
الكتاب: فلسفة التاريخ
دراسة تحليلية في المناهج والسلوك.
المؤلف: الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره)
الناشر: مؤسسة الوعي الإسلامي (بيروت – لبنان – ط1 / 2005)
كتب الناشر في مقدمته :
التاريخ نهرٌ جار، لا يفتر في تدفقه...
فمنذ أن عاش الإنسان على الأرض، سواءٌ كان في الغابة – على رأي
البعض – أو جنة الأرض – على رأي آخر – ولم يختلف الرأيان.. منذُ ذلك
الوقت والتاريخ يتدفق كسيل من الأحداث المتعاقبة.
وكما مياه الأنهار تتغير بين حين وآخر كذلك التاريخ، فهو يختلف في
شكل حركته وتدفقه، فمرة ينهمر كالشلال عندما تكون هناك أحداث عظيمة،
مثلاً وقوع البعثة النبوية وما تعقبها من الأحداث، فالتاريخ انهمر في
ذلك الوقت كالشلال.
وعندما يكون التاريخ كالشلال يكتسح كل شيء. وهو لا يبقى هكذا حتى
النهاية حيث تبدأ سرعته بالهبوط شيئاً فشيئاً عندما تنخفض الأرض وتنتهي
الروابي، وكذلك التاريخ عندما تجف المبادئ ويتحول الإيمان إلى أهواء
يهبط التاريخ كما الأرض المنخفضة. لكن بمجرد أن تتغير تضاريس الأرض
وتبدأ الأرض بالارتفاع ثم بالانخفاض، ترى يعود النهر إلى تدفقه السريع
بعد فتور قاتل..
هذا هو حال التاريخ؛ فلو تناولنا تاريخ أي شعب من الشعوب لوجدنا أن
هذه الحقيقة صادقةٌ عليه. فالشعوب التي تعيش المبادئ وتضحي بأرواحها من
أجل أهدافها الكبيرة تصبح كالشلال المتدفق وبمجرد أن تفتر هذه الحيوية
في النفوس تفتر حركة المياه المتدفقة.
وقد عانت الأمة الإسلامية في فترة من حياتها من مشكلة الركود، عندما
تخلت عن رسالتها الإسلامية السمحة وتمسكت بأهداب الخرافة وبحبال
الأهواء، وكان نتيجة ذلك أن زحف الموت البطيء إليها.. فقد شهدت القرون
(7 – 8 – 9هـ) حالة من الركود القاتل الذي حول النهار إلى ليل،
والانتصار إلى هزيمة، وهي الفترة التي تعرض فيها العالم الإسلامي إلى
هجمات المغول الذين دمروا الحضارة الإسلامية وحطموا المدنية في البلاد
الإسلامية، ولم يكن ذلك إلا نتيجة عوامل داخلية، فقد تسلل الخمول إلى
أوصال الأمة، الأمر الذي جعلها غير قادرة على مقاومة الزحف المغولي،
وكما نشاهد مياه الأنهار صافية براقة عند المرتفعات وعند الأرض
الصخرية، كذلك التاريخ يصبح صافياً شفافاً براقاً مشعاً عندما ينحدر
فوق أكتاف الرجال الصامدين الذين يقاومون الإغراءات والأهواء كالصخور
الصلبة التي تقاوم منحدرات المياه.
وبمجرد أن تصل المياه إلى المناطق الرملية، تتحول إلى مياه ملوثة
غامقة لا يمكن مشاهدة قاع النهر من خلالها، والمشكلة أن هذه المياه
ستحمل معها الرمال والتراب، الأمر الذي سيؤثر على حركتها وسرعتها، وكم
من الأنهار العظيمة تنتهي إلى جداول ضيقة فاترة لا تحس بوجودها، وهكذا
التاريخ عندما يصل إلى الأمم الضعيفة التي تشابه الرمال والأتربة
والأوساخ التي تعرقل سير تدفق المياه.
وهذا ما نقرأه على صفحات تاريخنا، فعندما انتكس الإنسان المسلم
وتحول إلى كتلة من الأهواء والشهوات بعد أن كان كتلة من التضحيات
والاستعدادات، عند ذلك ينهار التاريخ أيضاً بانهيار الإنسان المسلم،
فازدادت الترسبات على طرفي التاريخ، فظهرت الصوفية والأفكار القدرية
التي حاولت أن تبرر واقع المسلمين وتوجد لهم بديلاً للهروب مما هم
عليه.
وكما تنقل الأنهار الأتربة من أماكنها إلى أماكن أخرى، نقل لنا
التاريخ الكثير من تلك الأفكار التبريرية والتصورات الصوفية التي
انتشرت في القرون المظلمة.
وكما تعمل هذه الأتربة كسدٍّ يمنع تدفق المياه كذلك هذه الأفكار
التخديرية تعمل كسد بوجه تدفق التاريخ والحضارة الإنسانية.
إن دراسة التاريخ لا تختلف عن دراسة الأنهار...
فالجغرافيا هي الوسيلة لمعرفة طبيعة الأنهار وكيفية تدفقها..
أما التاريخ فوسيلته الفلسفة، ففلسفة التاريخ هي دراسة تضاريس
التاريخ، متى ينحدر ومتى يتدفق ومتى يتوقف، متى يسيل ومتى يتسع؟.
وقد عني علماء الغرب كثيراً لدراسة هذا العلم، ووضعوا له قواعد
وأصولاً، نذكر من بينهم فيلسوف التاريخ توينبي، وقديماً اهتم المسلمون
بهذا العلم، وقد تخصص فيه علماء كبار كمسكويه، وابن خلدون، وابن أبي
الربيع، والطقطقي، وغيرهم، أما اليوم، فلا نجد بحوثاً في هذا المجال
إلا النزر القليل بالرغم من أهميته في مجال التوجيه، وصياغة الأفكار،
ونشرها، وبالرغم من دوره في خوض الصراع العقائدي، وفي بناء الحضارات.
وقد قام الإمام الشيرازي قدس سره ضمن اهتماماته بما تركه المسلمون
من الأبحاث والعلوم، قام بوضع هذه الدراسة المهمة عن فلسفة التاريخ،
ودور التاريخ في تأسيس العلوم الدينية، وهي تعد أول مبادرة من قبل
علمائنا المعاصرين.
تكمن أهمية هذا البحث، إنه يأتي ضمن مرحلة حساسة من تاريخ الأمة
الإسلامية، حيث الاستعدادات جارية للتحول من واقع إلى واقع آخر، فكان
لا بد من إضاءة شمعة، تكشف للسائرين في طريق التغيير معالم الطريق الذي
يمشون فيه.
والكتاب الحالي الذي كتبه المرجع الديني الأعلى السيد محمد الشيرازي
قدس سره هو من هذا القبيل، فقد تضمن أبحاثاً حساسة، ترتبط بمستقبل
الأمة، وتتعلق بأمانيها في الحياة الكريمة.
وقد حرصنا على تقديم الكتاب بصورة أنيقة، نرجو أن ينتفع به العلماء
والمثقفون، وأن ننتفع جميعاً بالأفكار النيرة والرؤى الثاقبة للإمام
الشيرازي، راجين من العلي القدير أن يحشره مع أجداده الطاهرين، إنه نعم
المولى ونعم النصير. |