بغداد تودع النور والسلام ..وتحتضن الخوف والموت

 كل من يزور بغداد هذه الايام ، سواء كان قادما من خارج العراق او من محافظاته الاخرى ، سيفاجأ بان عاصمة الرشيد لم تعد مدينة النور والسلام التي تغنى بجمالها الشعراء والمطربون،بل سيجد مدينة حزينة تتشح بالسواد ..وإذا لم يكن حظر التجوال مطبقا وسمحت ظروفه بالتنقل بين شوارعها سيشم رائحة الموت والخوف في كل مكان بسبب الاوضاع الامنية المتدهورة.

بغداد ..مدينة النور وعاصمة بلاد ما بين النهرين.. بغداد مدينة السلام المدورة التي عرفت عبر العصور بسلامها وامنها وبأنها مركز إشعاع الفكر والحضارة والرقي والعلم والادب.. بغداد التي تغزل الشعراء بها وبنهر دجلة الخالد الذي يغفو على ضفتي الكرخ والرصافة .. اصبحت اليوم ميدانا للحرب والقتل والدمار ,ولا يمر يوم دون أن تصدم مسامع وأنظار العالم بأسره مشاهد الموت والدم والدمار التي تئن منها شوارع حاضرة الرشيد وأهلها.

في شوارع بغداد ، لن ترى عينا أي زائر حاليا سوى لافتات التعازي التي تملأ جدران المباني المطلة على الشوارع العامة ، وجدران المساجد واسيجة الدوائر الحكومية ومراكز الشرطة والساحات العامة ..إزدياد وكثرة هذه اللافتات يدل على ان اهالي بغداد يعيشون الموت والخوف من الموت في كل لحظة.

الاستاذ موسى زناد ، وهو باحث وناقد ادبي عراقي , يقول " بغداد هى جسر الحاضر مابين ماض تليد وغد رغيد , وهي مشعل الفكر والثقافة وكانت عروس الحياة الحفيلة بالتاريخ المعبق بالاصالة , تغتسل بفضاءات المودة, والاشعة المفضضة , وكانت تفتح ذراعيها للحياة, وكانت حديقة الدنيا وازاهير الخمائل , ومكتبة الزمان , علما ومذاخر , وكانت رئة الادباء والشعراء , في سمائها يتيه الشعر القا ويزدهي بهاء."

ويضيف ان " بغداد اليوم ، للاسف ، غدت يتيمة العواصم وشمطاء المدن , تعفنت حدائقها وصارت قبورا للرمم , وتحجرت لهوات شعرائها على دم متخثر, صارت مناحة انين ومرثاة مواطن , ومحزنة الاصلاء , لكن رمقا يبقى وجدانها , يظل عرق حي , وتبقى بغداد عنقاء الزمان , تنهض من بين الاحن المبكيات , والمحن الجارحات , صبية متألقة , وحياة."

ومن جانبه ، يقول الشاعر العرقي خالد الخزرجي " كانت بغداد معنى من معاني ذلك العز والمجد والسؤدد تزخر بالفقهاء والعلماء والشعراء ,و تمرع فيها حدائق الشعر والسمر حيث يتنافس الشعراء والمبدعون كل على طريقته الخاصة , بنظم قصائدهم فيها."

ويضيف " كانت حقا رمزا لشموخ ونقاء الشرف , على غير مانراه اليوم حيث اصبح الادب رخيصا مما يخلق سأما وضجرا عند الادباء مما يدعوهم لهجرة مجالس الادب والادباء", متمنيا ان "تعود بغداد لوجهها الجميل قريبا."

ويقول المواطن حامد جبر العلاق (63 عاما) ،وهو موظف متقاعد من محافظة البصرة الجنوبية جاء لزيارة اقاربه في بغداد ، "حين كنا شبابا ، كنا نتباهى باننا زرنا بغداد وتجولنا بشوارعها ، لان بغداد فيها مرافق سياحية وجسور وانفاق ومبان عالية واسواق شهيرة , وكنا ننظر للبغداديين على انهم سبقونا بالتمدن والتحضر والرقي , ونعود لاهلنا لنتحدث عن قصص رأيناها في بغداد تبدو لهم عجيبة مثل عمارة الدفتردار وعمارة الدامرجي ونصب الحرية وساحة الكهرمانة وشارع الرشيد وشارع النهر.. وغيرها من الشواهق ونتحدث عن سحرها وجمالها , وكان اصدقاؤنا الذين لم يزوروا بغداد يحسدوننا لاننا شاهدنا بغداد واستمتعنا برحلتنا فيها."

أما اليوم ، والحديث لا يزال للعلاق "فنرى بغداد مهمومة حزينة باكية متوشحة بالسواد والحزن العميق ونشعر بخوف ورهبة حينما نمشي بشوارعها خشية أن يصادفنا لغم او قنبلة او سيارة تنفجر امامنا ،او أن نقتل جراء مواجهات مسلحة او على الهوية."

كان العلاق يتحدث وقد اغرورقت عيناه ثم فاضت بالدموع.

ويقول الحاج خالد ابو وليد (57 عاما) ،وهو موظف متقاعد من اهالي حي الدورة جنوب بغداد "ما يمر يوم الا وترى مجالس عزاء في المساجد وجميعها جراء قتل او تفجير , وهذا حالنا منذ سنتين او اكثر."

ويضيف بتشاؤم واضح "انا شخصيا اعتقد ان اليوم افضل من الغد وان امس افضل من اليوم ،وأن القادم اسوأ لان الوضع الامني في بغداد يزداد سوءا ومناظر الدم لاتفارق عيوننا وهي تدمي قلوبنا."

ويتابع ان "العراق شهد مآسى كثيرة خلال العقود القليلة الماضية ، منها حروب مستمرة وحصار اقتصادي ظالم ، إلا اننا لم نعان من قبل كما نعاني الآن من الم وحسرة وخوف وهلع , ونتألم كثيرا عندما نسمع انفجارا وقع في مدينة الصدر او الكاظمية او الاعظمية او اي من مدن العراق يروح ضحيته العشرات من الابرياء."

ويستطرد حزينا "لي ولدان وبنت يحملون شهادات البكالوريوس وانا وامهم بعنا جزءا كبيرا من اثاثنا وحاجاتنا الثمينة لنسفرهم الى احد البلدان العربية حفاظا على سلامتهم وارواحهم رغم انهم يعانون من الغربة ويتمنون العودة الى بغداد حيث اهلهم واصدقاؤهم."

في احد مقاهي حي بغداد الجديدة الشعبي ، يجلس رجل مسن وهو يرتدي الزي العربي(العقال والكوفية) يتحدث الى مجموعة من الشبان عن بغداد ايام زمان وعن حياة البغداديين الاجتماعية وتقاليدهم وطبائعهم،بينما الشبان يستمعون اليه بشغف ولسان حالهم يقول "ليتنا عشنا تلك الايام الجميلة."

يقول الرجل المسن ،وإسمه "ابو جمال " إنه كان موظفا في وزارة التخطيط وكثيرا ما كان يغادر العراق في بعثات حكومية ،ورغم أنه كان يتحرق شوقا لرؤية بلدان عربية واخرى اجنبية ، لكنه ما ان يصل الى احد تلك البلدان حتى يكويه الشوق ويتلهف للعودة الى بغداد.

سأله احد الشبان " ولماذا لم تبق خارج العراق ولا تعود لترى هذه المأساة الآن؟!"..فيجيبه بثقة " لا يا ولدي ..منذ ان كنا صغارا في المدارس كانوا يعلموننا حب الوطن والولاء له مهما عصفت به الرياح ، لذلك انا احب بلدي واحب بغداد واعيش واموت فيها ولن اموت غريبا في ارض موحشة."

ويواصل الحاج ابو جمال حديثه للشبان قائلا " يا اولادي ..إن التاريخ لم يسجل يوما ان اهل بغداد اقتتلوا فيما بينهم لانهم طيبون ولم يسأل الجار جاره يوما عن انتمائه المذهبي او العرقي, والجيران كانوا سندا لجيرانهم في السراء والضراء , واهل بغداد هم اهل خير وبركة واهل كرم وجود."

مدينة الصدر في شرق بغداد ، هي الاخرى لها نصيب كبير من مجالس العزاء بسبب التفجيرات المستمرة واعمال القتل التي تتعرض لها , وتمتليء مداخل المدينة بلوحات الوفيات ولافتات التعازي ,واغلبها يشير الى ان الوفاة كانت بسبب تفجير او قتل.

يقول جعفر الشويلي (37 عاما) من اهالي المدينة , "لا يمر يوم دون ان نسمع عن تشييع لشرطي قتل او مجلس عزاء لرجل قتل في مكان ما من بغداد بسبب انفجار او قتل , وهذه الاحداث تدمي القلوب , وكلما توقعنا توقفها كلما ازدادت هذه الحوادث."

ويضيف ان "اهالي المدينة يعملون في دوائر الدولة وفي الشرطة والجيش وفي القطاع الخاص والقطاع العام لذلك هم عادة ما يتعرضون الى اعمال قتل في طريقهم الى عملهم.

ولا تختلف الاحوال في الاحياء الاخرى كثيرا عنها في مدينة الصدر ..إنه حال عاصمة الرشيد التي ودعت الفرح والبهجة لترتدي السواد وتحتضن الحزن باكية أياما جميلة مضت لعلها تعود ، فيعود العراق الى العراق.  

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت  25  /تشرين الثاني  /2006 - 3 /ذي القعدة /1427