هواجس النفس في شعر الشهيد السيد حسن الشيرازي

قصيدة (فراغ) نموذجا

الاستاذ علي حسين/ شبكة النبأ

ربما لا نختلف على ان النفس البشرية مؤثثة بهواجس واتجاهات متناقضة كثيرة، بعضها ينتمي الى حقل الايمان والآخر يصطف الى جانب الشك، ومن هذا التصور الذي قد يحسب الى جانب الحقائق في تكوين الانسان سينشأ صراع لا يمكن ان يغفله أحد وسوف يدور دائما وأبدا بين الشك وتوابعه من جهة وبين الايمان وتوابعه من جهة أخرى، ولعل نفس الانسان المبدع هي الأكثر تحسسا لهذا الصراع وهي الاكثر رصدا وتعرضا له في وقت واحد.

وفي قصيدة (فراغ) للشاعر الشهيد السيد حسن الشيرازي تبدو جلية ملامح الصراع بين المتضادات في النفس البشرية ويتعمق هذا الصراع لأنه ينبع من نفس رفيعة متحسسة لها مجسات تتفوق على غيرها من مجسات الانفس العادية، ولعل التميز في النفوس يكمن في درجة التحسس للمتناقضات التي تنشأ وتنمو بسرعة كبيرة في نفوس المبدعين، لذلك نجد ملامح الصراع تبدأ منذ الاستهلال الاول للقصيدة موضوع مقالنا هذا اذ يقول الشاعر:

( ويل نفسي!

آه.. من آهات يأسي!

أه.. من تيار حسي!)

 

الملاحظ هنا ان وتيرة التضاد تبدأ قوية وواضحة منذ مطلع هذه القصيدة، فمع ان النفس تعاني من اليأس الحاد إلاّ ان هناك ما يقابل هذا اليأس وهو التيار الحسي الشديد الذي تتمتع به نفس الشاعر، من هنا تبدأ بوادر الصراع بين عناصر الشك من جهة وبين عناصر اليقين من جهة ثانية، ويستطرد الشاعر في تعميق هذا التضاد في معمار فني يتشكل من وحدة الموضوع الذي تعالجه القصيدة بوضوح تام يدعمه حس شعري صادق، فيقول الشاعر:

( كلما أبصر لا يحسر طرفي !

كلما أقرأ لا يتعب طرسي!

كلما أعقل لا يملأ رأسي!

كلما أعرف:

كلّ الناس..

كلّ الكون.. لا يشبع هجسي!)

 

هكذا اذن نحن أمام نفس تصطخب فيها عناصر متناقضة، فهي ترفض ان تستكين وان يهزمها اليأس من جهة وتفشل القناعة أن تقيّد بحثها الدؤوب عن الحقائق من جهة اخرى، هناك توق شديد لما هو خفي وغامض على الرغم من ان اليأس يتسيّد أحيانا هواجس النفس، لكن طالما ان هذه النفس ليست عادية، فإنها ستصبح ابعد ما يكون عن الحيادية والصمت السلبي، والسبب يعود الى كونها تنتمي الى روح شاعر مرهف الحس وباحث دؤوب عن الخفايا وهو معبأ بهواجس لا تحدها حدود القناعة السلبية او الصمت او التحجر، انها نفس متوهجة تضطرم فيها هواجس الانسان المتضاربة بحثا عن الاشباع والحقيقة، ولذلك نجد ان الشاعر في قصيدته هذه يفصح بوضوح عن صغر مساحة الدنيا قياسا لمل يروم اليه من اهداف كبيرة اذ يقول:

( ليس للدنيا الى نفسي مساغ!

  كلما أبحث عنّي،

  أقتني جوع فراغات،

  وإلحاح ربيع!

  ونفايات صقيع!

  كلّ شيء في المقاييس كبير ورفيع

  في مقاييسي صغير ووضيع

  هائم أبحث في اللاّشيء

  عمّا ليس يوجد!)

 

اذن نحن امام نفس غير قابلة للترويض بل ثمة من الضغوط الكبيرة تقع عليها، وهذه الضغوط تتمثل في حالة البحث الدؤوب عن الجديد وعن الخفي في الوجود برمته، ويرافق عملية البحث، عدم النزول الى حالات النفس العادية، ان النفوس العظيمة المرهفة المثابرة هي وحدها من لا تستكين الى الهدوء السلبي الذي يحيّد طاقة الانسان ويسلب منه قدرته على الخلق والابداع، ومع ان نبرة اليأس والبؤس تتردد في ابيات ومفردات هذه القصيدة، إلاّ ان هذا يعد من ملامح ومقومات الصدق الفني الذي يشكل عمودا وركيزة مهمة في اقتراب الشعر من الحقيقة وبالتالي اكتسابه بطاقة الدخول الى ذائقة المتلقي بسهولة ويسر كبيرين، فنقرا لشاعرنا نبرة الصدق الواضحة في هذه الابيات:

( تائه عبر فضاءات بلا بدر وشمسِ!

  عالق بالقدر الضارب،

  في يومي وأمسي!

  لست  أمسي،

  دون أن أسأل نفسي:

  أين أرسي؟

  كيف أرسي؟

  ومتى؟

  من أي برج جاء نحسي؟)

 

ان نبرة الضياع تتأجج في المقطع السابق وان الضغط المسلط على النفس هائل وكبير، لكن ثمة الصدق الكبير الذي تنتمي اليه نفس الشاعر، وبهذا الصدق سوف ينهزم اليأس ويصل الشاعر الى ضالته على الرغم من التذبذب المؤلم بين الاضداد الهائلة التي تتقاذف نفس الشاعر ليصل شاعرنا الى مرفأ الحقيقة، مرفأ السكينة المطلقة حيث يختتم قصيدته الرائعة هذه بالابيات التالية:

( يا إلهي !

  يا منى هجسي وهمسي!

  انت قد سوّيتني من فيض قدس!

  فاكتنفني،

  قبل ان يبلعني شيطان رجسي!

  فكما فجرت غرسي!

  وكما وسّمت حسي!

  أنت مكنّي،

  فقد طوقني طوفان يأسي)

 

وهكذا لاحظنا تلظّي نفس الشاعر الشهيد في غياهب الفراغ وهي تمور في لجة الهواجس والاحاسيس ولكن في آخر المطاف هناك مرفأ الامان وشاطئ الحقيقة المطلقة الذي يظل هدفا ابديا للنفوس العظيمة وهي تتعامل مع الوقائع والحقائق الوجودية والكونية كما تعاملت معها نفس شاعرنا الشهيد السيد حسن الشيرازي بصدق كبير شكل نجاحا واضحا لقصيدته موضوع هذا المقال. 

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء 19/تموز /2006 -21  /جمادي الاخرى/1427