زار سماحةَ آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في
بيته المكرم بمدينة قم المقدسة في يوم الجمعة (21 شعبان 1427 هـ) جمعٌ
من طالبات العلوم الدينية الإفريقيات ليستمعن إلى توجيهاته بمناسبة
استقبال شهر رمضان المبارك، وبعد أن تلا سماحته الآية الكريمة: (شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)، قال:
سيطلّ علينا بعد أيام شهر رمضان المبارك، وهو الشهر الذي وصفه الله
تعالى بأنه شهر نزول القرآن الكريم، وأهم خصيصة للقرآن الكريم أنه يهدي
الناس وذلك بأن ينزع الغلّ ويزيل الحقد من قلوب المؤمنين به ويعالج
جميع الأمراض الروحية.
وأضاف سماحته موضحاً:
قد يكون الشخص سليماً معافىً من الناحية الجسمية وتعمل جميع أجهزته
وأعضاء بدنه بصورة صحيحة، ولكن يوجد في داخله وروحه نوع من المرض يسوقه
صوب القتل أو الإنتحار أو الفساد. إنّ القرآن الكريم في الحقيقة إنما
يعالج هذا النوع من الأمراض ويقدّم حلولاً ناجعة في هذا المجال، لأنّ
كلّ المظالم التي حدثت عبر التاريخ إنما هي نتيجة الأمراض الروحية
الخطرة، وأحد معاني الهداية القرآنية هو معالجة هذا النوع من المرضى
الروحيين وتخليصهم من الشرور ومن الآفات المعنوية.
وهذه الخصيصة القرآنية موجودة في الصلاة أيضاً؛ لأن الصلاة هي
الأخرى تحفظ الإنسان من كثير من الآفات الروحية؛ قال الله تعالى:
(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ).
إنّ من كان من أهل الصلاة، يبتعد من الفحشاء والمنكر بمقدار عمق
صلاته. فالشاب الذي يعاني من أمراض روحية ونفسية تدعوه للانتحار أو
القتل أو التجاوز على الآخرين وظلمهم، سيتغيّر إذا ما أقبل على القرآن
والصلاة، بسبب النور الذي يلقيانه في قلبه فيبرئه من جميع هذه الأمراض.
ثم أشار سماحته إلى بعض القدوات في هذا المجال ممن تربّى في مدرسة
القرآن الكريم، وقال:
يمكننا التوصل إلى معرفة عظمة القرآن والثقافة والتربية القرآنية من
خلال مطالعة سيرة الشخصيات التي تربّت في أحضان القرآن، وأحد هذه
الشخصيات محمد بن أبي عمير التلميذ الخاصّ للإمام موسى بن جعفر الكاظم
عليهما السلام، والذي حظي بمنزلة رفيعة وعدّت رواياته مقبولة لدى علماء
الشيعة، حتى إنهم يفتون على أساسه.
لقد سُجن هذا الرجل الموالي للإمام والمقرّب منه، بأمر من هارون
العباسي وتحمّل صنوف التعذيب في سبيل عقيدته، وكان العباسيون يتفننون
في التعذيب، وكان تعذيبهم على أربع طبقات أو مراحل، هي الضرب باليد،
فالعصا، فالسوط بجلد ذي قبضة خشبية يترك أثراً مزرقّاً في الموقع الذي
يصيبه من بدن الإنسان. وأخيراً: بخشبة عرضها حوالي 40 سنتيمتر ثبّت في
طرفها مسامير كثيرة، تنغرز في بدن الشخص الذي يُضرب بها، وربما غُرز في
كل ضربة خمسون مسماراً في بدنه وسالت الدماء منه. وربّ أشخاص كانوا
يصابون بنزيف شديد بعد عشر ضربات ثم تخرج أرواحهم في الحال.
قالوا: إن هارون أمر بأن يضرب محمد بن أبي عمير بألف خشبة. ولاشك
أنهم لم يضربوه بها دفعة واحدة وربما استمروا في ضربه أياماً. وكان
هارون يطلب منه أن يبوح باسم الخلّص من أصحاب الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام، ولو أباح لما تحمل كل هذا التعذيب الرهيب.
وقالوا أيضاً: إنه أمضى سبعة عشر عاماً في السجن، لقي خلالها ألوان
التعذيب التي لا تطاق ـ وكان ضرب ألف خشبة واحداً منها ـ إضافة الى
مصادرة أمواله، ولكنه لم يذكر حتى اسماً واحداً من أصحاب الإمام عليه
السلام.
وأضاف سماحته: قد يوجد أشخاص مستعدّون لارتكاب القتل وأبشع أنواع
الجرائم من أجل الحصول على مال وضيع، ولكن نرى في المقابل وجود أشخاص
كمحمد بن أبي عمير الذي تحمل 17عاماً من السجن والتعذيب ولم يكن
مستعدّاً للبوح بأسماء أصحاب الامام عليه السلام، وهو نموذج من الأشخاص
الذين تربّوا في أحضان القرآن.
ووصف سماحته شهر رمضان بأنه ربيع القرآن مذكراً بقول الله تعالى:
(وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)، وقال:
فكما أن الماء النازل في الربيع يعيد للأرض الهامدة البهجة والحياة،
فكذلك القرآن هو ماء الحياة المعنوية، وربيعه شهر رمضان المبارك.
وأوصى سماحته المؤمنين بتلاوة القرآن في شهر رمضان المبارك قائلاً:
إنّ لتلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك أجراً كثيراً، فكلّ آية
تتلى في هذا الشهر تعدل ختم القرآن في غيره من الشهور، وإنّ لحفظ
القرآن ـ عن ظهر قلب ـ في هذا الشهر أجراً كثيراً أيضاً، إلا أن هذه
الأمور كلّها مقدّمات لأمر أهمّ وهو العمل بالقرآن وتطبيقه وتنفيذ
أوامره في الحياة. فما أحسن أن نتأمّل في كل آية نقرأها في هذا الشهر
الكريم ونتدبّر في معانيها العميقة ونعزم على العمل بمضمونها.
فمثلاً عندما نقرأ قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(4) ينبغي أن نعلم أن في هذه الآية المباركة
أربعة أمور:
1. الصبر على المشاكل المختلفة وكذلك إزاء صعوبات الحياة، ومنها
الصعوبات في التبليغ.
2. إيصاء الآخرين بالصبر.
3. المرابطة والثبات والاستقامة في طريق الله وتبليغ دينه.
4. التقوى.
فهذه الآية الكريمة نخبرنا أن من يلتزم بهذه الأمور الأربعة لعلّ
عاقبته الفلاح.
ولكن الروايات تفيد أن «لعل» في القرآن الكريم موجبة، أي إن التزمتم
بهذه الأمور الأربعة فإنكم ستفلحون يقيناً.
وهكذا عندما نقرأ الآيات التي تتحدث عن الجنة والنار والحساب
والعقاب والثواب والصلاة والصيام و... نصمّم على العمل بمضامينها،
وندعو الآخرين لذلك أيضاً ليكون القرآن منشأ هدايتنا جميعاً إن شاء
الله تعالى.
وفي الختام أوصى سماحته المبلّغين والمبلّغات قائلاً: حسب ما نصّت
عليه الروايات فإن أعمالنا تعرض كل يوم على مولانا صاحب العصر والزمان
عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فحريّ بنا إذاً أن نخصص ولو عدة دقائق
يومياً لمحاسبة أنفسنا وأن نتأمل في أعمالنا الحسنة والسيئة، وأن نسعى
لمضاعفة أعمالنا الحسنة التي تدخل السرور على قلب مولانا ومن ثم تكون
سبياً لنيل رضاه ودعائه لنا، وأن نسعى كذلك للتقليل بل التخلّص من
الأعمال التي تسخط مولانا وتحزنه إن كانت ما زالت تصدر منا. وأن نسعى
أيضاً لاغتنام هذه الفرصة المعنوية المتمثلة بشهر رمضان المبارك، فإنها
لفرصة قصيرة ستمرّ بسرعة ونتحسّر عليها إن لم نغتنمها ـ لا سمح الله ـ
فلنصمم من الآن على اغتنامها ولنكن منتبهين خلال الشهر أيضاً.
كما علينا الاستفادة القصوى من القرآن الكريم وتهيئة موجبات التقرّب
إلى الله تعالى وأهل البيت سلام الله عليهم. |