الفشل الاميركي المتواصل هل يكشف عن معالم انهيار نظام القطب الواحد؟

كتب: علي النواب

 

بعد القضاء على نظام طاليبان في افغانستان وانتشار القوات الأميركية في دول آسيا الصغرى، كتب المؤرخ بول كينيدي مقالة حذر فيها إدارة جورج بوش من مخاطر تمدد الجيش وعواقب تدخله في الخارج.

وقال ما خلاصته ان التحليل المنطقي الذي فسر اسباب انهيار الامبراطوريتين الرومانية والعثمانية، يؤكد ان ابتعاد جيوشهما عن النقطة المركزية للحكم ساعد على فصل الأطراف النائية وعزلها عن مراقبة الدولة وهيمنة نفوذها. واعتبر المؤرخ كينيدي ان الأعباء المالية المترتبة على التزامات الانتشار البعيد سرعت عمليات الانهيار والتآكل لدى الامبراطوريتين. لهذه الأسباب وسواها تمنى على الرئيس بوش سحب القوات الأميركية من عشرين قاعدة عسكرية موزعة على مناطق التوتر، بدءاً من افغانستان... مروراً بأوزبكستان... وانتهاء بكوريا الشمالية واليابان.

هذا الشهر ذكرت الصحف الأميركية الرئيس بوش بالتحذير الذي وجهه اليه المؤرخ بول كينيدي معتبرة ان الانهيار الذي أصاب «الامبراطورية الاميركية» يمثل ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ. والسبب حسب اجماع المحللين، ان الولايات المتحدة لم تجلس فوق العرش الامبراطوري قبل سنة 1990، اي موعد تفكك الدولة العظمى الثانية، الاتحاد السوفياتي. وهذا يعني ان واشنطن لم تستمتع بعظمة التفرد في قيادة العالم إلا خلال فترة زمنية قصيرة جداً لا تتعدى خمس عشرة سنة، علماً بأنها كانت تطمح دائماً الى ممارسة هذا الدور. والدليل على ذلك، ان تصميم مبنى الكابيتول في واشنطن مستنسخ عن مبنى الكابيتول في روما، كما ان مؤسسي الولايات المتحدة من أمثال جورج واشنطن وتوماس جفرسون وابراهام لينكولن، صُنعت تماثيلهم على اشكال أباطرة روما، أي بلباس «الروب» (القفطان) كتقليد لنماذج تاريخية يريدون احياء عظمتها. ويقول الرئيس الفرنسي جاك شيراك انه لاحظ سلوك العجرفة الامبراطورية أثناء الاجتماع الذي عقده الرئيس بيل كلينتون مع زعماء دول الحلف الأطلسي لبحث أزمة كوسوفو. ويبدو انه تحدث اليهم بلهجة فوقية فيها الكثير من التشاوف والاستعلاء. وخرج شيراك من الاجتماع ليعلن ان التداول جرى بين القيصر ماركوس اوريليوس وحكام مناطق تابعة «لروما».

يوم الاربعاء الماضي تبدلت هذه الصورة أمام عيون الصحافيين الذين حضروا المؤتمر الذي عقده الرئيس جورج بوش في البيت الابيض. كانت أجوبته تفتقر الى صراحة الأداء، والى لهجة الحزم والحسم اللتين ميزتا مواقفه السابقة. وخرج الاعلاميون بانطباعات مختلفة مفادها ان الرئيس بوش بدأ يتخلى عن مسؤولية التبعات التي تعهد بتحملها عقب أحداث 11 ايلول (سبتمبر)، اي مسؤولية تحرير الشعوب من الديكتاتوريين (صدام حسين) ومن الأنظمة الارهابية المتخلفة (طالبان) مع وعد بمنع الدول الشريرة المارقة (مثل ايران وكوريا الشمالية) من تصنيع القنبلة النووية.

يجمع المراقبون على القول إن ادارة جورج بوش اخطأت في حساباتها يوم أفرطت في تقدير قوتها العسكرية، وتوقعت ان تتغلغل قيمها في تربة ثقافية ودينية مناهضة لقيمها ومعادية لسياستها. والملفت ان الفشل الاميركي المتواصل في افغانستان والعراق، لم يدفع نائب الرئيس ديك تشيني أو وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الى مراجعة أخطاء الممارسات واستخراج العبر من التدخل السياسي والعسكري. وبسبب اصرارهما على تصوير الانتكاسات بأنها انتصارات، فقد نتج عن هذه الأوهام تورط اميركي استفاد منه خصوم واشنطن لاعادة ترتيب خريطة الشرق الأوسط وفق معايير تتفق مع أهداف ايران وحلفائها. وهكذا نجحت طهران في رعاية الحركات المعادية لأميركا بحيث جمعت صفوفها داخل تحالف واسع يمتد من موريتانيا حتى باكستان. وبسبب الانتصارات التي حققتها هذه الحركات، ان كان في لبنان بواسطة «حزب الله» أو في فلسطين بواسطة «حماس»، فإن حدود ايران امتدت حتى بلغت شواطئ البحر المتوسط. وهذا ما أكده السفير الروسي لدى لبنان سيرغي بوكين، الذي أعلن هذا الاسبوع، ان ايران أصبحت تطل على البحر المتوسط بعدما انحصرت اطلالتها البحرية لسنوات طويلة داخل الخليج فقط.

لقد وقف بنا التاريخ في عام 1991 ليطوي صفحة (القطبية الثنائية) ويفتح صفحة جديدة، القطب الأميركي الأوحد، لتبدأ هيمنة أميركا وسيطرتها على النظام العالمي برمته، على رغم ذلك فان هذه القوة تستطيع الصمود أمام التحولات التي بدأت آفاقها تلوح في عالمنا الجديد، على مستوى القارات، فظاهرة التحول ملموسة في كل مكان في العالم ومن داخل أميركا نفسها، تتمثل في الاعتداءات على الحريات في بلد يدعي حماية الحريات.

الإدارة الأميركية في بلد معقل الديموقراطية وحامية حقوق الإنسان كما تدعي، زجت بالمئات في المعتقلات من دون محاكمة، فضلاً عن التنصت والتجسس من دون الاعتماد على نص في القانون او الدستور الأميركي، تلك الاجراءات استفزت مشاعر المواطن الاميركي حيث أدت الى المساس بخصوصية حياته الى حد تفتيش البيوت في غياب أصحابها من دون إذن قضائي وفقاً لقانون أصدره الرئيس بوش عام 2002 بحجة مواجهة الإرهاب.

وفي 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2006 ألحق بوش قانونه السابق بقانون جديد وقعه في احتفال كبير في البيت الأبيض حضره كبار المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم نائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وقال ان وكالة الاستخبارات ستحتفظ بحق اعتقال او احتجاز معتقلين في الخارج تطبيقاً لبرنامج «السجون السرية».

وهذا القانون على رغم حظره التعذيب والمعاملة الوحشية وهو مفهوم قانوني مطاط يعد وصمة عار في تاريخ الدستور والقانون الأميركي وضربة موجعة للحريات وحقوق الإنسان واتفاق جنيف، ففيه خروج فاضح على قوانين وإجراءات المحاكمات المتبعة في الولايات المتحدة، ولقي انتقادات شديدة حتى من داخل أميركا نفسها، لكونه يعطي الحق للمحاكم العسكرية باستجواب من ترغب في استجوابه ويمثل كبحاً واعتداء متعمداً على كل الحريات التي كفلها الدستور والقوانين الأميركية.

ان ملامح تحولات التاريخ الجديد تبدو واضحة في خريطة العالم في أكثر من نقطة ساخنة مشتعلة بنيران الحروب منها الوضع الملتهب في العراق الذي تحول الى كابوس يزلزل الاحتلال الأميركي حتى انه صار يبحث عن وسيلة للهرب، من دون إراقة ماء الوجه، كما حدث في فيتنام، فلا يكاد يمر يوم من دون نزيف بشري ومادي يقض مضاجع البنتاغون.

ان التقارير تقول ان الذين لقوا حتفهم من العراقيين بلغ 665 الفاً منذ احتلال العراق، وهو رقم مخيف يؤكد فظاعة الحرب على هذا البلد، وعلى رغم ان الرئيس الأميركي شكك في هذا الرقم الا ان حجم الكارثة التي حلت بالعراق على يد القوات الاميركية والبريطانية كبير جداً بكل المقاييس.

وهذا ما جعل قائد القوات البريطانية الموجودة في  جنوب العراق يخرج عن صمته، ويعلن ان على القوات البريطانية مغادرة العراق في اقرب وقت، تجنباً لتعرضها لكارثة محققة. وانضم قائد القوات البريطانية في أفغانستان الى قائد الجيش في انتقاده لرئيس الحكومة توني بلير، وزاد الطين بلة نشر صحيفة «ذي غارديان» الأسبوع الماضي استطلاعاً للرأي اظهر ان 61 في المئة من الشعب البريطاني يؤيد سحب القوات البريطانية في أسرع وقت حتى وان لم تتمكن من إكمال مهمتها، ولم يؤيد بلير سوى 31 في المئة. هذا يبرز حجم المأساة التي تواجه بوش وبلير في العراق وأفغانستان .

وليس هذا فحسب فان  هذه القوات أصبحت في نفق مظلم، بعد أن أعلنت فشلها في جلب الأمن والاستقرار، وجلبت بدلاً منه الضياع وإشعال نيران النعرات والانقسام العرقي والمذهبي، وأعلنت الحرب الأهلية عن نفسها.

اليوم.. تواجه أميركا وحلفاؤها مأزقا داخل العراق فأميركا غير قادرة على الخروج وبوش، على رغم تسميته ما يجري في العراق بالوضع المأسوي، أعلن جهاراً انه لن يغادره حتى تستقر الأمور! وانه وضع مع قادة الجيش استراتيجية للسيطرة على الوضع خلال 18 شهراً. والحلفاء تنقصهم الشجاعة لطلب إنهاء الاحتلال.

إنها بداية النهاية لمرحلة القطب الواحد وسيطرته بقوته على العالم، فالتحولات السريعة التي نراها تبشر بعالم جديد وحلقة تاريخية حضارية وثقافية مختلفة، ان ادوات أدوات التغيير وقوى الانفلات من قبضة القطب الأوحد متوفره، فكل ما يوحدنا يعتبر أداة لهذا التغيير. وما يوحدنا كثير، منه الدين واللغة والجغرافيا والتاريخ المشترك، فجميع وشائج التغيير موجودة، لكنها تختلط وتتشابك وتتمزق. ويوم نترك التشتت والتمزق والفرقة نصبح رقماً لا يمكن تجاوزه، يملك القدرة على التمرد على سيطرة القطب الواحد . 

شبكة النبأ المعلوماتية--الاحد 29/تشرين الاول  /2006 -6/شوال /1427