لم يبتعد كثيراً عن طريق الصواب من قد عرّف السياسة بأنها فن
الممكن, والتي تعني من بين أهم ماتعنيه الأنفتاح على كافة الأمكانيات
المتنوعة وأستشراف الأحتمالات المختلفة وأنتزاع نصاب المساحات الواسعة
لحدث ما من اجل الأستبصار والتنبؤ بما سوف يحدث وما سوف تؤول اليه
الأمور والوقائع ومجرياتها منعاً للوقوع في فريسة الدهشة السلبية وقبضة
المفاجأة التي تُربك الصورة وتُلغز الرؤية وتعمي البصيرة.
فالسياسة_ كفعل موجه نحو تحقيق أهداف معينة وغايات ما_ تميل للأبحار
في فضاء أمكاني رحب( أن صح هذا التعبير الفلسفي) أكثر من أبحارها في
عوالم الضرورة التي لا تسمح لمدى واسع من الأمكانيات والخيارات.وهي لها
اكثر من وجه أو ستراتيجية واحدة فقد ترتدي اليوم _ وفقاً لظروف ما_
قناع معين يمكن أن تكون قدر رفضته بالأمس القريب وقد ترفض اليوم قناعاً
كانت أول أمسها تتلحف به وتدعو له بحماسة مشبوبة_أحياناً_ بالتعصب.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي جورج بوش لايفهم هذا التعريف ولا ما
ينبثق عنه من نتائج وما يتمخض منه من أشارات, بل ربما لم يقرائه ولم
يسمع به أصلاً, أن كان لديه الوقت الكافي لكي يُمتع ناظريه بسطور
ومحتويات الكتب السياسية وغيرها,كما يفعل (بعض) حكّامنا العرب الذي
يمتلك أدنى شخص منهم اربعة أو خمس شهادات دكتوراه_ فخرية طبعاً_ في
السياسة والفلسفة والاقتصاد والسوسيولوجا من أشهر جامعات الوطن العربي
الكبير .
ولأن جورج بوش لم يقرأ _بالمعنى المعاصر وربما التقليدي للكلمة_
تعريف السياسة بانها فن الممكن, لهذا لم يعرف_ وأخشى أنه لن يعرف_ كيف
يتعامل مع حسن نصر الله وقضيته التي ينادي به ويطمح لتحقيقها .وقد تجسد
ذلك الجهل في الحاق بوش الأخير مع حزبه بقوائم أمريكا السوداء
وتصنيفاتها المعروفة للتنظيمات التي دخلت في نزاع وصراع معها كأسامة بن
لادن الذي يُعد المطلوب الأول لامريكا بالرغم من أنتهاء دورة الميداني
في الحرب مع أمريكا وأنتقاله الى الجانب الروحي الألهامي في هذه
المعركة التي يخوضها ضد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب منذ عدة
سنوات.
فبوش قد أعتبر حسن نصر الله وأبن لادن وجهان لعملة واحدة وبالتالي
مساواة حزب الله مع تنظيم القاعدة,مع العلم أن الأول لم يستهدف أمريكا
في كل الحروب التي خاضها في حين أن الثاني يؤكد في أدبياته أعتبار كل
مواطن أمريكي _سواء كان مدني أو عسكري_ هدفاً وصيداً له كما ظهر ذلك
جلياً في أرض الواقع ومن خلال أشواط الحرب مع أمريكا التي وصلت ذروتها
في أعتداءات 11 سبتمر الدامية التي راح ضحيتها حوالي 3000 أمريكي
والتي أعلن التنظيم انه قد قام بها مع التذكير أن الأمر من وجهة نظري
لم يؤكد يقينياً من مصدر محايد بشكل كامل وتام وتبقى الشكوك تحوم حوله
حتى تظهر الحقيقة وتُسفر عن وجهها .
أنا في الواقع لا أعرف_ وليتني أعرف_ هل يُدرك الرئيس الامريكي جورج
بوش في طيّات أعماقه الفرق بين نصر الله وأسامة بن لادن من كل النواحي
وكافة الجوانب النظرية و التطبيقة, وهل فعلاً أنه مقتنع تماماً
أقتناعاً عقلياً وعاطفياً أن نموذج نصر الله هو استنساخ لنموذج بن
لادن؟ بحيث يمكن أن يُشكل خطراً على الأمة والبلاد الأمريكية كما يشير
دائماً في خطاباته للشعب الامريكي وفي معرض حديثه عن أسامة بن لادن
وتنظيم القاعدة.
والأمر الذي يدعو الى الاستغراب والتعجب الشديد يتركز في أن جورج
بوش_ وبعد خمسة سنوات من درس أعتداءات 11 سبتمر_ يمارس بأمتياز سذاجة
سياسة قائمة على منهجية المقارنة التماثلية بين حزب الله بأمينه العام
نصر الله وتنظيم القاعدة بأميره بن لادن. ووجه الغرابة التي أستشعرتها
في هذه المنهجية المقارنة قائم على نقطة محورية تكمن في أن بوش وأمريكا
لم تستطع القضاء على أبن لادن وتنظيم القاعدة وخطرهم لايزال موجود بحيث
يمكن له وفقاً لقوانين الاحتمال _ولو بنسبة ضئيلة_ تكرار ضرب أمريكا
في عقر دارها فضلاً عن القوات الامريكية المتواجدة في العراق
وافغانستان والتي تقع كل يوم تحت مطرقة تنظيم القاعدة.
ولما كان الأمر على هذا النحو وكانت أمريكا غير قادرة على أستئصال
شأفة تنظيم القاعدة فكيف تسوغ لنفسها وتبرر لشعبها فتح جبهات قتالية
متعددة وخلق أعداء جدد وذلك عن طريق أستدعائها حزب الله اللبناني
ومناصرتها لأسرائيل في حربها ضده سواء كان على الصعيد العسكري أو
الاعلامي أو المالي أو السياسي أو المعنوي ....الخ ؟
بل أنى للشعب الامريكي أن يقبل من بوش أن يخلق بسياساته أعداء
ومناهضين لا يعتبرون أمريكا اصلاً هدفاً لضرباتها العسكرية ؟
الأدهى في الامر أن بوش وسياساته تعادي منظمات عسكرية قوية تحمل
السلاح وتمتلك الأمكانية الفعلية لضرب أمريكا ان شاءت ذلك , فلو اراد
حزب الله أن يضرب أمريكا ووضع خطة لذلك لما عَدِم من ينفذ هذا الأمر ,
بل لوجد الكثير من أنصاره ومن غير أنصاره ممن يمكن أن يتبرعوا ويقوموا
بذلك أن لم يكن حباً وأستجابة لأمر الحزب وأمينه العام, فمن أجل بغض
أمريكا التي تساند أسرائيل فيما يفعل من مجازر في فلسطين وفي عدوانها
ضد الشعب اللبناني كما حصل في الحرب الاخيرة بين لبنان واسرائيل,
بالاضافة الى فضائحهم وأخطائهم في العراق التي ربما ستكلف هذا البلد
الحزين المنكوب الدخول في أتون حرب اهلية لها أول وليس لها أخر.
على جورج بوش ان يعلم_ وهذه رسالتي اليه_ أن هنالك فرقاً شاسعاً
وبوناً كبيراً بين حسن نصر الله وستراتيجيته وبين اسمة بن لادن
وبرنامجه. هذا الفرق ليس له علاقة بالايديولجية الديينة المتناقضة
التي يعتنقها كلا الشخصين وتشكل الاطار المفاهيمي النظري لهما, من حيث
أن الاول شيعي أمامي والثاني وهابي تكفيري فقط , بل الأمر يمتد الى
أمور أخرى أجملتها في النقاط الأتية:
1. أن حسن نصر الله ذو أهداف وطنية تتعلق باخراج وطرد الأحتلال
الاسرائيلي من الاماكن التي يحتلها في بلده فضلاً عن استعاده الأسرى
اللبنانين من غياهب سجون الاحتلال الأسرائيلي, وليس له علاقة بأمريكا
والغرب ولا يسعى لضربها أو الاعتداء عليها, بينما القضية وبرنامج بن
لادن_ كما سميته أعلاه_ أكثر من ذلك , فأهدافه أقليمية أو عالمية
تتعدى حدود دولة معينة لتعبر نحو الدخول في حرب عالمية مع الغرب عموماً
وأمريكا خصوصاً , ويسعى جاهداً الى ضرب امريكا وكل دولة تقف على طرف
نزاع معه.
2. أن حسن نصر الله لايستهدف_ولم يستهدف_ المواطنين الامريكيين,ولا
يقول أو يفتي بقتل الاميركان في العالم , بينما الامر على نقيضه عند بن
لادن الذي أجاز قتل الأمريكي سواء كان مدني أم عسكري.
3. أن حسن نصر الله يؤمن _الى حد ما _بالديمقراطية والدولة ومشروعها
السياسي بالمعنى المعاصر للكلمة ولو من منطلق مختلف .فهاهم أنصاره
وأعضاء حزبه يدخلون الأنتخابات اللبنانية ويحصلون على أصوات تؤهلهم
لدخول البرلمان اللبناني ليكونون المعبر الشرعي عن حزب الله في الدولة
اللبنانية , بل بعضهم قد تسنم مناصب قيادية وزارية في الحكومة
اللبنانية, فهم معترف به رسمياً من قبل الحكومة اللبنانية ويعتبرون
كيان سياسي مقاوم يتألف من أبناء لبنان وجزء لايتجزء من خريطة الدولة
اللبنانية, أما بن لادن فلا يؤمن بالدولة الحديثة المعاصرة ولا في
مؤوسساتها ولا في آليات تشكيلها, ويعد الديمقراطية كصيغة للحكم كفر لا
تنسجم مع منطلقاته الأيديولوجيه , بل الأمر وصل الى حد تكفير من يمارس
الانتخابات كما أعلنها صراحة قبل الانتخابات العراقية بالنسبة للمصوتين
في العراق حيث أعلن أن العراقي الذي يذهب للأنتخابات يعتبر كافر مباح
دمه!!!.
4. أن حسن نصر الله وحزبه كيان معترف به من كثير من دول العالم
وحكوماته ولايعد تنظيم أو حزب أرهابي الا من أمريكا وأسرائيل وبعض
الدول الحليفة لها بتاثير الضغط عليها لا بسبب الاقتناع العقلي الهادئ
, أما بن لادن وتنظيمه فلا توجد حكومة على وجه الأرض_في حدود علمي
المتواضع بهذا الشأن_ تعترف به ككيان سياسي له اطروحة معقولة ومطاليب
مشروعة يمكن ان تجد مجالاً لكي يتم تطبيقها على أرض الواقع في خضم
المنظومة السياسية للحضارة المعاصرة .
هذه بعض من الفروق التي تقع بين حسن نصر الله وبن لادن والذي يحاول
جورج بوش والأدارة الامريكية_لأسباب متعددة تحتاج لبحث مطول_ القفز
عليها, مع العلم أن الذي يملك أدنى معلومات بسيطة في السياسة يدرك أنه
من الأفضل لأمريكا ان لا تلغي هذا الفرق والتمايز بل والتناقض بين حسن
نصر الله وبن لادن منعاً لانضمام الأول للثاني أن لم يكن في التنظيم
ففي الأهداف والغايات والمشاريع الأستراتيجة.
هذه همستي البسيطة لجورج بوش لعله يسمعها لكي يفهم ويضع ماورد فيها
من دلالات ومضامين في الحسبان حتى لا يهمس أحد أخر في أذنه في وقت لاحق
ليقول له:"بان أمريكا قد تعرضت لهجوم " كما حدث في المشهد الدرامي
المعروف الذي حصل بعد أعتداءات 11 سبتمبر الدامية.
*استاذ فلسفة
[email protected] |