الكفاءات العلمية في العراق الجديد بين الموت والهجرة

 

"كانو بانتظاري في وضح النهار وامام الناس اعتقلوني ووضعوني في صندوق السيارة" .. بهذه الكلمات بدأ طبيب الاسنان (أ.ع) برواية قصة اختطافه من قبل جماعة مسلحة مجهولة.

وقال الطبيب "حققوا معي يومين وكأنني في الامن العام (جهاز أمني كان تابعا للنظام السابق) وبعد عدة اتصالات مع جهات مختلفة للتأكد من هويتي فكوا العصابة عن عيني واعتذروا لانهم مشتبهين بي واطلقوا سراحي."

واستدرك قائلا "طبعا الاطلاق لم يكن لوجه الله , كنت في نظرهم كنزا فكيف يتركوني مجانا لقد اخذوا مني تحويشة العمر."

ولم يوضح كم تبلغ تحويشة العمر وهي حصيلة عمله خلال 25 عاما واكتفى بالقول "كانت تكفي لاعيش بها ملكا لمدة خمس سنين خارج العراق .. ولكن رؤية اولادي من جديد والعيش معهم يساوى الدنيا وما فيها."

ولم يستطع طبيب الاسنان تحديد هوية خاطفيه ، وقال "كانوا يتعمدون تشتيت تركيزي فهم تارة كانو يشغلون اغاني الجهاد والمجاهدين وتارة اخرى يشغلون اللطميات (أي تراتيل الشيعة).

وأضاف "لايهمني من هم.. ولا استطيع ان اتكلم في الموضوع لانهم اخبروني اني مراقب .. وامهلوني مدة لتصفية اموري هنا وبيع العيادة والسفر."

ونظر الطبيب نظرة غريبة مليئة بالحزن والالم والشرود وتساءل "اي بلد هذا؟ لم يعد هناك بلد.. لازم نهاجر والعاقل لن يبق هنا فلم يعد هذا بلدا."

وقد يكون حظ (ا.ع) افضل من حال زميله الطبيب (ج.ف) والذي كان يستعد للسفر لكن اختطفه مجهولون قبل يوم واحد من سفره والتحاقه بعائلته خارج العراق كما يقول احد المقربين منه.

وأضاف "اتصل الخاطفين باحد اقرباء الطبيب وطلبوا 50 الف دولار امريكي واخذوها ولكن لم يرجعوه."

وتابع "وبعد فترة من البحث في مراكز الشرطة ومشرحة الطب العدلي عرف احد اقربائه انه مدفون منذ ثلاثة أشهر في مقابر كربلاء على الرغم من أنه مسيحي .. ولكن لعدم وجود هوية معه وبقائه في الطب العدلي فترة طويلة , تم دفنه مع من يدفنون من قبل فاعلي الخير وذهب اقرباؤه واخرجوه ودفنوه في المقابر التابعة للمسيحيين."

وعمليات الاختطاف وطلب الفدية والتي اصبحت رائجة في العراق الجديد لم تقتصر على الاطباء بل تعدتها الى الاساتذة واصحاب الكفاءات العلمية وغيرها من الاختصاصات والتي غالبا ما تنتهي بقتل المختطف بعد استلام الفدية.

واعربت بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) عن قلقها من تصاعد أعمال العنف وتهديدها لحرية التعبير واستهداف الخبراء كالمدرسين واستاذة الجامعات والمحامين والاطباء وغيرهم من المثقفين والمفكرين والصحفيين وتجاوز الامر في بعض الاحيان الى عوائلهم واقاربهم ايضا.

وقالت البعثة في تقرير لها "سجلت وزارة التعليم العالي تقارير عن اغتيال 154 استاذا جامعيا خلال الفترة من آب اغسطس 2003 وحتى آب 2006.. وفي الاشهر الثلاثة الماضية اغتيل أكثر من 15 شخصا من الاكاديميين وموظفي الجامعات."

وأضافت في تقريرها الصادر عن شهري ايلول سبتمبر وتشرين الاول اكتوبر 2006 "شهدت بغداد أعلى معدل لاغتيال الاكاديميين حيث بلغت حوالي 44%من اجمالي حوادث اغتيالات الاكاديميين تلتها الانبار والموصل والبصرة وديالى."

ولا ينتهي بالاختطاف والحصول على الفدية .. بل قد يتجاوز الامر في بعض الاحيان الى قتل من يقوم بعملية التسليم .. كما حصل للمهندس علاء الفلوجي الذي ذهب لتسليم فدية قدرها 60 الف دولار لخاطفي شقيقه لكنه ولسوء حظه عرف الخاطفون انه استاذ جامعي ويحمل شهادة دكتوراه في الهندسة فاخذوه مع مبلغ الفدية.

ويقول قريب لعلاء الفلوجي "تم اطلاق سراح الشقيق بعد ان ضرب ضربا مبرحا , وظل مصير الدكتور علاء مجهولا , وبعد أيام من بحث عائلته تم العثور على جثته ملقاة في احدى المناطق."

وأضاف انه كان يستعد للسفر الى أوروبا في بداية العام القادم لحصوله على الفيزا.

وعمليات الخطف والقتل تعدت وكما تشير يونامي في تقريرها لتشمل العاملين في المجال الاعلامي وبمختلف اختصاصاتهم.

وقالت يونامي انه في غضون شهري ايلول وتشرين الاول اوضحت التقارير مقتل 18 صحفيا وتعرض اعداد غير مسبوقة من الصحفيين للقتل او الاصابة او التهديد.

ووفقا لمنظمات دولية غير حكومية فقد قتل اكثر من 150 من الصحفيين والعاملين في المجال الاعلامي منذ آذار مارس 2003.

لكن عمليات خطف الاعلاميين والادباء تختلف عن سابقاتها في عدم طلب الفدية في معظمها بل يتم قتلهم مباشرة او بعد فترة قصيرة من خطفهم وكما هو حال مراسلة قناة العربية (أطوار بهجت) وغيرها , أو يبقى مصيرهم مجهولا كمصير مراسلي قناة (السومرية) ريم ومروان واللذين اختطفا في الاول من شباط فبراير الماضي.

ومن ينجو من القتل يضطر الى مغادرة البلاد لحماية نفسه وعائلته بينما يتوخى الاخرون اقصى درجات الحذر فيما فيما يقولون أو يكتبون أو فيما يتعلق باماكن تواجدهم.

وتقول يونامي في تقريرها "وصلت الى مكتب حقوق الانسان معلومات عن نزعة للهجرة الجماعية في اوساط ذوي الكفاءات العراقية من مناطق النزاع الى اجزاء أكثر أمنا في العراق مثل اقليم كردستان أو خارج البلاد."

اما اشهر طريقة لتهديد الصحفيين والاعلاميين والتي اصبحت كتعويذة رائجة تكفي ان تصلك لكي تعرف ان الامر ليس مزاحا .. فقد حدثت مع محمد حسن (كاتب وأديب).

وقال محمد حسن "تصورت الكتابة لمواقع الانترنت ستقيني من الهجمات التي يتعرص اليها الاعلاميون والصحفيون, لكون الوكالات التي ارسل اليها عن طريق الانترنت لايعرف العاملون فيها احدهم الاخر."

وأضاف "باشرت بكتابة مقالات متفرقة حول الارهاب والمواطن عراقي, وقلت سوف انشر مئه مقال فقط وبعدها ربما اعود لهوايتي والكتابه حول الادب الفرنسي."

واستطرد "لكن هيهات لا أعرف كيف علموا بامري .. فبعد فتره من نشر عدد من مقالتي وصلني تهديد حسبته مزحة من صديق او جار وكان عبارة عن مظروف يحتوي على قلم مكسور ورصاصه بندقية وقصاصة ورقية مكتوب فيها عليك التوقف عن المساس بتنظيم (...) او حتى الكتابة عن الادب الفرنسي كون الفرنسيون هم كفار وكان بمقدورهم ان يوقفوا احتلال العراق .. ثم ان الادب والشعر حرام في ديننا ويجب عليك ان اردت ان تكتب ان تكون كتاباتك فقط حول الدين."

وأضاف "بعد ثلاثة ايام من استلامي للتهديد وعندما كنت اهم لمقابلة احد الاساتذة حسب موعد مرتب .. لا أعرف من اين انهالت علي رشقات البندقية.. ورجعت للبيت مسرعا ولملمت اغراضي واخذت عائلتي الى بيت أهلي."

وقال "في اليوم التالي ذهب اخي الى بيتي لكنه سرعان ما عاد ليبلغني ان بيتي قد تم حرقه في نفس يوم مغادرتي."

وكان استلام مظروف مشابه كفيل بجعل الصحفية (ك. ع. ز) أن تاخذ عائلتها بعيدا وتقول "استطعت خلال السنوات الثلاثة التي عملت فيها كصحفية من اخفاء هويتي عن اهالي منطقتي وهي من المناطق الساخنة , حيث اقنعهتم اني موظفة في احدى الوزارات وكنت أواظب على جعل موعد خروجي من المنزل صباحا والعودة ملازما لانتهاء الدوام الحكومي."

وتضيف ونظرة الحيرة في عينيها "لا اعرف كيف اكتشفوا امري , وفوجئت ذات صباح بوجود مظروف فيه ثلاث طلقات ..حاول البعض اقناعي ان الامر قد يكون سهوا وعلي التأكد , لكن الحياة ليست لعبة .. حزمت وعائلتي امتعتنا وذهبنا الى بيت خالي والذي اجر لنا مسكنا صغيرا."

أما أحمد والذي يعمل مراسلا لاحدى الاذاعات فيقول "عدت للتو من اربيل .. اخذت عائلتي الى هناك بعد ان تلقيت تهديد واضطررنا الى ترك منزلي وتاجير مكان في اربيل , وبعد أن وضعت زوجتي مولودنا الاول تركتها مع والداي واضطررت للعودة للعمل وتوفير لقمة العيش."

ويتابع "اتخذ الحذر في عملي ولا اتواجد في اماكن تشهد تركيزا اعلاميا وتغطية مركزة كالبرلمان أو المنطقة الخضراء وانام في المكتب."

وامام ما يحدث من عملية منظمة لتفريغ العراق من كفاءته تقف الحكومة العراقية عاجزة عن ايقاف ما تصفه ب "الهجمة المنظمة على اصحاب الكفاءات والقدرات."

ويعتبر الناطق باسم الحكومة العراقية الدكتور على الدباغ ان ما يحدث "ليس تهديدا للحكومة فحسب بل تهديد للبلد وتهديد للعراقيين."

وأضاف الدباغ لوكالة أنباء (أصوات العراق) "هذه العمليات هي لإفراغ البلد من علمائه والكفاءات الموجودة فيه, وبالتأكيد ما يحدث تهديد كبير ، وتهديد كبير للنظام السياسي في البلد.. والحكومة اخذت هذا الامر على محمل الجد."

ويقر الناطق باسم الحكومة بعدم وجود خطة حكومية لحماية الكفاءات وقال "لاتوجد لدى الحكومة خطة لحماية كل طبيب وكل عالم وكل مهندس .. ليس بمقدور الحكومة ان توفر هذا النوع من الحماية لكل الافراد وبالتأكيد لا اعتقد أي بلد يمكنه ذلك ..هذه تأتي ضمن معالجة أمنية عامة للبلد , والمعالجة هي معالجة لكل أمن البلد ولا توجد معالجة محددة."

وفي اطار ما يشهده العراق من تصاعد في وتيرة استهداف العلماء واصحاب الكفاءات وعدم وجود خطط حكومية لحمايتهم لا يبقى امام الكفاءات الا انتظار مصيرها المجهول او حزم حقائبها للحاق بركب من سبقهم الى خارج العراق والذي اصبح بمثابة مقبرة لهم.

شبكة النبأ المعلوماتية-الجمعة  1  /كانون الأول  /2006 - 9 /ذي القعدة /1427