من حيث المبدأ ممكنة دون عناء.. أصبحت تجربة يومية.. بمعنى انها موقفاُ إقليمياً25.

إلا أنه وبالرغم من تلك المحاولات المتعددة لتعريف العولمة نجد ومن جانب آخر ونظراً لعدم وضوح ملامح هذه الظاهرة بما يكفي  في طرحها وصيغتها آثر العديد من الباحثين والمحللين العدول عن إعطاء تعريف محدد للعولمة واكتفوا بمحاولة إبراز بعض مظاهرها وآثارها والحديث عن خصائصها ومجالاتها.. أو رسم هيكل العولمة أو إعطاء تفسير للظاهرة نفسها.. كالقول عن العولمة بأن العالم قرية واحدة تهاوت معها الحدود القومية ليسود مركز عالمي علمي وتقني واقتصادي واحد 26.

إن ما يمكن استخلاصه هو اختلاف الباحثين حول تعريفها.. وربما بسبب اختلاف توجهاتهم الفكرية أو لأن متضمناتها ما زالت قيد التبلور والإنجاز.. كأنها لم تكشف بعد كل أسرارها بما يشي بعسر تقديم تعريف نهائي لها.. فالبعض يعاينها كاسم حركي للأمرمكة..  وأعلى مراحل الإمبريالية.. ورسملة للعالم على مستوى العمق.. وعملية غسل حقيقية للعقول.. فيما اعتبرت لدى الآخرين مزيداً من التطور التكنولوجي الفائق..  وسوقاً بلا حدود.. وانتقالاً من إسار الدولة الوطنية إلى رحاب أوسع.. ومن الولاء لثقافات محلية إلى ثقافة إنسانية عقلانية جديدة 27.. لذا نجد أنه من الضروري رغم الصعوبات العديدة تقديم تعريف شامل أو أكاديمي النزعة والهدف ألا وهو أنها محصلة التوظيف الرأسمالي للنتائج التي أرستها مسارات الصراع.. وسترسيها مستقلاً وكرسها تضخم الشركات المتعدية الجنسية.. وتوجهاً احتكار التكنولوجيا والتداخل بين الاقتصاد والسياسة والثقافة.. بواسطة خلق شبكات ومجموعات مصالح.. ومنظومة من الأفكار والقيم تعكس إرادة الهيمنة على العالم.. وهو تعريف يشمل على مكونات ذات مغزى فلا بد من التنويه بهذه المكونات تفصيلا ً:

العولمة محصلة التوظيف الرأسمالي للنتائج التي أرستها مسارات الصاع.. حيث عملت قوى المتروبول  على إنضاج وتفعيل تراكمات هذا الصراع حتى سقوط الاتحاد السوفييتي.. تمهيداً لدورها الذي تمارسه اليوم كقطب أحادي يتولى إدارة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد.. بما يعني أن العولمة لم تظهر فجأة.. أو عبر قطيعة مع السياق التاريخي للرأسمالية.. بل جاءت تعبيراً عن شكل تطورها الراهن في نهاية القرن العشرين.. وقد يختلف الباحثون في تحديد المدى الذي استغرقه مسار هذا الصراع.. لكنهم يتفقون على محصلته في تكريس تحول نوعي..

سترسيها مستقبلا: إن توسع العولمة منذ الراهن لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه عملية آلية.. ولكن باعتباره محصلة صراع بين قوى العولمة ومقاومتها.. وهذه القوى المقاومة يمكن استبيانها في مسعى بعض تيارات الحركة العمالية.. سواء في أوروبا أو في بلدان العالم الثالث (النامية) لتجديد تراث الأممية.. وفي مقاومة سياسات الخصخصة وقوانين حرية العمل لدى العديد من البلدان النامية.. وكذلك في سعي بعض الحركات الاجتماعية ذات النزعة العالمية.. كالحركة النسوية والبيئية في صوغ وعي أممي جديد.. وفي عودة بعض الأحزاب الاشتراكية إلى الحكم في دول أوروبا الشرقية بما سيضعف من تأثيرات العولمة فيها.. هذا على مستوى الحركة.. أما على مستوى الخطاب فثم سعي إلى إعادة اكتشاف وتأكيد قيم الثقافات الموروثة ونقدها واستلهامها من جديد بمثل ما تحاوله الصين في إعادة قراءة الكونفوشية وإقامة تفاعل إيجابي مع مختلف الثقافات.

وكرسها تضخم الشركات المتعدية الجنسية: صحيح أن هناك خلافاً بين المفكرين والخبراء.. حول قدرة هذه الشركات.. إلا أن الاتجاه العام يميل إلى الاعتراف بتأثيرها دون الاتفاق على مداه.

وتوجهاً احتكار التكنولوجيا: تبرز في هذا المجال  تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وتأثيرها على العولمة في إقامة شبكة واسعة من البنى الإنتاجية والخدمية والإعلامية الجديدة.. وتسهيل حركة انتقال وتوظيف رؤوس الأموال.. وتحسين وسائل نقل ومعالجة المعلومات للتحكم في الموارد والعمليات في أماكن مختلفة من العالم.

التداخل بين الاقتصاد والسياسة: إن تمييز العولمة إلى عولمة ثقافية وأخرى اقتصادية أو سياسية.. ما هو إلا مجرد تبسيط تحليلي أو تجريد لا يعكس عمليات العولمة الحقيقية.. كما أن النظر إلى  مجالاتها بهذه الكيفية الانقسامية.. قد يضع وجهة السعي وراء وحدتها الحقيقية.. كما أنه يحمل تحيزات تغري بالاستهانة بأثرها الإجمالي.. فهي تقوم على التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك.. كما يرى ذلك اسماعيل صبري عبد الله.

بواسطة خلق شبكات ومجموعات مصالح: يرى برتران بادي أن هدف العولمة هو خلق شبكات ومجموعات مصالح ومنافع.. تضم فاعلين من الشمال والجنوب.. يحملون مصالح وأهداف متنوعة للغاية.. ومحصلة هذه الشبكات والمجموعات هو التركيز المفرط للثروة على الصعيد العالمي.. وتعميق الهوة بين البلدان.. وبين فئات وشرائح المجتمع الواحد.

منظومة من الأفكار والقيم والقوانين: بعد أن تحررت الرأسمالية من كل قيود التوسع اللامحدود كان لا بد من تطوير بل وإنتاج منظومة معرفية تبرز هذا النظام العالمي الأحادي بسبب من توسلها بحقوق الإنسان والديمقراطية وتحسين نوعية الحياة.. وكلها قيم جاذبة في ظل ظروف الاستبداد والظلم والفقر التي تسيطر على بلدان الجنوب خاصة وان المناخ المهزوم أو المنكسر في هذه البلدان أضحى جاهزاً للاستقبال والامتثال لهذه المنظومة.

تعكس إرادة الهيمنة على العالم: وهي إرادة غايتها توحيد العالم فيما هي في الحقيقة تشتته أو تعيد تنضيد مصفوفات تبعيته المتدرجة على أساس جديد28.

وقبل الانتقال إلى مفاهيم العولمة نحاول تقديم تعريف عن العولمة المضادة.

تعريف العولمة المضادة

يتساءل سمير أمين: هل  من الممكن تصور الخطوط العامة لخطاب معارض صحيح متماسك فعال.. يتمتع بالمصداقية المطلوبة..؟ ويكتفي بتأكيد أن الخطاب المعارض لن يكتسب طابعاً جذرياً إلا إذا اتخذ موقفاً صريحاً لا لبس فيه من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الرأسمالية.. وأولها الاستلاب الاقتصادي السلعي.. أو بتعبير آخر ضرورة تجاوز حدود الرأسمالية.. ويبدأ البحث عن إجابة موضوعية عملية تخرجنا من الفوضى وتفاقم التناقضات في العولمة الراهنة إلى عولمة أخرى مضادة 29؟

على الرغم من أن هناك رؤيتان مختلفتان التوجه نحو العولمة إلا أن الأولى تختلف كليةً عن الثانية ذلك أن ما يقوله د. اسماعيل أن الكوكبة أو العولمة مرحلة ما بعد الإمبريالية.. أم نقول أنها أعلى مرحلة متطورة للإمبريالية بل تكاد تمهد لمرحلة انتقالية جذرية أخرى.. ؟ والقضية هناك ليست مجرد اختيار نظري بين رؤيتين.. وإنما تتعلق إلى جانب ذلك أساساً بالموقف العملي الذي يترتب على اختيار هاتين الرؤيتين.

الرؤية الأولى وهي السعي إلى تكوين سلطة سياسية كوكبية للتوازن مع السلطة الاقتصادية المهيمنة على اقتصاد العالم كله تقوم بتشكيلها وإدارتها الدول الهامة في هذا الوضع العالمي الراهن – ما بعد الإمبريالي – لإيجاد ضبط في حركة الأسواق المالية.. وتنمية التكامل الإقليمي بين الدول المتجاورة والمتشابهة في مستوى التقدم المعرفي والاقتصادي وتنمية أشكال عن الحكم المحلي الديمقراطي في مجتمع يحكمه القانون وحقوق الإنسان حلاً لمشاكل الأقليات والقوميات فضلاً عن السعي إلى تحقيق تضامن عمال البلاد المتقدمة مع عمال البلاد النامية في نضالهم من أجل الديمقراطية والحريات الديمقراطية وتحسين الأجور والتأهيل والتدريب إلى غير ذلك وهذه الرؤية الأولى.. وهي الرؤية التي يقول بها د. اسماعيل صبري عبد الله والتي  يعتبرها مرحلة بعد الإمبريالية.. بالإضافة على ما يقترحه لهذه المرحلة من إجراءات عملية.. لا تعني أنه يغلق الباب أمام مرحلة بل مراحل أخرى تالية لها ومغايرة كيفياً فالرأسمالية كما يقول مستنداً إلى فكر لينين تتطور باستمرار كمياً في الأصل ولكنه يؤدي على تطور كيفي ينقلها من مرحلة إلى مرحلة29.

أما الرؤية الثانية فهي التي تسعى إلى تأسيس نمط إنتاجي إنساني معولم آخر بديل بل نقيض لهذا النمط الرأسمالي الإمبريالي أي العولمة المضادة – على حد تعبير عبد السلام المسدي – وهذه العولمة المضادة التي تمثل اليوم في العديد من الكتابات والندوات والمؤتمرات الفكرية والتنظيمات السياسية والهيئات الاجتماعية  والمواقف النضالية في أنحاء مختلفة من عالمنا المعاصر وهي الرؤية نتبينها في تحليل د. سمير أمين للوضع الرأسمالي العالمي الراهن  وإن كان يضعها في شكل تساؤل ملح29..

مفاهيم العولمة

تمثل العولمة طفرة نوعية في طبيعة الحياة بشكل عام إلا أنها رغم ذلك فهي نتيجة تاريخانية طبيعية وحتمية لتراكمات كمية تحولية ورغم أنها نمت في قلب التاريخ إلا أنها تتجاوز التاريخ بعنصريه الزماني والمكاني.. أي تحاول القفز عليهما أو إلغائهما.. كما أن العولمة تحاول استيعاب الثقافات الغيرية وتعيد إنتاجها لصالح نظام واحد موحد وإعادة الإنتاج هذه لا تعتبر للشروط التاريخية لمختلف بلدان العالم وذلك من خلال خلق شروط جديدة تتناسب وأهدافها.

أولا / العولمة تاريخياً

قال فرنسيس فوكوياما في عام 1989 بنهاية التاريخ.. الذي يعني نهاية الأيديولوجيات.. والذي يعني – في مفهوم فوكوياما – انقسام العالم إلى سادة كونيين عبروا إلى نهاية التاريخ.. وعبيد سوف يظلون ضحايا مستنقع التاريخ.. وستكون موهبتهم الوحيدة الباقية – على حد قوله – هي الاحتفاظ بقدرتهم على المبادرة الإنسانية , كونهم تحت مظلة الأيديولوجية.. فإن فوكوياما في أطروحته كان يحمل مشروعاً لتبرير العسكرة وللتأزر مع خواص التمايز التي هي في حقيقتها تشريع للعنصري30.. ثم جاء بعده – بأربع سنوات – أمريكي آخر هو صمويل هنتجنتون بمقولته عن صدام الحضارات.. فإن العالم في نظره مقبل على نزاع بين القبليات.. وهذه القبليات هي خلاصة حضارات إنسانية.. ومن نماذج تلك الحضارات التي أشار إليها هنتجتون الحضارة الأوروبية ذاتها والكنفوشية والإسلامية والسلافية الأرثوذكسية واليابانية والهندية وأمريكا اللاتينية.. ثم الأفريقية التي طرحها هنتجتون على مضض30.. على أنها ستكون هذه النزاعات ثقافية " والمصدر الذي يدعمها  سوف يكون بدوره ثقافياً.. أي أن الخطوط الفاصلة بين هذه الحضارات – في زعمه – سوف تكون خطوط المعارك في المستقبل.. أو بالأحرى – الصراع – بين هذه الحضارات سوف تكون هي المرحلة الأخيرة في نهاية التاريخ 30.

يحضرنا هنا سؤال مهم متى وكيف بدأت العولمة ؟ السؤال الذي يدفعنا إلى اقتحام مناطق موغلة في الصعوبة والضبابية.. فالبعض يعود بتاريخ العولمة إلى بداية النظام الرأسمالي العالمي كما يقول ايمانويل فالرستين.. إلى القرن السادس عشر.. مع بداية الاستعمار.. ويعود بها البعض الآخر إلى ظهور الشركات العالمية المتعددة الجنسية.. أما بالنسبة لآخرين فتبدأ العولمة بإلغاء أسعار الصرف الثابتة أو بانهيار المعسكر الاشتراكي31.

من المتتبع لتاريخ الاقتصاد الأوروبي  يدرك مباشرة أن مفهوم العولمة كان قد ظهر بالأساس وفي البداية في مجال الاقتصاد وكنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية.. وهي المرحلة التي دخلتها الرأسمالية العالمية.. مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ميزت القرنين السابقين.. فالثورة الصناعية بشكلها التقليدي ظهرت في منتصف القرن الثامن عشر في إنجلترا ثم في أوروبا حيث أدى التطور في استخدام الطاقة (البخار والكهرباء) إلى تغير جذري في أسلوب وقوى وعلاقات الإنتاج.. وأدت هذه التغيرات المتلاحقة إلى لخروج من عصر الإقطاع وبداية مراحل التطور والتوسع الاقتصادي التي استلزمت بدورها الحصول على الموارد الطبيعية وفتح الأسواق العالمية وارتبطت بمرحلة الحروب الأوروبية وظاهرة الاستعمار لتوفير احتياجات الرأسمالية الصاعدة 32. ولنجد  أن هذه الظواهر الحد الفاصل ما بين مرحلتين أو شكلين من أشكال الاستعمار الأوروبي.. خاصة وأن التطور التكنولوجي قد دخل مرحلة جديدة مكملة له وهو ما حدث من تكنولوجيا الاتصال والثورة المعلوماتية الحديثة والتي ساعدت على ظهور أنماط جديدة في الإنتاج وطبيعته.. مما أدى على تغيرات في طبيعة العلاقات والتعاملات الدولية.. وبالأحرى تغييراً في شكل الرأسمالية العالمية. وتغيير وسائلها في الهيمنة والسيطرة.. بمعنى آخر تغير وجه الاستعمار التقليدي الذي كان يعتمد على الحروب في تحقيق توسعاته الإمبريالية خاصة وأنه بعد ازدياد حجم الإنتاج كان لا بد من فتح أسواق جديدة.. أو السعي إلى سوق عالمية هي في حقيقتها توحيد لأسواق الدول الصناعية.. التي تعمل على توفير الإمكانيات التي بدورها تساعد في الارتفاع بأداء الدول الصناعية وتطوير نهج السياسات الرأسمالية العالمية.. وليسهل تحقيق هذه الأهداف كان لا بد من تجاوز الحدود القومية.. والتحرر من السياسات الاحتكارية وفرض ثقافة استهلاكية جديدة وتوزيع جديد للدخل وصياغة نموذج عالمي يعمل على تغيير وجه الحياة بما يتواءم والصناعات الغربية.. حتى يمكن التوسع في سوق الدول الصناعية لاستيعاب المنتجات الحديثة وهي المرحلة التي عرفت بمجتمع الاستهلاك الكبير.. بعد أن كانت قيمة الادخار هي القيمة الأساسية التي أسست بها الرأسمالية منذ نشأتها وحتى الحرب العالمية الثانية.. وشكلت هذه السمات بذور التحول من نمط الرأسمالية القومية إلى الرأسمالية العابرة للقوميات.. التي ارتبط بها ظهور مفهوم العولمة الذي عبر عنه ظاهرة اتساع مجال أو فضاء الإنتاج والتجارة ليشمل السوق العالمية بأجمعها.. حيث لم يعد الاقتصاد محكوماً بمنطق الدولة القومية.. أو بعبارة أخرى لم تعد الدولة القومية هي الفاعل أو المحدد الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي.. إنما أصبح للقطاع الخاص الدور الأول في مجال الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية.. كما أصبحت المؤسسات عابرة القوميات تعلب دوراً محورياً في هذا المجال32.

من الواضح جداً أن العولمة ما هي إلا أيديولوجيا لها شرطها التاريخي وأساسياتها في الفكر الغربي.. كما أنها تحتكم إلى منظور قيمي أو منظومة فكرية وثقافية تحدد دلالاتها في النظام العالمي مجموعة من الدول العظمى من أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى بكل الوسائل إلى تسييس العالم طبقاً لنموذجها الحضاري لكافة أوجه النشاط الإنساني.. وذلك بأن تلغي الاعتبار للشروط التاريخية للدول والمجتمعات الأخرى.. لتحتكم لشرط تاريخي آني.. فالعولمة تجاوزت الماضي وتعالت عليه مرتكنة إلى مفهوم التقدم وعليه فهي آنية التحقق تعتمد على منظور اللحظة الآنية إلى جانب شروط مادية لتحققها.. هذه الشروط مؤسسة على أصل قبلي هو نموذج أحادي النظرة احتكاري الهدف والغاية.. فعلى  المستوى الاقتصادي نجد آلية السوق وحرية التجارة هي المبادئ الأساسية.. وفي السياسة حيث تبرز شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وفي الثقافة حيث يتم التركيز على الفردية وحرية الإنسان.. وبغض النظر عن تأثير الكوننة على تهميش البنى التقليدية وتغريب الإنسان فيها وهو ما تنبأ به مثقفوا دول الجنوب الفقير 33..

وبناءً على  ما تقدم يمكننا القول أن العولمة ليست ظاهرة جديدة.. بل هي تطور فعلي لفكرة الاستعمار الأولى والتي ترجع إلى نهاية القرن السادس عشر.. عندما بدأت عمليات الاستعمار الغربي لآسيا وأفريقيا والأمريكيتين.. ثم تحددت ملامحها التي هي عليها الآن نتيجة لتطورات النظام التجاري الحديث في أوروبا مما أدى إلى صياغة نظام عالمي متشابك ومعقد عرف بالعالمية.. ثم العولمة بعد  ذلك.. فالعولمة بهذا المعنى ما هي إلا لفظ جديد لظاهرة قديمة.. نشأت في دنيا أصبحت في حجم قرية كونية صغيرة ترابطت بالأقمار الصناعية والاتصالات الفضائية وقنوات التلفيزيون الدولي 34.

ونستطيع إذاً من خلال ما تقدم من رصد لهذه الظاهرة التاريخية أن نوافق كثير من الكتاب والمحللين بأن  العولمة ما هي إلا ظاهرة قد تحققت بفعل مجموعة من العوامل والتطورات السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية التي أفرزتها عبر العقود الماضية قوى التطور والتغيير التي تنتمي إلى تراث البشرية بأكملها.. وغدت كما لو كانت تياراً متدفقاً يسري في أوصال هذا العالم35.. وهو الشيء الذي يدفعنا لأن نتعامل مع هذه الظاهرة بعيداً عن التكهنات والتحايل اللامنطقي بأنها ظاهرة قد فرضت من الغرب.. بل إنها ظاهرة لا يمكننا تجاوز تأثيرها والتعامل معها بكيفية دون فهمها واحتوائها ووضعها في إطارها التاريخي الصحيح.. ذلك أن أي ظاهرة لا توجد من العدم بل هي تطور منطقي لما قبلها.. فكل ظاهرة لها ما يبرر وجودها ولها شرطها أو شروطها التاريخية وقوانينها التي تحكم فعالياتها.. من هنا يمكننا فقط أن نتعامل مع العولمة كظاهرة طبيعية حية لها إمكاناتها وإمكانياتها الخاصة.. فالعولمة من وجهة لها هي تاريخية أي أنها امتداد للسابق.. وهي لا تاريخية بمعنى تجاوزها للتاريخ بمفهوميه الزمان والمكان.

ثانياً / العولمة اقتصادياً

"" إنني أميل نحو أولئك الذين يودون التقليل  وليس لأولئك الذين يودون التوسيع في العلاقات الاقتصادية بين الأمم.. فالافكار والمعرفة والفن والضيافة هي الأشياء التي يجب أن تكون بطبيعتها عالمية.. ولكن دع السلع تجول داخل الوطن حيثما يكون ذلك ممكناً وعقولاً.. وفوق كل ذلك لنجعل المال يبقى أساسي قوميا36  ""

هذا خطاب لعالم الاقتصاد كينز ونلمس من بين طيات هذا الخطاب تحذيراً ضمنياً بخطورة الموقف اتجاه ما تحاول أن تشكله العولمة من عالم بلا حدود دولية.. وبلا خصائص قومية تتشابك فيه المصالح لأبعد مدى.. حيث المصلحة الفردية أو الشخصية والعائد المادي والسلعة المتداولة ورأس المال الحر والنشاط التجاري العالمي بلا قيود والاحتكارات.. هي شروط اللعبة الاقتصادية في هذا العالم الجديد.. وهو عالم قد تحول إلى مجرد منظومة من العلاقات الاقتصادية المتشابكة تؤكد سيادة نظام اقتصادي واحد وتسعى لتحقيق مطالبه وأهدافه من خلال ما تتيحه للعالم من تبادل " الاعتماد بعضه على بعضه الآخر في كل من الخامات والسلع والمنتجات والأسواق ورؤوس الأموال والعمالة  والخبرة.. حيث لا قيمة لرؤوس الأموال من دون استثمارات.. ولا قيمة للسلع دون أسواق تستهلكها37.

إلا أن هناك تعريفات تحدد الوجهة الاقتصادية لمفوم العولمة بأنها " اندماج أسواق العالم في حقول انتقال السلع والخدمات والرساميل والقوى العالمة ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق بحيث تصبح هذه الأسواق سوقاً واحدة كالسوق القومية 37.. وهذا التعريف يتضمن مقياساً لبعد الاقتصادي المعولم داخل النظام العالمي الجديد حيث أن الدول التي تكون أكثر توغلا في هذا النمط من الاقتصاد وأكثر فاعلية داخله ,اكثر اعتماداً عليه تكون بالتالي أكثر عولمة وأكثر عالمية.

على أن يكون في النهاية الحافز الأساسي للعولمة – خاصة في نطاق التبادل التجاري الدولي وانتقال رؤوس الأموال وتبادل السلع – هو تحقيق مصلحة النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي المتمركز في الشمال.. خاصة وأن منطق هذا النظام وكما نعرف هو منطق التوسع وفرض الهيمنة على أكبر قدر ممكن من الدول والمناطق لتحقيق أكبر عائد ربحي ومادي له.. وبخاصة من خلال ما يحققه من أرباح ناجمة عن الاحتكارات والتوسع مع شروط قد فرضها كان أهمها إزالة القيود الخارجية في وجه صادراته من سلع وخدمات ورؤوس أموال.. فعدم السعي على التوسع بدرجة كافية قد يعود هذا عليه بنتائج غير مرضية منها الركود والكساد.. أو من الممكن تعرضه لتغييرات داخلية قد تؤثر في سماته الأساسية.. من ناحية أخرى نجد أن هذا النظام يحاول ويعمل دوماً على توفير الشروط اللازمة له داخل الدول الرأسمالية ذاتها وخارجها.. فلا يقتصر دول الدولة الرأسمالية في المراكز المهيمنة على تأمين ازدهار نظامها وتأمين  توسعه خارج حدودها فحسب.. وإنما تتضمن ويتضمن أيضاً إحداث تعديلات بنيوية في المستعمرات أو الدول في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تفرض!

 ها ضرورات التراكم الرأسمالي في المراكز.. باختصار إن النظام الرأسمالي في المراكز مدعوماً من قبل الدولة  ويحاول أن يفرض على الأطراف الرأسمالية نظامه وثقافته وسياساته وبكلمات البيان الشيوعي.. أن يخلق عالماً على شاكلته37.. على أنه لا بد من الإشارة إلى أن الدولة وحدودها في بلاد الرأسمالية تحاول هيكلة الدول الأخرى بأن تصبح هي الدولة الوحيدة المهيمنة.. فهناك تناقض بين مفهوم وحدود الدولة خارج الدول الغربية عنه في الدول الأخرى.

أما التعريف الذي قدمه سيار الجميل فيرى أن العولمة ما هي إلا ظاهرة تاريخية كبرى لها أنماط متعددة الوجوه ومناهج متنوعة الحقول ومخاطر لا متناهية.. ليس في إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم بل في إنتاج نظام مهيمن واسع في متغيراته القيمية على امتداد القرن المقبل.. هناك ثمة إجماع على أن العولمة هي الأداة الحقيقية الأولى والمعاصرة والشاملة لمدى النمو الحقيقي الذي حققته الشركات المتعددة الجنسية من نمو خارق للمألوف أحدث ظاهرة غريبة من نوعها في الاقتصاد العالمي38..

هذه التعريفات المتنوعة كانت لها محاورها المشتركة ونقاطها المتشابهة والتي اتفقت على أن العولمة الاقتصادية لا تلبي في جانبها العملي الاقتصادي سوى مطالب النظام العالمي الرأسمالي الغربي.. في حين أن الدول النامية وسط التيارات والمصالح والأهداف.. كانت ومازالت على هامش التنمية الاقتصادية لتبقى دوماً في موقع التابع والمهيمن عليه.. وأن هذه العولمة ما هي إلا نمط متطور من أنماط الاستحواذ على ممكنات الدول الفقيرة والنامية لتزداد يوماً بعد يوم فقراً وحاجة واستلاب لقواها لصالح قطبية رأسمالية استعمارية توسعية.. من هان يقول كذلك السيد مطاع صفدي / وبناءً على اعتقاد بعض المفكرين الغربيين: أن العولمة ليست إلا تلك الأيديولوجيا الاستباقية التي تحاول تأصيل الوعي والمواجهة  المحتومة القادمة بين فقراء العالم.. الذين غدوا معظم العالم تقريباً وبين قبيلة الماليين الكبار " خاصة وأن العالم الثالث لا يزال يشكل السوق الأولى لأي اقتصاد عولمي أو سواه.. خاصة وأن العولمة ما هي غلا قوة قاهرة تسعى لأن تستنزف ما تبقى لديه وفي أرضه خاصة من الثروات الخام ومن بقايا الفكر السياسي المقاوم على حد قول مطاع صفدي.

ثالثاً / العولمة ثقافياً

يقول مارتن وولف أو العولمة هي عملية غسيل حقيقية للعقول وهو ما يقصد به أنها عملية لمحو الخصوصيات والذاكرة الجماعية والفردية والعمل على استلاب التاريخ وتفريغه من مضمونه الإنساني العميق.. كما أننا نعيش عالماً مفتوحاً لا حواجز فيه ولا قيود عليه.. تنظمه وتشكل آلياته قوانين النظام الدولي الجديد.. المعولمة.. تحت شروط ومواصفات ومتطلبات السوق والتجارة بغية توحيد مصالحه وأهدافه.. ولكن السؤال هنا هل هو توحيد مصطنع كما أشار زيجلر ؟ أم هي دعوة في ظاهرها التوحد وفي باطنها التفكك ؟ 39.

الليبرالية الفكرية واحترام الحريات الفردية.. واعتبار الفرد هو المحور الأساسي في بناء نظام ومجتمع ديمقراطي حر هي الفلسفة التي حكمت مجمل التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الرأسمالية.. وهي التي شكلت نسق القيم الذي حكم الثقافة السائدة فيها والذي نشأت وتطورت فيه ثقافة حقوق الإنسان التي كفلت حقوق وحريات الأفراد في كافة المجالات مثل الفكر والتعبير والسلوك والحرية الشخصية وغيرها مما دخل في نطاق الحريات.. وهي التي أفسحت المجال لنشر قيم التعددية والتسامح والحرية والمساواة وقبول الآخر.. وإمكانية تعايش الأفكار والاتجاهات المختلفة جنباً إلى جنب بدون مصادرة أي منها بغيره.. فضلاً عن ترسيخها لقيم التنوير والعلمانية.. والتي أعطت دفعة حقيقية لعصر النهضة.. وتجاوز أنساق القيم التقليدية.. التي ميزت المجتمعات الإقطاعية والزراعية أو ما قبل الرأسمالية والصناعية الحديثة 40.

وعلى الصعيد العربي هناك تساؤلا كثيرة بدأت تثار حول موقف الدول العربية وشعوبها من ظاهرة العولمة.. وبدأ التخوف بين الاختراق الثقافي والإعلامي الذي رأى فيه البعض أنه نوع من السيطرة تذكرهم بالاستعمار في الزمن الماضي 40.. وقد اتخذ المفكرون والمهتمون بقضايا الواقع العربي مواقف متباينة اتجاه العولمة ما بين مؤيد وداعي لنهجها ومفاهيمها وبين معارض ورافض لمظاهرها وتجلياتها لذا ظهرت اتجاهات وتوجهات متباينة ما بين موقف متفائل يرى في العولمة فرصة لتقوية دعائم المجتمع المدني لصياغة علاقاته بالدولة في هذا الإطار الليبرالي الجديد الذي سيأخذ بالمجتمع إلى سياق الحداثة والتحديث.. وشحذ قدراتهم للخروج من أزمة التخلف السائد.. إلا أن هناك النظرة المتشائمة والتي ترى في العولمة ما هي إلا صياغة جديدة للمنظومة الفكرية والثقافية العربية الأصيلة.. والذي يعني بدوره استلاب المرجعيات الدينية والعقائدية والتاريخية وما لهذا من اثر سلبي في تفتيت البنية الأساسية للعالم العربي والإسلامي على السواء.. حيث أن تقنيات العولمة الحديثة في مجال الاتصال عبر القارات مثل التلفيزيون وقنواته الفضائية والإنترنت وغيره من التقنيات الحديثة في مجال الاتصال " يجسد أبرز ملامح العولمة التي يلمسها الشخص العادي في أي مكان في العالم.. ومن المفترض أن هذا التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال يمكن أن يؤدي إلى زيادة التواصل الثقافي بين الشعوب 40.. الأمر الذي أثار حفيظة كثير من المسؤولين لهذا التداخل الثقافي فمنهم من رأى فيه فرصة لإيجاد آمال وأهداف مشتركة للإنسانية.. تتجاوز المصالح الوطنية ولا تتناقض معها في الوقت نفسه.. وبين الآثار السلبية من استلاب وضياع المرجعية وانحلال القيم وضياع الهوية.. وهو ما عبرت عنه أيضاُ بعض القوى السياسية والاجتماعية الفعالة العديد من المجتمعات.. عبرت عن خشيتها من هذا النظام الإعلامي المفتوح لما قد يمثله من تهديد لنسق وتقاليد وعادات هذه الشعوب 40.. والواقع أن في هذه المواقف المتباينة اتجاه العولمة تفسير لظهور بعض الحركات الأصولية وغيرها من الحركات التي لا تجد أمامها سوى الانسحاب من الواقع على تاريخها لتتمحور حول نفسها معللة ذلك بأنه نوع من الحفاظ على الهوية والانتماء.. مما يعزلها عن واقعها التي ترفضه رفضاً كلياً.

في النهاية نقول وبناءً على رصد بعض النقاط الهامة أن العولمة الثقافية هي طرف مكمل لخطة الهيمنة العالمية الإمبريالية والتي وإن كانت تتضمن إيجابيات خاصة فيما تتجه من فرص للتنمية المادية.. في مجال التكنولوجيا وتطورات الآلة المعلوماتية إلا أن ذلك برغم ما يحمل من هذه التفاعلات الإيجابية لا يمكن تنحي سلبياته في تعقيم الفكر واستلاب المضامين الشرعية للدول والأمم كما أن محاولة السعي إلى فرض ثقافة معممة لا يمكن أن يكون إلا على حساب ثقافات الدول ذاتها.. وهذا يعني الدخول في متاهات الهوية والانتماء وضرورة البحث من جديد عن قواعد تتمثلها الأمم لتمارس من خلالها  هويتها ووجودها.. وهو المأزق الذي تعاني منه كل دول العالم دون استثناء..

رابعاً / العولمة سياسياً

إن العولمة سياسياً تعني انهيار  وحدة الدولة الوطنية والمجتمع الوطني.. وتكون علاقات جديدة للقوة والمنافسة والصراعات والتداخلات بين وحدات الدولية الوطنية والممثلين من جهة.. والممثلين عبر الحدود الوطنية والهويات والأماكن الاجتماعية والأوضاع والقضايا من جهة أخرى 41..

يؤكد د. محمد عابد الجابري على أن العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن.. وبالتالي فإنه يعمل على التفتيت والتشتت وإيقاظ أطر الانتماء إلى القبيلة والطائفة والجهة والتعصب بعد أن تضعف إرادة الدولة وهوية الوطن 42.. كما أن العولمة في المنظور السياسي تعني أن الدولة لا تكون هي الفاعل الوحيد على المسرح العالمي.. ولكن توجد إلى جانبها هيئات متعددة الجنسيات ومنظمات عالمية وجماعات دولية وغيرها من التنظيمات الفاعلة التي تسعى إلى تحقيق مزيد من الترابط والتداخل والتعاون والاندماج الدولي 42.

ليتنحى بذلك مبدأ السيادة الدولية فعلياً ولا تصبح الدولة ذات سيادة إلا قانونياً فقط.. وذلك لتسهيل التعاون بين الدول الواقعة تحت تأثير الحاجة إلى التبادل فيما بينها في المجالات الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية وغير ذلك.. ومعنى أن تكون الدولة ذات سيادة قانونية فقط يعني أنها لا تملك إلا حرية ناقصة ومقيدة تبعاً لذلك.

في حين أننا نجد أن تقلص سلطة الدولة وتقييد حريتها إلى جانب إلغاء الحدود الدولية وتداخل المسافات البينية بين دول العالم عمل على خلق أيديولوجية سياسية جديدة ورؤية سياسية غير قومية أن تجاوز القومية بمفهومها الصرف.. وذلك لشعور الجميع أنهم أصبحوا يعيشون في عالم بلا حدود فاصلة ولا مسافات قد تبعد بينهم.. وأنهم بذلك قد خلقوا عالماً صغير يجمعهم معاً لذا.. لم تعد مسؤولياتهم ولا اهتماماتهم محددة وفقاً لخطوط رسمت بشكل عشوائي عبر العالم.. فعلى كوكب صغير جداً لم يعد لهم من خيار إلا أن يكونوا مواطني العالم كله 43.. ولأن العولمة ليست نظاماً اقتصادياً وحسب.. وإنما يستلزم ذلك أن تشمل مختلف مجالات الحياة سواء في السياسة أو الإعلام بوجه عام.. وكما أن النمو الاقتصادي الرأسمالي يستلزم وجود أسواق حرة.. فإنه يستلزم أيضاً وجود أنظمة سياسية وشكلاً معيناً من أشكال الحكم.. فتعدد مراكز القوة الاقتصادية كما تقتضيه شروط الرأسمالية الحديثة استلزم بدوره تعدداً في مراكز القوة السياسية كما خلق بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة وهو ما يدعن إمكانات التطور الديمقراطي بكل شروطه المعروفة من عدم احتكار للسلطة وتداولها وتعدد وتنوع مراكز القوى والنفوذ في المجتمع.. ومنع تركيز الثروة في يد الدولة.. وتحقيق درجة هامة من اللامركزية وغيرها44.. ذلك أن العولمة بارتباطاتها بنموذج نظام السوق الذي يتطلب دوماً وجود دولة قوية لتستطيع هذه السوق القيام بدورها ومهامها.. ومن هنا ليس هناك مجال للحديث عن محاولة إلغاء أو تقليص  دور الدولة..لا العكس يجب التأكيد على هذا الدور وأهميته وضرورته.. والمطلوب هو تعديل في شكل هذا الدور44..

ويرى بعض الباحثين أن الدور الجديد للدولة سوف يتيح لها الفرصة والإمكانات للتكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة دون أن انتقاص من سيادتها 44.. لذلك ولهذا السبب يصبح تعريف الدولة وأهميته أمراً هاماً وسط هذه المتغيرات الشاملة لظاهرة العولمة.. والتي خلقت شروطاً جديدة يتطلبها النظام العالمي الجديد.. تلك الشروط التي تقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل بين دول شعوب العالم.. ولأن الوضع هكذا فلا بد من اختيار يتواءم والشروط الحالية فليس من الممكن الخروج من وضعية العالم هذه.. إذ أنه من المستحيل العيش خارج الزمان والمكان.

من ناحية أخرى بالنسبة للسياسة الخارجية من المفترض أنها تحمل مسؤولية صالح الشعوب دون استثناء على اعتبار أن العالم بدوره أصبح قرية كونية كبيرة.. كما أن ارتهان النظام العام داخل الدولة لمقتضيات التوازن الخارجي وهذا بدوره يحد من حرية الدولة في القيام بأدوارها من خلال سياسات خاصة تراها مناسبة لحال مجتمعها.. إلا أن من خلال العولمة أصبحت السياسة الداخلية مرهونة بالسياسة الخارجية ومصالحها.

ونحن في زمن مفتوح كالذي نعيشه نجد الكثير من المصطلحات العولمية الشائعة الآن على نطاق الكتابة الأدبية والسياسية منها مثلاً (القرية الكونية) و (النظام العالمي الجديد) , هذه المصطلحات كانت قد انتشرت منذ التسعينيات.. وقد كانت تحمل بين مضامينها معناً متفائلاً وأملاً منشوداً.. كنا نستشعره كلما وردت هذه الكلمات على مسامعنا ز. لقد كانت تعكس إحساس بأننا مقبلون على عالم جديد يحمل بين ثناياه التنمية بكل أشكالها ومفاهيم العدالة الاجتماعية والأخوة دون فارق.. وكأننا كلنا أخوة سنشارك هذا العالم عالم القرن الواحد والعشرون.. إلا أنه ولسوء الحظ جاءت تطلعاتنا دون سبيل لتحقيقها.. ولم نستشعر سوى عنصرية وقومية وإفراط في التعصب والقهر والتهميش.. ويبدو كأننا ندخل فترة.. " حيث العديد من مشاكل عهد الحرب الباردة – فيما إذا كانت اقتصادية.. بيئية أو اجتماعية – ما تزال مثل غيمة منذرة بسوء تومض في الأفق " 45

يرى أحد الباحثين العرب أن العالم ونتيجة لما وصل غليه من تقنيات حديثة في مجال الاتصال والمواصلات التي أدت على إلغاء الحدود وانكماش الزمان والمكان وتجاوز كثير من الحدود الجغرافية في مسائل قد دفعن بشعوب  بأن تعيش في (العالم الجديد) وهو العالم الذي يتصور أنه كوكب صغير أو شبه بقرية كونية صغيرة إلا أن الباحث يرى أنها قرية قبلية إقطاعية جديدة.. ويأخذنا في تحليل هذه المسميات الفرعية فيقول:

إن كلمة قرية تعني: أن المسافات الزمنية والمكانية تتقلص بين أرجاء المعمورة.

وقبلية: أي أن الصراعات والتباينات القومية والإثنية والطبقية.. تبقى قائمة وإن اختلفت أساليب الصراع بينها.. عما كانت عليه في الماضي.. نحل محل الدول الوكيلة التي كانت سائدة فترة القطبية الثنائية.

أما كلمة إقطاعية: فإنها تعني أن هذه القرية تتحكم فيها مجموعة صغيرة من الإقطاعيين (قوى رئيسية تتمع بأسباب القوة) تتمتع بخيراتها وبسياساتها العامة. في حين يقصد بالجديدة:أنها إقطاعية لا تقوم على ملكية الأرض – كما كان عليه الإقطاع في الماضي.. وإنما الملكية التي تتحكم باحتكار القوة الحديثة: التقنية والفكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والعسكرية.. أو بمعظمها.. ثم يقول بأن العلاقات إن كانت على مستوى الأفراد أو الدول.. ستبقى علاقات (قوى) تحددها المصلحة الذاتية على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات الخاصة.. وقومية على مستوى الدول.. حتى ضمن التحالفات.. وإن أخذت أشكالاً مختلفة عن الماضي.

فإذا كانت تلك الآراء والتعريفات ترى في الدولة بسياساتها التي آلت إليها اليوم.. وسيلة فعالة  لتسييس الاقتصاد ودفع عجلته إلى الأمام بناءً على قواعد وقوانين اتفق عليها عالمياً.. وبما يتفق وسياسة الاقتصاد الرأسمالي العالمي.. نجد من جانب آخر نفر من أنصار العولمة لم ير فيه الدولة أو النشاط السياسي اليوم ما يلبي حاجات الشعوب.. ومن ثم يرى هؤلاء أن المسؤوليات التي كانت تقع على عاتق الدولة في الماضي كالإجراءات التي تقرر الأمن والاستقرار والرفاهية والعدالة الاجتماعية.. والحفاظ على البيئة.. وحل كثير من المشاكل الضاغطة لم تعد هي مسؤوليات الدول القومية.. بل من خلال سلطات دولية أو مرجعية دولية.. كالإرهاب الدولي.. والمجاعة في العالم وتجارة المخدرات ومشكلة اللاجئين في العالم وغيرها.. لذلك فالعمل السياسي الفعال اليوم ينبغي أن يكون عملاً دولياً مباشراً من قبل مثل تلك السلطات.. فإذا أراد الأفراد المحافظة على مصالحهم الخاصة بفاعلية.. عليهم محاولة التأثير في تلك الهيئات المباشرة.. وليس فقط من خلال وكالات حكومية تتولى العمل نيابة عنهم لها مصالح أخرى46.. وهذا بدوره يدفعنا إلى إبراز أكثر جوانب العولمة إثارة للجدل فيما يخص الدولة ووضعها ومدى حريتها في القيام بمهامها التي كانت في سابق عهدها.. ذات سيادة كلية غير منقوصة.. وغير مشوهة (فالدولة.. أو الدولة القومية بتعبير أكثر تحديداً والتي تبلورت مع تطور الرأسمالية.. والتي ازدهرت في ظلها الظاهرة الديمقراطية.. هي الآن التي تتعرض بفعل آثار وتداعيات العولمة.. لتغييرات كبيرة في دورها ووظائفها.. وربما كانت أكثر التطورات التي مهدت لهذا التغيير في طبيعة ودور الدولة.. هي ما أسفرت عنه العولمة من تزايد لدور الشركات متعدية الجنسية في الاقتصاد.. ومن انتشار مظاهر سياسية وثقافية تتجاوز بكثير حدود وسلطة الدولة القومية 47.

خامساً / العولمة اجتماعيا ً

ليس صدفة أن جعلنا هذا المحور – العولمة اجتماعياً- هو المحور الأخير أو النقطة الأخيرة في تقديم مفاهيم العولمة.. فبينما رصدنا بعض ما قدم من تعريفات خاصة بكل مفهوم من تلك المفاهيم كل على حدة.. كان لا بد أن يأتي هذا المحور كنتيجة لكل ما تقدم من تعريفات يشمل الأطر المتشابكة والمتداخلة فيما بينها لتشكل في آخر الأمر كلاُ واحداً لا يمكن الفصل بينها سوى نظرياً.. خاصة وأن مفهوم المجتمع اليوم لم يعد مقصوراً على معنى الجماعة المتشكلة والتي لها أيديولوجيتها التي تمثل قيمها وأفكارها ومنهجها الخاص بها إلى جانب ما لها من ثقافة عامة يشتبك فيها الموروث الديني والتاريخي والمنظومة القيمية التي تشكل مرجعية ثابتة وأزلية..

إننا اليوم أمام مفهوم مغاير لمصطلح (المجتمع).. خاصة وأن العولمة ما هي إلا منهج حياة ومنظومة مركبة تركيباً خاصاُ ذو بعدٍ خاص.. كنا قد ألمحنا إليه مقدماً.. المجتمع اليوم هو المادة الخام التي لا بد من تشكيلها من جديد لما يتواءم ومتطلبات هذه العولمة ومنظومتها الشمولية العالمية.. لذا كان من أهم أهداف العولمة هو اختراق هذه المجتمعات بكل ما لها من أدوات وامتيازات تجعلها قادرة على أن تفرض شروطها عليها مدركة ما يمكن أن تصير إليه هذه المجتمعات بهياكلها الاقتصادية والثقافية والسياسية والدينية.. حيث أن هذا الاختراق الموجه ما هو إلا وسيلة من وسائل العولمة أو لنقل الاستعمار المقنع بوجهه الحديث والجديد.. إنها مرحلة من مراحل الإمبريالية التي لا ترغب في أكثر من انتزاع الخصوصية والهوية من تلك المجتمعان لتصبح مجرد مسوخ للعالم الغربي.. وتحت هيمنته لتدرك من خلال ذلك غايتها في توسيع نشاطها الاقتصادي وإعادة توزيع المنافع حسب ما يفيد مصالحها الخاصة.. فإذا ما حاولنا تحديد مفهوم العولمة اجتماعياً نقول أن العولمة تسعى إلى تغيير وجه الحياة داخل هذه المجتمعات بما يتناسب ومنتجات تلك الدول الدول المصنعة والمصدرة للعولمة ومنتجاتها.. فالبلاد في العالم الثالث ما هي إلا مجرد (أسواق) من هنا كان لا بد من تغيير منهجية وأسلوب وطريقة وثقافة تلك المجتمعات لتصبح قادرة وفي احتياج دائم لما نتجه الغرب.. ولكل ما تصدره العولمة تحت شعار التحديث والحداثة والتكنولوجيا المتطورة.. بوجهها السلبي الاستهلاكي فقط.. أما كل ما يساعد على التنمية الحقيقية وتطوير الإمكانات لا يتاح لهذه المجتمعات الوصول إليه إلا بمقاس منافع  تلك الدول الرأسمالية المالكة لكل حقوق التصنيع والتطوير والتصدير والامتلاك..

إن المجتمع اليوم غير قادر على أن ينحي بنفسه جانباً.. أو يستطيع أن يتحكم في أدواته وإمكاناته تبعاً لحاجته هو.. أو ما يساعده على تنمية قدراته.. فقد عملت العولمة على استلاب الوعي الجماعي ومن ثم إعادة إنتاجه من خلال غرس أو استيراد أنماط جديدة تتواءم وطبيعة الإنتاج الرأسمالي.. أي بمعنى آخر استلابه القوة والقدرة على الاختيار  وهذا هو أول مظاهر العولمة اجتماعياً.. فقد اصبح أسيراً لمنهج يطل عليه من الخارج.. لم تخلقه ظروف بيئته.. إنما تصدره بيئات مباينة مما يجعله دائماً في رغبة شديدة إلى أن يملك كل ما هو جديد ومثير.. من هنا كان التوجه الغربي في تغيير منطق الحياة.. وتفتيت البنية الفكرية وتحلل التركيبة الثقافية وتبديد السلطة لكي يزيل كل ما يمثل عقبة أمامه لامتلاك إنسان العالم الثالث.. وبالأخص إنسان البلاد الإسلامية والعربية لما لها من خصوصية شديدة.. فبالرغم من كل الشعارات التي تقدمت بها المؤسسات الحكومية والأهلية من تقرير لحقوق الإنسان والحرية الفردية.. بكل ما تشمله هذه الحرية من مفردات متنوعة.. والديمقراطية والسلام والأمن والرفاهية.. نرى أن العولمة لم ـاخذ بهذه البنود الرئيسية التي اعتمدتها النهضة السابقة ومرحلة التحديث أو مرحلة ما بعد الحداثة.. فالعولمة ولتوجهها الاقتصادي الصريح والمباشر كان عليها أن تسخر كل ما هو في صالح الغول الاقتصادي وشرهته في توسيع ميادينه وتحقيق أقصى ربحية ممكنة.

ونرى من جهة أخرى وبناءً على الصياغة الجبرية (غير المباشرة) العولمة أن دول العالم لا تتبنى العولمة بمحض إرادتها أي اختياراً.. بمعنى أنه ليس في استطاعتها صياغة الأسس الخاصة بها.. وتحت مظلة العولمة.. وتخطيط الأساليب والآليات الملائمة لها.. بما يتناسب وقدراتها وظروفها وشرطها التاريخي.. بلغة أخرى فهي لا تملك مقدرات القبول أو الرفض مما يدل على أن العولمة عملية موجهة لهذه الدول ومن ثم فلا يمكن اعتبارها ظاهرة صحية.. من الممكن تطوير مفهومها.. حيث قامت على اختيار وإرادة حرة.

فالعولمة اجتماعياً هي بنية من ضمن البنى التي تتألف منى منظومة العولمة العالمية والتي تمثل في نهاية المطاف الأرض التي لا يمكن بدونها أن تتحقق العولمة فعلياً.. لأن المجتمع هو الصورة النهائية لجميع التركيبات الثقافية والاقتصادية والسياسية معاً لتشكل في النهاية الإنسان بما له من خصوصية وفردية من جانب.. وبما له من انتماء جماعي من جانب آخر.

تاريخ العولمة

يرى محمود أمين العالم أن العولمة كانت قد تحققت نتيجة لثلاث عوامل.. موضوعية أساسية ألا  وهي: أولها الطبيعة التوسعية التنافسية ذات التوجه الاحتكاري لنط الإنتاج الرأسمالي نفسه.. والعالم الثاني هو فشل التجربة الاشتراكية السوفييتية وتفكيك المنظومة الاشتراكية العالمية التي كانت قطباً عالمياً مناقضاً للقطب الرأسمالي العالمي في الحرب الباردة التي كانت دائرة بين هذين القطبين.. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.. وقد أفضى هذا العامل الثاني إلى إضعاف حركة التحرر الوطني في بلدان الجنوب أو العالم الثالث عامة.. التي كانت تستند سياسياً وتسليحاً على القطب الاشتراكي بمستوى أو بآخر.. كما كانت تسانده موضوعياً في الوقت نفسه معركته مع القطب الرأسمالي بكتلتها التي كانت تسمى بكتلة عدم الانحياز أو مجموعة باندونج والتي كانت في جوهرها جبهة معادية للإمبريالية.. أما العالم الثالث فهي الثورة العلمية الثالثة التي كانت تتنامى منذ الحرب العالمية الثانية وتحقق وما تزال تواصل تحقيق تكنولوجيا في مجالي الاتصالات والمعولمات التي تكاد اليوم تزيل حدود المسافات المكانية والزمنية.. وتضاعف مضاعفة شبه إعجازية من قوى الإنتاج وتفجر طاقات وإمكانات واكتشافات معرفية ثورية وتغييرية  لا حدود لها.. ولقد أسهمت هذه العوامل الثلاثة لا في التعجيل بالتوسع والهيكلة الرأسمالية عالمياً فحسب.. بل في تعميق النمط الرأسمالي نفسه وتجذيره موضوعياً وتحقيق سيادته وسيطرته عالمياً بأبعاده الثلاثة السياسية والاقتصادية والثقافية48..

بدياو نقول أن العولمة ظاهرة متطورة لما سبقها من أنظمة (شيوعية ورأسمالية).. حيث كان في دمج بعض قوانينهما ما يسمى (اقتصاد السوق) وكان أول  مبدأ من مبادئ هذه السوق هو مبدأ – تحرير التجارة وذلك للتهرب من سيطرة الحكومات على السوق.. وكان من مظاهر هذا المبدأ أن قامت الحكومات بخصخصة مؤسسات القطاع العام وبيعه للقطاع الخاص.. مما دفعها إلى صك قوانين تحمي بها مبدأ تحرير التجارة مثل قوانين (حرية انتقال رؤوس الأموال).. (إلغاء الحدود الجمركية).. الخصخصة) هذا إلى جانب أنها سعت على إقامة اتفاقيات فيما بينها على أساس مبدأ حرية التجارة مما نتج عنه عدة مشروعات اقتصادية مثل اتفاقية توحدي التعريفة الجمركية والمعروفة باسم (الجات).. كما أسست المنظمات لحماية حرية التجارة مثل (البنك الدولي) وصندوق النقد الدولي  ومنظمة التجارة العالمية.. فلو سلمنا بأن العولمة ما هي إلا ظاهرة تاريخية (تبلورت في صورتها الحالية.. مع أواخر القرن العشرين فإن ذلك لا يعني أن ننظر إليها على أنها مقطوعة الصلة بمراحل التاريخ الاقتصادي  للعالم خصوصاً عندما يكون هذا التاريخ ليس سوى تاريخ توسيع الأسواق ودفع الحدود والحواجز.. وإذا كان الأمر فعلاً  كذلك فلا بد من التسليم بأن آلية التبادل التجاري الدولي مثلث الوسيلة أو الأسلوب التطبيقي الأول للعولمة الاقتصادية.. لقد كانت التجارة هي القناة الأولى والمظهر الأول الذي نمت من خلاله عولمة النشاط الإنتاجي عبر التاريخ 49.. فكثيراً ما تعد العولمة – عند البعض – حركة تلقائية لسقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفييتي قبل (عشر سنوات) فهي مميزات المرحلة الراهنة من تطول الرأسمالية بمعنى أن تاريخها يبدأ فقط من طغيان الطبقة المالية من الرأسمالية50.. وتعد من ناحية أخرى – وعند العبض الآخر – ما هي غلا توزيع لمسلسل من التطور والتوسع الاقتصادي ويرجع إلى القرن الخامس عشر زمن النهضة الأوروبية الحديثة.. فالظاهرة عمرها خمسة قرون بداية من ظهور البوصلة وحتى الأقمار الصناعية 50.. من هنا وقياساً على ما تقدم نستطيع تقرير: أن العولمة ليست ظاهرة جديدة كل الجدة إنما هي مرحلة متقدمة من مراحل تطور الرأسمالية الجديدة والتي تمثل في ذات الوقت التعبير الشامل والكلي لأدوات هذه الرأسمالية وتعبيراً حياً وفعلياً عن توجهاتها وأهدافها.. خاصة مع الانهيار العاصف لدول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي وحركات التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث51.

إلى جانب أن أكثر تجليات هذه العولمة حضوراً وواقعاً نعايشه في حياتنا اليومية – حتى هذه اللحظة على الأقل – هو المحتوى الاقتصادي.. فمنذ أن ظهرت الشركات المتعددة الجنسية.. ولأول مرة في القرن التاسع عشر.. حيث اتخذت منذ البداية شكل الشركات المساهمة.. قد سعت هذه الشركات في مراحلها الأولى ومن خلال التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي إلى عولمة النشاط الإنتاجي.. أما المرحلة التالية.. فكانت من خلال تدويل الأنشطة المالية وذلك عن طريق فتح سوق عالمية موحدة تعمل على ربط الأسواق المالية خاصة وأن ثورة الاتصالات ثم التطورات في نطاق تكنولوجيا المعلومات وظهور التقنية الرقمية لنقل المعلومات وأخيراً شبكة الإنترنت في عام 1994.. قد ساعدت في توفير عناصر عمل الآلية الثالثة للعولمة الاقتصادية أو ما ما يطلق عليه اليوم بالعولمة المالية 52.

من ناحية أخرى نجد أن زولاند روبرتسون  يحاول رصد ظاهرة العولمة من خلال البعد الزمني التاريخي وذلك بتقسيم الحقب التاريخية لها بناءً على المراحل التالية: 

 أولاً / المرحلة الجنينية:  وهي المرحلة التي يحددها زولاند بالمرحلة الممتدة منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي حتى منتصف القرن الثامن عشر وهي المرحلة التي شهدت أوروبا فيها نمو المجتمعات القومية.. فهي المرحلة التي تكونت فيها بذور هذه الظاهرة التاريخية.

ثانياً / مرحلة النشوء: فهي تبدأ من منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1870.. وهي المرحلة التي أخذ مفهوم الدول يتضح أكثر ويأخذ له مكاناًً إقليمياً محدداً.. فقد تطور مفهوم الدولة.. كدولة موحدة متجانسة لها حدودها الإقليمية.. تستطيع إبرام الاتفاقيات الدولية وذلك من خلال مؤسسات خاصة بتنظيم العلاقات بين الدول.

ثالثاً / مرحلة الانطلاق: وهي المرحلة الثالثة وهي التي بدأت منذ عام 1870 حتى العقد العشرين من القرن العشرين.. إذ  أصبحت العلاقات بين الدول تقوم على فكرة الصراع والتنافس.. على جانب ما حدث من تطورات في كافو المجالات المتنوعة فتحت أمام العالم إمكانات هائلة من القوة والنفوذ للسعي إلى السيطرة والهيمنة.

رابعاً / الصراع من أجل الهيمنة: وهي المرحلة التي بدأت بشائرها منذ العقد العشرين حتى منتصف الستين من القرن (الحالي) وهي المرحلة التي شهدت صراعات وخلافات فكرية.. مما أدى إلى ظهور العديد من الفلسفات المتباينة والمتنوعة تدور حول القضايا الإنسانية.. خاصة وأن أحداثاً كثيرة عانى منها الإنسان لا سيما واقعة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما / اليابان

خامساً مرحلة عدم اليقين: أما المرحلة الأخيرة فهي المرحلة التي بدأت منذ العقد الستين إلى وقتنا الحالي.. وهي المرحلة التي شهدت أحداثاً كثيرة أهمها إدراج العالم الثالث في المجتمع العالمي ونهاية الحرب البرادة بين المعسكرين الشرقي والغربي.. وازدياد المؤسسات والشركات الدولية والعالمية... هذا على أن هناك من يقدم تفسيراً للعولمة على أنها " مبادرة تقدم بها بعض المنظرين في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965 طرحوا فيها ثلاث قضايا جعلوا فيها برنامج عمل يضمن للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة والسيادة على العالم وهي:

تتعلق بالسوق العالمية.. كأداة لإخلال التوازن بالدول القومية تخص الإعلام تتعلق بالسوق كمجال للمنافسة.. انطلاقاً من نظرية (اصطفاء الأنواع) أو (البقاء للأصلح).. وهذه القضايا الثلاث فسرها د. الجابري بما يلي:

شل الدول الوطنية

توظيف الإعلام

التعامل مع الأفراد العالم بمبدأ البقاء للأصلح53.

أما حازم الببلاوي فإنه يقدم صورة لخط سير العولمة  بأثر رجعي عبر التاريخ فهو يقول: أنها وليدة عمل حثيث مستمر تحت السطح من التغيير التقاني والمؤسسي يزيل أو في القليل يخفف من حدة الحدود السياسية.. فالتاريخ الاقتصادي للعالم هو تاريخ توسيع الأسواق ودفع الحدود والحواجز 54.. فعندما نعود على الخلف نجد أن التجمعات البشرية أدركت منذ القدم أنها بحاجة ماسة لبعضها البعض وأن أي بلد مهما بلغ من تطور في عصره لن يستطيع أن ينتج كل السلع والخدمات التي يرغب سكانه في الحصول عليها وقد وفرت هذه الحقيقة أساسً متيناً وقوياً للاعتماد المتبادل 53.. وهو ما دفع بالدول إلى التبادل التجاري أو لظهور ما يسمى بالتجارة الدولية.. وهو ما نجده في الجزيرة العربية والخليج العربي الذين كانوا يعتمدون اعتماداً كلياً على التجارة وتبادل السلع فيما بينهم حتى ازدهرت هذه التجارة وامتدت إلى ما وراء الدول العربية شرقاً.. حيث وصلت الصين  وغرباً إلى مرافئ أوروبا.. من هنا شكلت التجارة عبر البلدان العربية أهم مصدر لتراكم الثروة لديهم في هذه الفترة من تاريخهم الأول.. وكانت من الأسباب الرئيسية لازدهارهم الاقتصادي وثرائهم وتفوقهم الثقافي.. وظلوا يلعبون دوراً متميزاً على صعيد التبادل التجاري الدولي.. إلى أن قامت الحروب الصليبية عام (1096 – 1196) وخلالها تسقط بغداد على أيدي المغول ويبدأ نجم العرب بالأفول تدريجياً53.. في هذا الوقت شهدت أوروبا ما بين القرن الحادي عشر والرابع عشر دخول النظام الإقطاعي ومن ثم تبدلاً أساسياً في ميزان القوى وظهور الرأسمالية التجارية ومن هنا بدأ التخطيط من قبل أوروبا للإجهاز على قوة العرب التجارية من خلال تطوير أسطولهم البحري لوقف الزحف الإسلامي ودحر هيمنته التجارية.. وكان لهم ما أرادوا حيث كان العرب قد " فقدوا سيطرتهم كلياً على  طرق التجارة العالمية وأصبح نصيبهم فيها لا يكاد يذكر53.. ومع الكشوفات العلمية والجغرافية استطاعت الرأسمالية التجارية الجديدة أن تسيطر على الحياة الاقتصادية الأوروبية.. وظهور العديد من المدارس الاقتصادية والتي تصدر عن فكر اقتصادي أوروبي يعبر عن مصالح رأس المال التجاري.. والتي ترى " أن عماد الثورة لأي شعب من الشعوب إنما يتمثل فيما تملكه من معادن نفيسة.. وأنه لكي تزدهر هذه الثروة فإن الميزان التجاري للدولة يجب أن يحقق فائضاً وأن هذا الفائض يتعاظم كلما شجعت الأنشطة الاقتصادية المشتغلة بالتصدير 53. إلا أن هذا الفكر الاقتصادي قد تطور في اتجاه يضع مصلحة الدولة فوق مصالح باقي الدول الأخرى.. وكان هدفهم الأساسي هو: حصول الدولة على المزيد من المعادن النفيسة وليس تطوير التبادل التجاري الدولي الذي يجب النظر إليه كعملية واحدة متكاملة بشقيها الصادرات والواردات وإن منافعها يجب أن تشمل الدولة الواحدة وكذلك شركائها التجاريين الآخرين55.. من هنا ظهرت أفكار اقتصادية جديدة تتواءم والطرح والأهداف الجديدة للدولة الأوروبية من بينها ما جاء به فكر الطبيعيين الذي انتشر على طور القارة الأوروبية مع منتصف القرن الثامن عشر.. والذي يعتمد على مبدأين أساسيين هنا: مبدأ المنفعة الشخصية الذي يقود سلوك الأفراد ويحفز نشاطهم الاقتصادي.. والثاني هو مبدأ المنافسة فكل فرد هو يسعى لتحقيق منافعه الشخصية ويواجه منافسة الأفراد الآخرين الذين يسعون في ذات الوقت إلى تحقيق منافعهم الشخصية.. الأمر الذي يمثل محدد أساسي لكل الأفراد في سعيهم لتحقيق منافعهم الشخصية 55.. الأمر الذي دفع بالبعض إلى القوم بأن الفكر الطبيعي هذا " قد أسهم في وقت مبكر في تحديد ظاهرة العولمة بصورة أكبر كما أعطاها بعداً اقتصادياً أدق 55.

مما يدل على أن القواعد أو القوانين الاقتصادية التي تعم أفقنا اليوم مثل حرية التجارة الدولية وعدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.. بل النظرية الاقتصادية بكل أشكالها ومدارسها ما هي إلا نتاج وخلاصة: لأكثر الطروحات الفكرية نضجاً في تلك الفترة التاريخية وما قبلها 55.. ومع قيام الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر في إنجلترا ثم في أوروبا كان هناك تحولات رئيسية في التاريخ الاقتصادي.. إذ أنه وبسبب تلك الاختراعات الجديدة من وسائل مواصلات وآلات تخفض من استخدام الجهد العضلي زاد حجم الإنتاج السلعي في البلاد الأوروبية.. مما دفع بهذه الدول إلى البحث عن أسواق جديدة تستوعب الفائض من الصناعات وتصرفها من خلالها لذلك نشطت التجارة الدولية وتعاظمت الأسواق العالمية.. وقد شهدت المرحلة أولى الحركات الكبرى لراس المال الأوروبي.. باتجاه البلدان النامية للاستثمار في قطاعات إنتاج المواد الخام – الأولية وتصديرها إلى الدول الأم 56.مما نتج عنه شكلاً من التقسيم الجائر للعمل الدولي أنتج بدوره طبقية وفروقاً كبيرة بين مستويات الدول الأم التي تسمى بـ(البلدان النامية) التي ما زالت تعاني ما تعانيه من فقر في الأدوات والإمكانيات دون القدرة على تغيير أوضاعها للآن.. أما من حيث دلالات هذا الحدث وارتباطه بالعولمة الاقتصادية فتمثلت في ولادة أو خلق آلية أخرى جديدة لهذه الظاهرة وهي آلية الاستثمار الأجنبي المباشر أضيفت على آلية التجارة الدولية56..

أما الفترة الواقعة بين (1913 – 1945) قد شهدت تبدلات جوهرية في علاقات القوى الاقتصادية على المسرح العالمي 56.. ومن أهم هذه التحولات سقوط المعسكر الشرقي وانهيار الاتحاد السوفييتي وبزوغ أو صعود القوى الأمريكية واتخاذها موقع عرش العالم الرأسمالي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً دون منازع.

لذا يمكننا القول إذن: أن العولمة ليست ظاهرة بلا جذور.. وإنما هي ظاهرة تاريخية موضوعية ناتجة عن ثورة الاتصال والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالي.. ومن هنا فإن البقاء خارجها ليس هو التحدي الحقيقي.. ولكن أن نلحق بهذا العالم الذي لا مفر منه وأن نتعامل معه بوعي حسب قواعد اللعبة حتى نضمن موقعاً فيه وليس خارج التاريخ57.

من هنا كان هناك " من لا يرى مثل كثيرين غيره في العولمة – مرحلة جديدة في الرأسمالية.. مرحلة لها سماتها المميزة عن المراحل السابقة التي مرت بها الرأسمالية في الغرب – هذا لأنها تحمل في جوهرها – السمات الرئيسية للرأسمالية.. وهي السيطرة على الشعوب الأخرى وامتصاص ثرواتها وجهودها ووضعها في حالة التبعية المقيمة – وهو ما يتعارض مع المروجين للعولمة والذي يعتبرون – أن كل ما فيها جديد لا لعلاقة لها بماضي الرأسمالية – منكرين هؤلاء الدعاة لما تفرضه العولمة من – إشكالات تمس الإنسان والشعوب من جهة الحرية والهوية وحقوق الإنسان والتعدد وحق الاختلاف.. وحق الشعوب في اختيار أنظمتها وفي السيطرة على ثرواتها واقتصادها وإعلامها ونظمها التربوية.. هذا بالطبع يعمل على  إسقاط إرادات الشعوب وفعلها.

إن العولمة في جوهرها تعني ضمناً هيمنة نظام عالمي على بقية النظم الأخرى.. إلى جانب هيمنة الديناصورات المالية الأمريكية على الشركات متعددة الجنسية.. ومن ثم على السوق العالمي الذي يراد فتحه أمامها بالقوة.. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتجاوز على أبعد من نطاق التكنولوجيا.. ونطاق البورصات والتنافس الاقتصادي.. التي في أساسها ما هي إلا عملية – سياسية تقودها الدولة الأمريكية بالاعتماد على قدراتها العسكرية ونفوذها السياسي أولاً وقبل كل شيء – لذا يرى الكاتب أن – المرحلة التي نمر بها هي مرحلة عالمية جديدة ستتم إن عاجلاً أو آجلاً بوقوف الغالبية الساحقة من العالم شعوباً ودولاً وأفرادا وجماعات ضد العولمة – والتي تعني سيطرة – دولة واحدة وقطب واحد على النظام العالمي.. فالعالم يريد تعدداً للقطبية ودوراً لجميع الدول.. وسيطرة الشركات متعدية الحدود القومية على كل مناحي الحياة.. فالعالم يريد الحيلولة دون ذلك – لأنها تعتمد قانون التنافس – غير المتكافئ والذي يسمح للقوي بأن يأكل الضعيف – كما أنها – تعني هيمنة هوية واحدة وثقافة واحدة وإعلام واحد.. فإن العالم يريد تعدداً ثقافياً وتكريساً لحق الشعوب في هويتها المستقلة وتنميتها.. ولا يقبل أن يرى الأحداث أو تقدم له القيم من خلال إعلام واحد58..

.....................

المصادر

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرون ص 9

البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص1

 المستقبل العربي العدد 256 ص 17

 البعد الثقافي لمفهوم العولمة ص 4 , 5 , 6

السياسة الدولية العدد 134 / ص 43

ما هي العولمة اولريش بك ص 397

الأيديولوجيا والسياسة ص 397

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 9. 10

قضايا فكرية ص 143

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 23 , 24

روجيه جارودي كيف نصنع المستقبل ص 6

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 24 , 10, 13, 12,18

ابراهيم فتحي / العولمة والهوية الثقافية مجلة جسور / العدد 1 فبراير 99 ص 10 , 13 , 11

البعد الثقافي لمفهوم العولمة

العرب والعولمة / مهيوب غالب أحمد / المستقبل العربي العدد 256 ص 61 / نقلا عن السيد ياسين في مفهوم العولمة المستقبل العربي السنة 20 العدد 228 شباط / 98

مجلة جسور العدد 1 فبراير 99 ص 5 , 6

العرب والعولمة مهيوب غالب / نقلا عن صادق جلال العظم ورقة بحث: تونس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم 96

البعد الثقافي لمفهوم العولمة

السيد أحمد مصطفى عمر المستقبل العربي العدد 256 / إعلام العولمة ص 71 نقلا عن كمال عبد الغني المرسي / العلمانية والعولمة والأزهر / الاسكندرية / دائرة المعارف الجامعية 99

السيد أحمد مصطفى عمر / المستقبل العربي العدد 256.. نقلا عن اسماعيل صبري وآخرون / العولمة: هيمنة منفردة في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية تقديم محمد نوار  ص 43

البعد الثقافي لمفهوم العولمة

نقلا عن المستقبل العربي / حمدي عبد الرحمن حسن العدد 258 / 2000 / ص 4 , 5

مهيوب غالب أحمد/ ص 61 / المستقبل العربي العدد 258

نقلا عن المستقبل العربي / العدد / 8/ 2000 حمدي عبد الرحمن حسن / ص 54

ما هي العولمة / اولريش بك ص 39 , 40

البعد الثقافي لمفهوم العولمة

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 141

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 141 , 142 , 143

قضايا فكرية التاسع عشر والعشرين ص 17 , 18 , 19

العصور الجديدة / العدد الثاني اكتوبر 99 / الهوية والعولمة / أحمد فؤاد سليم ص 192. 193.

ما هي العولمة ص 39

السياسة الدولية العدد 134 / اكتوبر / د. هالة مصطفى / العولمة ودور جديد للدولة ص / 43 , 44

الثقافة العربية ص 20

المستقبل العربي 256 , ص 72 نقلا عن الفريد فرج العولمة في مرآة الثقافة الغربية

المستقبل العربي ص 73

جون ماينرد كينز / المستقبل العربي / العدد 260 / ص 8

المستقبل العربي  العدد 256 / ص74

العولمة والجات ص 13

الثقافة العربية ص 9

السياسة الدولية العدد 34 / ص 44/ د. هالة مصطفى

ماهي العولمة اولريش بك ص 41

محمد عابد الجابري / نقلا عن المستقبل العربي العدد 256 ص 73

إيفان لوارد / نقلا عن المستقبل العربي العدد 260 ص 135

السياسة الدولية د. هالة مصطفى ص 44  , 46

 اليزابيث دودسول / المديرة التنفيذية لبرنامج البيئة في الأمم المتحدة نقلا عن المستقبل العربي العدد 260

المستقبل العربي العدد 260 ص 136. 137

السياسة الدولية العدد 134 / العولمة دور جديد للدولة.. د. هالة مصطفى / ص 45

قضايا فكرية العدد التاسع عشر والعشرين ص 11

العولمة والجات د. عبد الواحد العفوري ص 16

البعد الثقافي لمفوم العولمة

جسور العدد 1 ص 16

العولمة والجات ص 16

البعد الثقافي ص 8

العولمة والجات ص 15 , 16. 17

العولمة والجات ص 19 , 20

العولمة والجات ص 24 , 25

السياسة الدولية العدد 134 د. هالة مصطفى / ص 46

في الحداثة والخطاب الحداثي. 

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس 28/كانون الأول  /2006 - 6 /ذي الحجة /1427