بعد نحو 30 عاما من صدوره لايزال كتاب (الاستشراق) للمفكر الفلسطيني
البارز ادوارد سعيد مثيرا للتأمل بقدرته على استشراف قضايا متجددة حول
ثنائية الشرق-الغرب منذ قال ان الشرق عدو مفترض أو أسطورة خلقها خيال
الغرب.
وفي الذكرى الثالثة لرحيل سعيد الذي ولد في القدس صدرت ترجمة "مصرية"
لكتاب (الاستشراق) لاستاذ الادب الانجليزي بجامعة القاهرة محمد عناني
الذي وضع للكتاب عنوانا فرعيا هو (المفاهيم الغربية للشرق) خلافا
للعنوان الفرعي للكتاب منذ ترجمه السوري كمال أبو ديب قبل 25 عاما وهو
(المعرفة. السلطة. الانشاء).
وصدرت الطبعة الجديدة عن دار رؤية بالقاهرة وتقع في 560 صفحة كبيرة
القطع وهي مزيدة عن الترجمة "السورية" بفصل ختامي عنوانه (تذييل طبعة
1995) أشار فيه سعيد الى أن (الاستشراق) هو الكتاب الوحيد الذي كتبه
دفعة واحدة واكتمل عام 1977 كما سجل الاهتمام بالكتاب بعد صدوره في
الولايات المتحدة وبريطانيا "وكان بعضه كما هو متوقع بالغ العداء وبعضه
لا يدل على الفهم ولكن معظمه كان ايجابيا بل ويبدي الحماس للكتاب" الذي
توالت ترجماته وأثار خلافات ومناقشات بعضها بلغات لا يعرفها مؤلفه.
ويرى سعيد (1935 - 2003) أن الشرق شبه اختراع أوروبي وأن الاستشراق ليس
مجرد خيال أوروبي متوهم عن الشرق "بل انه كيان له وجوده النظري والعملي
وقد أنشأه من أنشأه واستثمرت فيه استثمارات مادية كبيرة على مر أجيال
عديدة وقد أدى استمرار الاستثمار الى أن أصبح الاستشراق باعتباره مذهبا
معرفيا عن الشرق شبكة مقبولة تسمح منافذها بتسريب صورة الشرق الى وعي
الغربيين... الامبريالية السياسية تحكم مجالا كاملا من الدراسات
والابداع والمؤسسات البحثية."
ويرصد بعض نجوم الفكر والادب الاوروبيين الذين "كانت لهم اراؤهم
المحددة بشأن الامتياز العنصري والامبريالية ومن اليسير ادراك تأثيرهما
في كتاباتهم" ومنهم المؤرخ توماس كارلايل (1795 - 1881) والفيلسوف جون
ستيورات مل (1806 - 1873) والشاعر ماثيو أرنولد (1822 - 1888)
والروائيون جوستاف فلوبير (1821 - 1880) وتشارلز ديكنز (1812 - 1870)
وجورج اليوت (1819 - 1880).
ويتساءل.. كيف شارك فقه اللغة ووضع المعاجم والتاريخ والبيولوجيا
والنظرية السياسية والاقتصادية وكتابة الروايات والشعر الغنائي في خدمة
رؤية الاستشراق للعالم وهي الرؤية التي تعتبر امبريالية بصفة عامة.
ويضيف أن الثقافة الاوروبية تمكنت من ابتداع الشرق عبر مفاهيم
الاستشراق الذي اعتمد على التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب
حيث "زادت الثقافة الاوروبية من قوتها ودعمت هويتها من خلال وضعها
لذاتها مقابل الشرق باعتباره ذاتا بديلة...الاستشراق برمته يقع خارج
الشرق وبعيدا عنه."
ويرى سعيد أن تاريخ الاستشراق أدى الى التعصب الشائع في الغرب ضد العرب
والاسلام مضيفا أنه "مما يزيد الامر سوءا عدم اقدام أي شخص له اهتمامات
أكاديمية بالشرق الادنى أي عدم اقدام أي مستشرق قط في الولايات المتحدة
على التعاطف الكامل والصادق ثقافيا وسياسيا مع العرب. ولا شك أن بعض
حالات التعاطف قد وجدت على مستوى من المستويات لكن أيا منها لم يتخذ في
يوم من الايام الصورة المقبولة التي يتخذها التعاطف الامريكي الليبرالي
مع الصهيونية.
"العداء للسامية يشبه الاستشراق أو قل ان الاستشراق هو الفرع الاسلامي
للعداء للسامية."
ويقول سعيد في الفصل "الجديد" من الطبعة المصرية ان هناك تفسيرات خاطئة
للكتاب رأت أنه يدافع عن الاسلام والعرب ويعادي الغرب بصورة مستترة في
حين كان يهدف الى تخطي الهوة بين الشرق والغرب من خلال اثارة قضية
التعددية الثقافية في كتاب يحفل بظلال المعاني ومن يراه مجرد رد على
الغرب يسيء اليه بهذا الوصف المبسط.
كما يقدم مراجعة لردود الافعال حول الكتاب وللسياق التاريخي الذي اختلف
بعد أكثر من 15 عاما على صدوره حيث تفكك الاتحاد السوفيتي وتدافع
باحثون أمريكيون "الى اعتبار أن الاسلام الذي أضفوا عليه صبغة الشرق
يمثل امبراطورية شر جديدة" مفسرا بذلك الصور النمطية التي تصف الشرق
بالكسل والقسوة والانحطاط والنزعة الحسية كما "تحط من المسلمين فتربط
بينهم وبين الارهاب."
وينفي أن يكون الاستشراق مؤامرة ويشدد على كونه ظاهرة ثقافية وسياسية
وأنه في بعض جوانبه كان متواطئا مع المصالح الاستعمارية ومن الصعب "فصل
مصالح المستشرق من طرف واحد عن السياق الامبريالي العام الذي بدأ
مرحلته العالمية الحديثة بغزو نابليون لمصر في 1898" مشيرا الى ما وصفه
بالرصانة المتعمدة لكتاب (وصف مصر) الذي أمر نابليون بوضعه حيث تشهد
مجلداته "بالجهود المنهجية لفيلق كامل من العلماء الفرنسيين الذين
يساندهم جيش حديث يقوم بالغزو الاستعماري."
وسبق أن أشار سعيد في كتب أخرى مثل (تغطية الاسلام) عام 1981 الى
التعاون بين الاستعمار والمستشرقين لدرجة يندر معها وجود خبير من خبراء
الاسلام لم يكن مستشارا لحكومة بلاده مستشهدا بالمستشرق الهولندي سنوك
هوخرونيه الذي "استغل الثقة التي أولاه المسلمون اياها في تخطيط وتنفيذ
الحرب الهولندية الوحشية ضد أبناء شعب أتشيه المقيمين في سومطرة."
وفي مراجعته لردود الفعل على كتاب (الاستشراق) يعيد سعيد التذكير بهذه
العلاقة.
ويقول "أؤكد أن رابطة المستشرقين لها تاريخ محدد في التواطؤ مع السلطة
الامبريالية. ومن العبث أن ننكر الصلة بينهما."
ويضرب المثل بالمستشرق الامريكي برنارد لويس الذي هاجم كتاب
(الاستشراق) ومؤلفه. ويقول سعيد ان لويس "يمضي في تشويه الحقيقة وأن
أفكاره شائعة للاسف بين صغار مساعديه ومقلديه وهم الذين تنحصر مهمتهم
فيما يبدو في تنبيه المستهلكين الغربيين الى الخطر الذي يتهددهم
والنابع من عالم اسلامي ساخط خلقه الله غير ديمقراطي وميالا للعنف."
ويرى أن الاهتمام الاوروبي بالاسلام "لم ينشأ من حب الاستطلاع بل من
الخوف من منافس للمسيحية يتميز بوحدته وصلابته وبقوته الجبارة ثقافيا
وعسكريا" مضيفا أن رواسب من القرون الوسطى لاتزال تمثل مزيجا من الخوف
والعداء في الاهتمام العلمي أو غير العلمي بالاسلام.
وأصدر سعيد كتابه الاول (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) عام 1966
عن الروائي البريطاني كونراد (1857 - 1924) ولكن شهرته طغت منذ كتاب
(الاستشراق) الذي كان دالا على مؤلفه رغم توالي كتبه الاخرى ومنها
(العالم والنص والناقد) و(ما بعد السماء الاخيرة.. حيوات فلسطينية)
و(لوم الضحايا) بالاشتراك مع الكاتب البريطاني كريستوفر هيتشنز
و(الثقافة والامبريالية) و(سياسة السلب.. الكفاح من أجل حق تقرير
المصير الفلسطيني) و(خارج المكان) وهو سيرة ذاتية لسعيد.
وفي كتاب (الاستشراق) يلفت سعيد الانتباه الى أن كتابه (مسألة فلسطين)
الذي صدر عام 1980 ترجم الى العبرية وصدر عن دار نشر اسرائيلية في
أوائل الثمانينيات لكنه لم يترجم الى العربية مضيفا أن ناشرا عربيا
أبدى اهتماما بالكتاب لكنه طلب منه أن يحذف أجزاء تتضمن نقدا صريحا
لاحد الانظمة العربية ومن بينها منظمة التحرير الفلسطينية "غير أنني
كنت دائما أرفض هذا الطلب."
وكان سعيد قد استجاب لدعوة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وانضم
سعيد الى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني في نهاية الثمانينيات دون
انتماء لاي من الفصائل الفلسطينية الا أنه عارض اتفاق أوسلو بين عرفات
ورئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق رابين. وأصدر عام 1994 كتاب
(غزة-أريحا.. سلام أمريكي) وفي العام التالي أصدر كتاب (أوسلو ر2. سلام
بلا أرض).
وقال عناني مترجم "الطبعة المصرية" انه يؤمن بأن المترجم "مفسر" يحول
الفكرة الى لغة العصر وان من حق القاريء العربي أن يطلع على اخر صور
كتاب (الاستشراق) لسعيد الذي اعتبره عبقريا يختلف في فهم نصوصه
المترجمون حيث ان له أسلوبا خاصا "أصبح علما عليه ولا يكاد يشاركه أحد
فيه خصوصا أنه باحث أدبي في المقام الاول" مشيرا الى شكوى قراء العربية
والانجليزية من صعوبة نصوص سعيد ومنها هذا "النص العسير. ما دفعني اليه
الا احساسي بحق القاريء العربي وحق ادوارد سعيد في أن يقرأ كتابه بيسر
وسهولة."
وأضاف في تصدير بلغ 25 صفحة أن سعيد من القلائل "ان لم يكن الكاتب
الوحيد الذي خاطب الغرب بلغته ومنهجه العلمي الحديث فكشف الغطاء عما
يتخفى بقناع الثقافة والدراسة العلمية من مواقف سياسية لا ترمي الا الى
تحقيق مطامع أو مصالح مادية صرفة."
ومن الامور التي نبه اليها سعيد مبكرا أن خبراء الشرق الاوسط لايزالون
يشغلون المواقع التي كان الاستشراق يشغلها في القرن التاسع عشر ذروة
المد الاستعماري وأن الايديولوجيا السالبة لانسانية الانسان وشبكة
العنصرية "هي الشبكة التي تحيط بالعربي أو بالمسلم. شبكة بالغة القوة
وهذه هي الشبكة التي يشعر الان كل فلسطيني أنها أصبحت مصيره الذي يمثل
له عقابا فريدا." |