بعد المواجهة الاخيرة ..هل سيتغير التوازن الاستراتيجي في المنطقة؟

نهاد عبد الاله خنفر

على الرغم من انني لم اعش في فترة حرب اكتوبر ( عام ثلاثة وسبعين )، لانني لم اكن قد ولدت بعد، وعلى الرغم من انني قرات عن اخر الحروب العربية الاسرائيلية من خلال الكتب والمؤلفات وخصوصا للكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وما تبع ذلك من المتابعات الدرامية التي قدمها المصريون على الشاشة الصغيرة، الا انني اجزم بان الشعوب العربية تعيش الان وفي ظل المواجهة العسكرية الواسعة والمحتدمة بين اسرائيل وحزب الله في ظل نفس اللحظات والتصورات والمشاعر المتالقة فرحا بما يحققه حزب الله من ضربات نوعية ومتفوقة، تماما كما فعل المصريون والسوريون في تلك الحرب التي خرجت حتى عن التصورات الاستراتيجية للاستخبارات الاسرائيلية، وتلقائيا للاستخبارات الامريكية اللتان لا يمكن فصلهما من حيث التعاون والتحالف الاستراتيجي بين كلا دولتيهما، ذلك ان المزاج الشعبي العربي الان يقف ايضا في دوائر المفاجأة لما يقدمه حزب الله سواء من حيث القدرات العسكرية التي لم يكن يتوقع ان يقوم حزب الله باستخدامها على الرغم من امتلاكها ( كبقية جيوش المنطقة )، او سواء من حيث الوفاء الكامل والمتواتر بالوعود التي يقطعها الامين العام لحزب الله والتي اصبح الوفاء بها شهادة العيان الاكثر صدقية حتى لدى الاسرائيليين، وهذا ما ظهر في استطلاعات الراي الاسرائيلية الاخيرة التي اشارت الى ثقة الاسرائيليين بحسن نصر الله اكثر من ثقتهم بقيادتهم العسكرية والسياسية، وهذا ما يعزز التغير الاستراتيجي الذي اتحدث عنه في هذا المقال، والذي يتمحور الان في خانة الصدقية الارادية العالية التي يتحلى بها طرف عربي بالصراع مع الاسرائيليين الى جانب صدقيته المادية على مستوى الفعل العسكري.

وحتى لا اقترب بتاتا من الانفعالية التي قد تجلبها الشعارات والخطابات للمتابعين لحلقات الصراع العربي الاسرائيلي، تلك الانفعالية التي تاتي على شاكلة احمد سعيد وقضية القاء الاسرائيليين في البحر وغير ذلك من تجويع السمك وما تبعها من هزائم ونكسات كادت ان تلقي العرب في البحر، بعد ان اغرقتهم طبعا في بحر من الهزائم المعنوية والمادية الكبيرة والمتلاحقة. من هنا كان لا بد لنا من النظر الى الامور بطريقة مختلفة الى حد ما والدعوة الى التفكير الجدي في قدرة حزب محدود القوة كحزب الله على تحدي القدرات الاسرائيلية الرادعة لكافة الجيوش العربية بلا استثناء، مع العلم بان امكانيات الحزب لا يمكن مقارنتها بالترسانة العسكرية الاسرائيلية المتفوقة من حيث الحجم والتطور التقني الذي طالما وصفت به هذه الترسانة، حتى لكاننا اصبحنا امام معادلة عسكرية لوجستية لا يمكن للعرب ان يتفوقوا فيها مهما طال الزمن، وهذا ما دأبنا على قراءته ومتابعته من خلال الخبراء والمحللين الاستراتيجيين الذين لم يدعوا فرصة صغيرة او كبيرة الا وقاموا من خلالها بالحديث الموسع عن القدرات العسكرية الرادعة للجيش الاسرائيلي الذي استعصى على الكسر في كل الحروب العربية الاسرائيلية حتى تلك التي شهدت تفوقا عربيا في بدايتها ( كحرب اكتوبر ثلاثة وسبعين ).

من الواضح وكما هو معروف بان الاستراتيجية التي بنى حزب الله خططه عليها في تغيير المعادلة الاستراتيجية في المنطقة وتلقائيا على مكونات وعناصر الصراع العربي الاسرائيلي هي استراتيجية الصبر والنفس الطويل والارادة الصلبة التي تقوم على بناء الافراد وتربيتهم على ارادة التفوق الحقيقي الدائم المبني على القوة المادية الفعلية التي تجمع بين نظرية الوعد، وصدقية تنفيذه كما حصل في كثير من المرات التي شاهد نموذجها الملايين على الهواء مباشرة في مسالة ضرب البارجة الاسرائيلية التي تعد ثاني احدث القطع البحرية الاسرائيلية على الاطلاق، والتي تتميز باحتوائها منظومة دفاع صاروخي ضد الصواريخ، حيث تمثلت المفاجأة بان البارجة التي صممت لتدافع عن الاخرين، لم تستطع الدفاع حتى عن نفسها، مما ادخل الكثيرين في حالة من الذهول بما فيهم الاسرائيليين طبعا.

 طبعا لا يعطينا ذلك احقية اطلاق العنان للخيال التحليلي الجامح الذي يدفعنا الى القول والجزم بتفوق حزب الله على القوة الاسرائيلية لمجرد نجاحه في ضرب هذه البارجة الاسرائيلية النوعية، وانما يدفعنا ذلك الى تحليل القدرات العقلية والتكتيكية والارادية التي يمتلكها مقاتلو حزب الله، حيث ان التسلح بهذه القدرات قد يتفوق في مرات كثيرة على القوة المادية العسكرية ذاتها، وهذا ما ينطبق طبعا على ما صنعه العرب الذين ادخلوا الاسرائيليين في ذهول وصدمة شديدة حينما استطاعوا بقليل من الحكمة والعقلانية والتكتيك الجيد ان ينسفوا خط بارليف الذي شيده الاسرائيليين كجدار صد للقوات المصرية، على الرغم من استحالة ذلك على المستوى النظري. ان ما يمكن ان نلاحظه من المعادلة التي تتفاعل عناصرها الان على الجبهة اللبنانية الاسرائيلية هو التطور التدريجي الذي يعتمده حزب الله ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي، موفيا بكافة وعوده التي قطعها على نفسه في الرد على العدوان، مع امتلاكه للحكمة السياسية الكافية التي تكشف عن وجود صناع قرار سياسي يعملون على مستوى احترافي، وهذا ما يعترف به الاسرائيليون الذين يعترفون على مستوى قادتهم العسكريين بان نصر الله يتمتع بصدقية عالية جدا توجب اخذ كافة ما ينطق به على محمل الجد.

وبعد !! هل نستطيع القول بان القدرات التسليحية التي يمتلكها حزب الله بالاضافة الى قدراته القيادية التكتيكية وحساباته وخطواته السياسية المحسوبة بدقة ستعمل على تغيير التوازن الاستراتيجي في المنطقة؟؟ خصوصا في ظل سقوط الصواريخ على على المدن الاسرائيلية التي كانت محصنة حتى وقت قريب، قريب جدا، وهل نحن امام تغيير فعلي لقواعد اللعبة العسكرية والسياسية في المنطقة وعلى مستوى الصراع العربي الاسرائيلي؟؟ في وقت قد يضع فيه صمود حزب الله وتنفيذه لعدد من المفاجآت التي ينتظرها الكثيرون الان على احر من الجمر قواعد جديدة لموازين القوى على جبهة الصراع العربي الاسرائيلي، هذا طبعا بعد ان نقرا جيدا ان كثيرا من الاسلحة التي ستستخدم في ضرب العمق الاسرائيلي ستكون عبارة عن صواريخ ايرانية تجري تجربتها العملية في معركة حقيقية، لا نعرف الى اين سيؤدي النجاح الفعال في استخدامها، وما هي الاثار الذي سيتركها ذلك؟؟ مضافا الى ذلك مئات من الاسئلة التي ستحيط الدول والحكومات العربية والتي سيقف على راسها، لماذا يصمد حزب الله بقدراته المحدودة ويتحدى اسرائيل، بل ويهدد قدرة الجيش الردعية؟؟ ولا تستطيع الجيوش العربية مجتمعة ان تقوم بذلك؟؟ على الرغم من امتلاكها لترسانات وجيوش اقل ما يقال فيها انها اكثر عددا وعدة من حزب صغير كحزب الله.

ازاء ماتقدم فانني ارى بان تطورات الامور باتت مرتبطة ايضا بالقدرة الاسرائيلية الرادعة التي اصبحت مهددة في صميم قدراتها الردعية التي طالما حرصت على ان لا تمس اطلاقا، وها هم الكتاب والخبراء الاسرائيليون على اختلافهم يفندون ذلك، ويجبرون على انذار حكومتهم وقياداتهم العسكرية على ان المعادلة اخذة بالتغير حتى لو خرج حزب الله من هذه المواجهة مهزوما، هذا ان خرج مهزوما، لان تحليلاتهم تفيد بانهم في النهاية مجبرون على التفاوض معه والاستجابة لمطالبه، وهذا بحد ذاته اضافة نوعية لرصيد حزب الله الشعبي والداخلي والاقليمي، وبالتالي لا يمكن لنا ان نقول ان اصول اللعبة وتوازناتها الاستراتيجية ستبقى على ما هي عليه في ظل تحذيرات اسرائيلية يقينية من توجيه حزب الله ضربات صاروخية للعمق الاسرائيلي مما سيؤثر عميقا على قدرة الجيش الاسرائيلي في الحفاظ على جبهته الداخلية وابقائها منطقة امنة كما كانت عبر سنوات طويلة جدا.

على كل حال، ارى انه لا بد من التذكير بما ذكرت به في مقالات سابقة، وهو انه ما ضر الحكومة الاسرائيلية في ان تفتح مفاوضات مباشرة مع اسري الجندي الاسرائيلي في غزة؟؟ وما ضرهم لو انهم طالبوا بالتفاوض مع حزب الله على الجنود الاسرى الجدد ؟؟؟ الم يكن مجديا لاسرائيل اكثر ان لا تجعل نفسها مكشوفة لحزب الله؟؟ ماذا لو كان الاسرائيليون قد افرجوا عن المناضل سمير القنطار ورفاقه اللبنانيين؟؟ الم يكن بمقدورهم ان يبتعدوا عن خانة الاحراج التي وضعهم فيها حزب الله مضطرا؟؟ ان المتابع لما تتناقله وسائل الاعلام الاسرائيلية يرى وبلا ريب بان هناك ملامة كبيرة توجه للحكومة الاسرائيلية ولقيادات الجيش على كل الاخفاقات التي تسببت بها السياسة الاسرائيلية التي قضت على كل امال السلام، واغلقت ابواب التفاوض امام اي محاولة لذلك، ولا زالت تصر على الاحتلال والتمسك بتبعاته وكانه حلم مقدس لا يمكن التخلي عنه، ها هي معادلة القوة تتغير بتغير توازناتها المفروضة على اسرائيل بارادتها او رغما عنها، وها هو الزمن يجلب ما لم يكن بالحسبان، وها هي الاستراتيجيات تبنى من جديد، واعتقد ان الاحتلال الاسرائيلي هو السبب الاصيل والوحيد في كل ذلك. اعتقد انه لا يمكن للاسرائيليين ان يستمروا في عدوانهم حتى النهاية وتحديدا ان المعادلات الحالية لا تسمح بتوسيع العملية العسكرية لتصبح حربا اقليمية لا يريدها الامريكيون المتورطون في العراق، ولذلك فلا ارى بد من ان يعمد الاسرائيليون حالا على فتح القنوات المباشرة او غير المباشرة للتخلي عن احتلالهم، والسعي وراء سلام يحفظ لهم جنودهم ومواطنيهم، ويحفظ للبنان وفلسطين شعوبهم ومقاتليهم في سبيل الحرية. لعلها تكون فرصة ثمينة وقد لا تتكرر في عودة اسرائيل الى طاولة المفاوضات المتكافئة والندية مع الاطراف العربية المعنية بعد ثبت عمليا وبشكل بات بان حزبا صغير كحزب الله قادر على خلط الاوراق وقلب الطاولة الاقليمية بطريقة تكشف ظهر الكثيرين بما الولايات المتحدة واسرائيل، وقد تكون الدول الاوروبية هي الدول المرشحة في لعب دور الوسيط الاحيائي لمبادرة سلام شاملة تعيد الحقوق الى اصحابها وتعيد اسرائيل الى رشدها الذي بات من الواضح بانه لا يدرك عمق التغيرات الاستراتيجية التي اثبتتها المواجهة الاخيرة مع حزب الله.  

شبكة النبأ المعلوماتية-السبت 22/تموز /2006 -24  /جمادي الاخرى/1427