تعد المعرفة من أكبر اهتمامات القرآن الكريم، وقد بنى
لتحصيلها منهجا علميا دقيقا.
وهذه الورقة عبارة عن عرض موجز لهذا المنهج والذي تظهر معالمه جلية
في أول كلمة بدأت بها الرسالة الخاتمة، غير أنه قبل التطرق إلى عرض
المنهج نمر أولا بعرض مفهوم مصطلح المنهج كمفتاح للدخول إلى الموضوع.
أولا: مفهوم المنهج:
بالعودة إلى المعاجم والقواميس اللغوية يتضح لنا أن المنهج هو
الطريق الواضح. ونهج الطريق أي تبيّنه. وأنهج الطريق: وضح واستبان(1).
ولفظة منهج لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة(2)، وذلك في قوله
تعالى: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)(3)، أي طريقا واسعا سهلا،
ومسلكا واضحا بينا((4. كما أورده معظم المفسرين.
وللقرطبي في تفسيره عبارة دقيقة في قوله: وقال ابن العباس محمد بن
يزيد: الشريعة ابتداء الطريق المستمر((5، أي أن المنهج من صفاته
الاستمرارية. فكل طريق سهل واضح بين غير مستمر فهو لا يوصف بالمنهج.
فكل هذه الصفات مجتمعة ( الوضوح+ البيان+ الاستمرارية) بغض النظر عن
السهولة هي التي تحدد منهجية طريقة ما أو عدم منهجيتها، وهي المعيار
الذي تقاس به المنهاج التي توضح من أجل الوصول إلى المعارف.
وإلى جانب اللفظ المباشر منهج هناك في القرآن الكريم لفظتين لهما
نفس الدلالة المعنوية لهذا اللفظ، وهما لفظتي: الهداية والنور.
يقول الله عز وجل: ( وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات
البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)(6).
ويقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم
كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور
رحيم)(7).
ومعنى الهداية هي الدلالة بلطف،أما النور معناه الضوء المنتشر الذي
يعين على الإبصار(8).
وكلا المعنيين يشيران إلى وجود معنى مشترك بين اللفظتين ولفظ
المنهج، وهو محاولة الوصول إلى الهدف بطريقة آمنة وواضحة.
فالهدى هو الإرشاد إلى الطريق الصحيح(9)، كما جاء ذلك في قوله
تعالى: ( أهدنا الصراط المستقيم)(10)، أي أرشدنا إلى الطريق الواضح
الهادي (11). وهذا بغض النظر عن الاختلاف القائم فيما إذا كانت
الهداية هي الدلالة الموصلة أم الدلالة على ما يوصل، كما ذكر الإمام
الألوسي(12). وفصل فيه الإمام الزمخشري بقوله: الدلالة الموصلة إلى
البغية ((13.
أما النور فهو الإيضاح والتبيان(14).
وقد وصف الله تعالى كتابه الكريم بالنورانية كما وصف بها التوراة
والإنجيل، وذلك لأنها كتب سماوية تحمل للبشر الطرق المثلى والواضحة
والهادية والمنيرة للوصول إلى السعادة الإنسانية.
يقول الله عز وجل: ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري
ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)(15).
ويقول تعالى: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور)(16).
ويقول تعالى: ( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور)(17).
فكتب الله عز وجل كلها نور وكلها هادية، لأنها تمنح البشرية منهج
الحياة.
وكلمة منهج، كما أوضحنا سالفا تحمل معنى الطريقة الواضحة للوصول إلى
الحقيقة.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأن مصطلح منهج يعني: طريقة البحث
في الأمور لتنتهي إلى إيجاد ضوابط لها((18، أي: طريقة كسب المعرفة
((19.
انطلاقا من هذه المفاهيم يمكننا القول أن منهج القراءة المعرفية
بصفة عامة هو السبيل الواضح المستمر الذي يمكن سلوكه من أجل الوصول إلى
الحقائق المعرفية،
ولأن الله سبحانه وتعالى عالم بعباده ومدى قصور الجهد البشري في
استيعاب الحقائق كاملة، وبالتالي سبيل الوصول إليها. ضمّن كتابه الكريم
أصول منهج معرفي دقيق لا يشوبه النقص أو الخلل على مدى المسيرة
المعرفية للبشرية جميعا. وجعل أسس هذا المنهج في متناول القدرات
البشرية لا منهجا مثاليا يعجز الإنسان عن تطبيقه. وهذا ما يميز المنهج
القرآني.
وفيما يلي عرض عام ومختصر لهذا المنهج.
ثانيا: منهج البحث المعرفي،أو القراءة
المعرفية.
تحمل أول الآيات القرآنية المنزّلة على خاتم النبيين -عليه
الصلاة والسلام- مبدأ منهجيا فتح به عملية البحث عن الحقائق المعرفية.
جاء ذلك في قوله تعالى: ( إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق.
اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)(20)،أي
استفتح القراءة باسم الله و أوجد القراءة لما لا مقروء غيره، وهو
القرآن الجامع لكل خير((21 وهذا المعنى تضمّنه الأمر الأول بالقراءة،
ثم تكرر الأمر للمرة الثانية واقترن بصفة الأكرمية على جهة التأنيس
كأنه تعالى يقول: امض لما أمرت به ربك ليس كهذه الأرباب بل هو الكرم
الذي لا يلحقه نقص فهو ينصرك ويظهرك((22.
ومن يقرأ القرآن بعد ذلك يكتشف القراءة الثانية التي تمثل الشق
الثاني لإستكمال المنهج، وهي قراءة الكون بكل ما يحتويه قراءة الخلق
ودراسة الوجود. فهما إذا قراءتان تجب قراءتهما: كتاب منزّل متلو ومعجز
وهو القرآن، وكتاب مخلوق مفتوح وهو هذا الخلق والكون بدء من الإنسان((23.
إن هذه الدعوة إلى الازدواجية في القراءة ترسم أمامنا المنهج
الحقيقي للوصول إلى المعرفة، فقراءة الوحي تعني الرجوع إلى الأصل
المعرفي الرباني الذي يعد بمثابة المؤطر الفكري المعرفي، وقراءة الكون
والخلق تعني فتح مداركنا لاستيعاب كل ما يحيط بنا. ففي هذه الازدواجية
الغيبية والقلمية ما يمنح الفعل الحضاري الإنساني عمقا كونيا
متسعا((24.
فهاتان القراءتان لازمتان،وقيام إحداهما دون الأخرى تؤدي إلى إحداث
شللا منهجيا، وبالتالي قصورا معرفيا ينجر عنه عاهات فكرية خطيرة،
وبالتالي ليس للإنسان أن يلغي أيا من طرفي المعادلة، وليس له كذلك أن
يحتوي أيا من طرفي المعادلة بمنهج الطرف الآخر ((25.
وعلى هذا الأساس المنهجي يصبح البحث عن الحقائق بحثا منظما بعيدا عن
الفوضوية والتيه الفكري، وبعيدا عن التضاد والصراع المعرفي.
الهوامش:
* الباحثة متحصلة على شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية بكلية
العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية بباتنة –الجزائر-.
1- الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص: 562.
وانظر: ابن منظور، لسان العرب، 6/727.
2- انظر: محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن
الكريم، دار الفكر، بيروت، لبنان، دط، 1987م، ص: 719.
3- المائدة: 48.
4- الطبري، جامع البيان، 4/609.وانظر- ابن كثير عماد الدين،
تفسير القرآن العظيم، دار الأندلس للطباعة، ط: 20، 1980، 2/120.
النسفي عبد الله أحمد بن محمود، تفسير النسفي المسمى مدارك
التنزيل وحقائق التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط:1، 1995
1/325. الرازي، التفسير الكبير، 12/12. رشيد رضا، تفسير المنار،
6/413.
5- القرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام
القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، دط، 1985م،6/211.
6- الأنعام: 97.
7- الحديد: 28.
8- الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص: 564، 570. بتصرف.
9- أنظر: الرازي، التفسير، الكبير، 11/150.
10- الفاتحة: 06.
11- أنظر: الطبري، جامع البيان، 1/101.
12- أنظر: الألوسي، شهاب الدين، روح المعاني في تفسير القرآن
العظيم والسبع المثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط، دت،
1/91.
13- الزمخرشي أبو القاسم جار الله بن عمر، الكشاف عن حقائق
التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر،
ط:1، 1977، 1/116.
14- أنظر : الراغب الأصفهاني، معجم مفردات ألفاظ القرآن، ص:
564.
15- الشورى: 52.
16- المائدة: 44.
17- المائدة: 46.
18- أبو القاسم حاج حمد، المنهجية المعرفية في القرآن العظيم،
ص: 167.
19- محمد الدسوقي، منهج البحث في العلوم الإسلامية، دار
الأوزاعي، ط: 1، 1984 م، ص: 43.
20- العلق: 1-5
21- البقاعي، نظم الدرر، 8/482.
22- ابن عطية أبو محمد عبد الحق الأندلسي، المحرر الوجيز في
تفسير الكتاب العزيز، قطر، ط:1، 1977 م، 15/519.
23- طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين قراءة الوحي وقراءة
الكون، المعهد العالمي للفكر الإسلامي/ القاهرة، ط:1، 1996م، ص:11.
24- أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، 2/413.
25- المصدر نفسه، 1/475. |