خمس البالغين في أمريكا اميون

عملية التعليم هي عملية غير نهائية، تعني بالنسبة للبعض الالتحاق بإحدى الكليات، ولكنها قد لا تعني بالنسبة لآخرين في الولايات المتحدة سوى الاعتراف بعدم القدرة على القراءة والكتابة، والاتجاه الطوعي للعودة إلى المدرسة أو أحد برامج محو الأمية.

تشير الإحصاءات الخاصة بمعدل القراءة والكتابة في الولايات المتحدة كما ينقلها تقرير واشنطن إلى وجود  حاجة كبيرة للاستفادة من أعمال منظمات محو الأمية مثل مجلس واشنطن.  ووفقا لبيانات "التقييم الوطني لمعدلات القراءة والكتابة بين البالغين" National Assessment of Adult Literacy لسنة 2003 هناك حوالي 19% من البالغين في الولايات المتحدة إما أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة مطلقا واما أنهم لا يمتلكون مهاراتها الأساسية أو القدرة على التوقيع ومعرفة الأرقام واستخدامها في عمل معادلة حسابية بسيطة جدا. يوجد جزء كبير من هؤلاء في المناطق الحضرية، يتوزعون بين الذكور السود بالأساس داخل الفئة العمرية الأربعينيات والخمسينيات، كما يعانون في معظمهم من البطالة أو عدم القدرة على العمل، وانخفاض الدخول، أو العمل في وظائف وأعمال غير ماهرة مثل العمل في المطاعم أو غسيل الملابس في المستشفيات أو غيرها من الأعمال التي لا تتطلب أية أعمال كتابية بدءا من ملء طلب عمل application form. ويعاني جزء من هؤلاء من أسباب عدم القدرة على التعلم، ولم تول أسرهم أثناء طفولتهم اهتماما كبيرا بمحاولة فهم تلك الأسباب ومعالجتها، يرجع بعضها إلى مشكلات ذهنية وعقلية لدى هؤلاء، خاصة ما يعرف بـ "الديسليكسيا" Dyslexia، والذي قد يكون راجعا بدوره لأسباب تتعلق بالبيئة التي نشأ فيها هؤلاء، فمعظمهم نشأوا في بيوت لم توجد فيها كتب، وداخل أسر غير متعلمة لا تعطي لقيمة التعليم أهمية كبيرة. وقد تعمقت مشكلة هذه الفئة مع استبعادهم ووضعهم في فصول معينة داخل المدرسة بسبب عدم قدرتهم على القراءة والتواصل. وفي الواقع، فإن المدرسة قد لجأت إلى هذا البديل كوسيلة للتخلص منهم بدلا من مواجهة مشكلاتهم ومساعدتهم على التغلب عليها.

وتكشف قراءة تجارب الكثير من هؤلاء عن المشكلات النفسية والسيكولوجية التي يعانون منها والأسباب الحقيقية وراء فشلهم في التعلم وتسربهم من العملية التعليمية. ففي أحد المباني الصغيرة بشمال غرب واشنطن Northwest D.C، وفي أحد الفصول الصغيرة تقوم مجموعة من البالغين بتعلم القراءة والكتابة، حيث تنتشر عدد من الملصقات الكبيرة الملونة داخل المبنى تشرح كيفية القراءة وبعض المقاطع الصوتية البسيطة لا تختلف كثيرا عما نجده في فصول التعليم الأولى. ويقوم المعلم باستخراج بعض الأوراق التي تحوي تمارينا في الهجاء والقراءة، يحاول "التلاميذ" ترديدها بصوت مرتفع خلف المعلم، حيث يتعلمون العلاقة بين الأصوات والحروف، وغيرها من قواعد القراءة مثل الفرق بين الاسم والظرف..الخ. ولجذب المزيد من المنضمين إلى هذا البرنامج تتضمن العملية التعليمية بعض الأنشطة الترفيهية مثل المسابقات الصغيرة، وبعض الألعاب وتوزيع بعض الهدايا على الفائزين. ويظل الخلاف الرئيسي بين هذه الفصول والمدرسة الابتدائية هو أن الجالسين على مقاعد تلك الفصول ليسوا أطفالا ولكنهم أشخاص تتراوح أعمارهم حول الخمسينيات والستينيات، لديهم أعمالهم ووظائفهم وأسرهم.

محو الأمية في أمريكا

يقوم بتنفيذ هذا البرنامج "مجلس واشنطن لتعليم القراءة والكتابة" Washington Literacy Council، وهو مؤسسة غير هادفة للربح، تأسست بهدف مساعدة البالغين الذين يعانون من الأمية. وقد تأسس المجلس في سنة 1963 على يد الإرسالي السابق فرانك لوباك Frank Launack، والذي قضى فترة مهمة من حياته في باكستان، شاهد خلالها المعاناة التي يمر به الأميين هناك. وعندما عاد لوباك إلى الولايات المتحدة قرر الاستفادة من تلك الخبرة من خلال تأسيس هذا المجلس. وكما تقول إليزابيث ليبتاك Elisabeth Liptak، المديرة التنفيذية للمجلس، قامت فكرة المجلس والبرنامج على أن "يقوم الأفراد الذين يجيدون القراءة والكتابة بتعليم آخرين لا يجيدونها".

ويقول "كنيث" (67 عاما)، أحد الملتحقين بالبرنامج، مستندا إلى عصاه، أنه قد ذهب إلى المدرسة عندما كان طفلا ولكنه واجه مشكلات انتهت به إلى ترك المدرسة بشكل مفاجئ في الصف الثامن. ويؤكد في هذا السياق أنه لم يتقبل آنذاك فكرة العمل المكتبي الدائم، فالأشخاص الذين يعملون كانوا من وجهة نظره "أشخاص أغبياء". وفي المقابل فضل "كنيث" الطريق الأيسر للحصول على المال والنساء اللاتي يفضلن الطريق ذاته، ولم يحذره أحد من خطورة تلك الأفكار، أو "أن الأشياء لا تأتي بدون ثمن" على حد تعبيره.

وقد أصبح "كينيث" مدمنا للكحوليات والمخدرات، ولم يجد فرصة عمل تتناسب مع مستواه التعليمي سوى العمل لدى هيئات النظافة والصرف الصحي، كما لم يستطع الحفاظ على ابنته الوحيدة وزوجته التي لم تستطع التأقلم مع نظام حياته وظروفه المعيشية وفضلت الارتباط بزوج آخر. أكثر من ذلك، فقد وجهت لكنيث اتهامات بإدمان المخدرات، فقد على أثرها شقته التي كان يعيش فيها. ورغم قساوة تلك الحادثة إلا أنها مثلت نقطة تحول مهمة في حياته، فقد التحق "كنيث" بأحد البرامج المخصصة لرعاية "معدومي السكن" homeless الذين يواجهون مشكلات بسبب إدمانهم المخدرات والكحوليات، حيث قضى عاما في ولاية "ويست فرجينيا" حاول خلاله التخلص من مشكلة الإدمان والآثار النفسية التي لحقت به بسبب تلك المشكلة. يقول كنيث: "لقد قررت كل يوم منذ تخرجي من برنامج المدمنين معدومي السكن ألا أعود إلى المخدرات والكحوليات مرة أخرى". وتعود فكرة التحاق كنيث ببرنامج مجلس واشنطن لمحو الأمية إلى الطبيب الذي ساعده على التخلص من الإدمان، والذي لاحظ أثناء التحاقه ببرنامج فرجينيا عدم قدرته على القراءة والكتابة، فاقترح عليه الالتحاق ببرنامج مجلس واشنطن. يقول كنيث: "لقد أدركت أخيرا أنني لا أريد أن أموت وأنا مدمن، لا أريد أن أموت وأنا سكير، يجب أن تعطي لنفسك فرصة". وقد أصبح كنيث من المتعاونين مع برنامج مجلس واشنطن، فبالإضافة إلى التحاقه ببرنامج تعلم القراءة والكتابة، حرص كنيث على تكريس وقته للمشاركة في اللقاءات والاجتماعات التي يتم تنظيمها للمدمنين، حيث يقوم بعرض تجربته للاستفادة منها، وكيفية تجاوزه لتلك المرحلة الصعبة.

وقد واجه نيكول وإليزابيث، من المجلس، حالات وقصص كثيرة جدا مثل حالتة كنيث طرقت باب المجلس بحثا عن مساعدة.

ويقدم المجلس خدمته لحوالي 170 شخصا في الدورة الواحدة، ورغم صعوبة تقدير إجمالي عدد خريجي المجلس منذ تأسيسه إلا إن عدد هؤلاء الخريجين خلال الأربعين عاما الأخيرة تجاوز عدة آلاف. ويقدر عدد الساعات التي يحصل عليها الملتحق بالبرنامج نحو 250 ساعة للوصول إلى مستوى يكفي للالتحاق ببرنامج GED التمهيدي GED-preparatory program. وهو ما يتطلب – من وجهة نظر نيكول وإليزابيث- زيادة عدد الساعات الأسبوعية التي يجب أن يقضيها الدارسون لاستكمال عمليات التدريب بشكل أسرع قبل ارتباطهم بأية التزامات أخرى. يقول نيكول: "إن طلاب المجلس يواجهون تحديات عديدة، ويواجهون مشكلات في الإصرار على التعلم، إنهم يواجهون مشكلات الضغوط الاقتصادية، خاصة عندما يقع أحد أفراد أسرتهم في مرض مفاجئ، أو عندما يرزق أحد أبنائهم بطفل جديد يجد صعوبات كبيرة في رعايته، والحاجة إلى أحد الجدين لرعاية الطفل". أيضا يواجه هؤلاء مشكلات البطالة التي قد تضطرهم إلى الانقطاع عن برنامج المجلس. وتقول اليزابيث "إن الأعمال والوظائف التي قد يلتحقون بها لا تتسم بالمرونة الكافية". 

ويقوم التعليم داخل المجلس على نظام "معلم لكل طالب"، بشكل يضمن درجة كبيرة من التفاعل بين الطالب والمعلم، ويضمن أيضا خلق روح الجماعة داخل المجلس وبين الطلاب. وتقول إليزابيث: "عندما يأتي الطالب إلى المجلس لأول مرة يعتقد أنه غبي وأنه الوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة في المدينة وأنه لابد أن يكون متخلفا عقليا، ولكنه عندما يندمج في البرنامج ويتعرف بأشخاص آخرين سرعان ما يدرك أنه ليس الوحيد" الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

ويعتمد المجلس الذي يقوم بتقديم خدماته بالمجان، على فكرة العمل التطوعي، إذ لا يتجاوز عدد العاملين بأجر خمسة أفراد فقط، مقابل وجود نحو 200 متطوع. كما لا يتلقى أية مساعدات أو تمويل رسمي من الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات، حيث يعتمد على الهبات والتبرعات والمنح بشكل رئيسي. وقد اتجه المجلس في الفترة الأخيرة إلى تحصيل رسوم تسجيل رمزية من الملتحقين بالبرنامج ولكنها تظل رمزية من ناحية، وغير إجبارية من ناحية أخرى، غالبا ما يصر الملتحقين أنفسهم على دفعها كمساهمة رمزية.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد 17/كانون الأول  /2006 - 25 /ذي القعدة /1427