من مكتبة النبأ: العلمانية

الكتاب: العلمانية

المؤلف: غي هارشير

ترجمة: رشا الصباغ

الناشر: دار المدى / بيروت/ ط1/ 2005

 

إن مفهوم العلمانية واسع جداً وضيق جداً في آن. فهو واسع لأنه يعني في تحليل أولي الأنظمة التي تحترم حرية الضمير، بمعنى أن تلك الأنظمة تفترض أن الدولة ليست (ملكاً) لفئة من السكان، وإنما هي للجميع، للشعب، من دون أي تمييز بين الأفراد تبعاً لتوجهاتهم في الحياة.

وهو ضيق، إذا كان التعبير نفسه والمعركة ضد الكهنوتية الدينية التي يحيل إليها، يعكسان بقوة مدلولاً في التقليد الفرنسي، يتضمن بالإضافة إلى تأكيد الحرية الدينية، مبدأ فصل الدين عن الدولة، الأمر الذي ما زال يجهله عدد كبير من الدول الأخرى التي تلتزم باحترام حرية الضمير ومبدأ عدم التمييز التزاماً صارماً. غير أن الولايات المتحدة على سبيل المثال ولعدم معرفتها بهذا المصطلح، قد وضعت الأشياء في وقت مبكر جداً موضع التطبيق العملي: فقد (علمنت) الدولة الاتحادية لجعلها مستقلة عن العقائد الدينية قبل العديد من الدول الأوروبية، ومنها فرنسا نفسها إذ كفل التعديل الأول الذي أجري على الدستور الأمريكي (1791) الفصل بين الكنائس والدولة الاتحادية وأكد أن لا وجود لأي دين رسمي مقرر، أي ذي امتياز سلبي، كما كفل الحرية الدينية المطلقة. وهذا هو فحوى (نظرية الجدار) الشهيرة وهي النظرية التي قال بها الرئيس الأمريكي توماس جيفيرسون التي تقترح إقامة جدار مجازي فاصل بين الكنيسة والدولة.

قبل ذلك أيضاً كان إعلان فيرجينيا لحقوق الإنسان (1776) قد نص على ما يلي:

(الدين أو العبادة المتوجبان تجاه الخالق، وطريقة القيام بالتزاماتهما، لا يجوز أن توجه إلا عن طريق العقل والاقتناع، وليس بالقوة أو العنف على الإطلاق، وبناء عليه فكل إنسان يجب أن يتمتع بحرية الضمير التامة، والحرية نفسها يجب أن تمتد أيضاً لتشمل أسلوب العبادة الذي يمليه عليه ضميره)).

كما استبعد الدستور الأمريكي نفسه الذي وضع سنة 1787 المعيار الديني أي التمييز الديني في ما يتعلق بالوظائف العامة (لن يطلب أبداً أي تصريح ديني خاص كشرط أهلية لشغل الوظائف أو المناصب العامة في ظل سيادة الولايات المتحدة).

في مقاربة أولى للموضوع نتساءل: ما هي العلمانية؟ إنها تحيل بالدرجة الأولى إلى مفهوم سياسي: فالدولة (العلمانية) (بالمعنى الأكثر شمولاً للتعبير) لا تمنح امتيازاً لأية ملة، وبشكل أعم، لأي تصوّر محدّد للحياة الصالحة، في الوقت الذي تكفل فيه حرية التعبير عن كل منهما، ضمن حدود معينة، في ما يخص الضمير، يمكن للسلطة في الواقع أن تضطلع بصورة إجمالية بوظيفتين مختلفتين تماماً. فهي من جهة قادرة على أن تتبنى رؤية للعالم، ومفهوماً للخير: إنها تلعب في هذه الحالة دور سلطة مدنية، أي سلطة فعالة في (العصر)، في (العالم)، لكي تفرض مثل تلك الرؤية على أولئك الذين قد لا يعتنقونها من تلقاء أنفسهم، بصدق. ولا بد من الإقرار بأن الدول قد لعبت تقليدياً هذا الدور في السابق وما زالت تلعبه في الغالب اليوم: فلقد ظلت السياسة لمدة طويلة خاضعة، وبشكل شبه تام – دون أن يخلو الأمر من صراعات – لدين سائد. كان هذا الدين، وقد تجذر في التعالي والسمو، يفرض نفسه على أنظمة بشرية محضة: ففي عالم العقل المؤمن بالخلق وبوحدانية الخالق خصوصاً، تتغلب شريعة الخالق منطقياً على قانون المخلوق ويرجح الحق الإلهي على حق البشر.

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء  15/اب /2006 -20/رجب/1427