التطور والتقدم الحضاري هدف تسعى إلى نيله كل الأمم والشعوب
للوصول إلى أسمى مراحل التحضر والتمدن، ولا يقاس التطور الحضاري
بمعايير التقدم في العلوم التقنية أو المعلوماتية فحسب بل بمعايير أهم
تتعلق بمدى رفاهية المجتمع وسعادته، حيث ان التقدم العلمي والتطور
التقني هما وغيرهما وسيلة من وسائل تحقيق الرفاهية والسعادة للمجتمعات
من خلال توفير كل الوسائل للفرد حتى يتمكن من نيل سعادته الكبرى،
والمتمثلة بضمان حريته الشخصية في إطار قيم المجتمع التي رسمتها له
قيادته، ومن ذلك فان الأساس في تقييم تحضر وتطور الأمم والمجتمعات هو
مدى ضمانها لحريات أفرادها وحمايتها من التعدي، وهكذا فكل الأمم
والمجتمعات تتبارى في تقديم أفضل الضمانات والوسائل لحماية أفرادها
حتى غالى بعض من تلك الشعوب إلى التعدي على حقوق الشعوب الأخرى سعيا
لضمان سعادة أفرادها، وبما ان القانون هو احد الوسائل لحماية أفرادها
في تنظيم آلية المحافظة وضمان الحرية الفردية، فان البلدان اهتمت بهذا
الجانب، وفي بلدنا الذي يملك إرثا حضاريا كبيرا نرى ان المشرع العراقي
أعطى الكثير من ضمانات حرية الأفراد، وفي الوقت الراهن تظهر التشريعات
بصورة متعددة تسعى بمجملها لتعزيز مفهوم ضمان الحرية الفردية وخصوصا ما
جاء في القوانين التي تتعلق بالجانب الجزائي من المنظومة القانونية
العراقية، إذ أشار المشرع في عدة نصوص من قانون أصول المحاكمات
الجزائية إلى نتائج التحقيقات التي يجريها قاضي التحقيق والسلطات
التحقيقية المختصة المشكلة بموجب القانون، وكذلك الأحكام التي تصدرها
محاكم الجنايات والجنح والمحاكم الأخرى المشكلة تشكيلا صحيحا على وفق
القواعد الدستورية،حيث أعطى لقاضي التحقيق ومحاكم الجزاء الأخرى السلطة
في إصدار قرارات حاسمة تجاه القضية في عدة مواضع وعند انتهاء التحقيق
تتمثل بقرارها أما بالإدانة ان توفر الدليل الكافي أو الإفراج ان لم
يكن هناك أي جرم أو عدم المسؤولية ان وجد المانع القانوني، و في هذه
النتائج نرى ان بعض مفرداتها لم يتمكن عامة الناس من فهمها كذلك البعض
من ذوي الاختصاص سواء كانوا قضاة او المحامين او الحقوقيين مما دعانا
إلى التصدي إلى تلك المفاهيم وبيان الآثار القانونية التي تترتب عليها
ومنها مفهومي البراءة والإفراج وكذلك للسعي في نشر الثقافة القانونية
وكما يلي :
1. البراءة مصطلح جاء ذكره في أحكام قانون أصول المحاكمات
الجزائية وبموجبه يعود الفرد إلى ما كان عليه قبل الاتهام من براءة
ذمته وساحته مما وجه إليه من اتهام، حيث ان نص الفقرة (أ) من المادة
(130 ) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل أعطى
قاضي التحقيق أو السلطة التحقيقية التي تعمل على وفق أحكام القانون
أعلاه صلاحية غلق الدعوى نهائيا ورفض الشكوى ان كان الفعل المنسوب إلى
المتهم لا يعاقب عليه القانون فيكون الفرد حينذاك بريئا ولم يرتكب أي
فعل يعاقب عليه القانون، كما وان محاكم الجنايات والجنح ومحاكم الجزاء
الأخرى المختصة والمشكلة تشكيلا صحيحا بموجب القانون لها ان تصدر
قرارها بالبراءة اذا اقتنعت بان المتهم لم يرتكب ما اتهم به، وان الفعل
المنسوب إليه لا يشكل فعلا مخالفا لأحكام القانون على وفق ما جاء
بأحكام الفقرة (ب) من المادة 182 أصول جزائية و على ان يكون القرار
الصادر من المحكمة قد أصبح نهائيا واكتسب الدرجة القطعية وأصبح باتا
على وفق التوصيف والتعريف الوارد في نص البند (2) من المادة( 16 ) من
قانون العقوبات رقم111 لسنة 1969 المعدل الذي ينص على ان ( يقصد بالحكم
النهائي أو البات في هذا القانون كل حكم اكتسب الدرجة القطعية بان
استنفذ جميع أوجه الطعن القانونية أو انقضت المواعيد المقررة للطعن
فيه) والذي بموجبه تنقضي الدعوى الجزائية نهائيا على وفق أحكام المادة
(300) من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ونخلص إلى ان من صدر بحقه
قرار بالبراءة واكتسب القرار الدرجة القطعية سواء بالتصديق عليه من قبل
محكمة التمييز أو انقضاء المدة القانونية للطعن به ان لم يكن من
القرارات الواجبة التمييز لا يجوز ان تتخذ بحقه أي إجراءات أخرى على
عكس قرار الإفراج والذي سيرد شرحه في أدناه.
2. الإفراج هو المصطلح الذي يدل على إخلاء سبيل المتهم من
التوقيف وغلق الدعوى بحقه ان لم تجد المحكمة ما يكفي من أدلة تدينه،
حيث ورد في الشق الأخير من الفقرة (ب) من المادة 130 أصول جزائية (اذا
كانت الأدلة لا تكفي لإحالته فيصدر قرار بالإفراج عنه وغلق الدعوى
مؤقتا مع بيان أسباب ذلك ) عندما يكون القرار صادرا من قاضي التحقيق،
وكذلك ما ورد في نص الفقرة (ج) من المادة 182 أصول جزائية ( اذا تبين
للمحكمة ان الأدلة لا تكفي لإدانة المتهم فتصدر قرارا بإلغاء التهمة
والإفراج عنه ). وذلك عندما يصدر القرار من محاكم الجنايات والجنح
والمحاكم المختصة الأخرى ومن خلال هذين النصين نرى ان قاضي التحقيق
ومحكمة الموضوع تفرج عن المتهم على الرغم من وجود دليلا إلا انه لا
يكفي لإدانته، لان القانون العراقي وكما أسلفت يسعى لتوفير أفضل سبل
الحماية لحرية الأفراد فوجود بعض الأدلة الضعيفة التي لا يمكن ترجيحها
على حرية ذلك المتهم وفرض العقوبة عليه لان المصلحة العامة تقتضي
احترام حرية الأفراد ولكن هذا القرار لا ينهي الموضوع برمته بل يعد
الغلق مؤقتا لان المجنى عليه وذويه أو الادعاء العام الممثل لهيئة
الشعب له الحق في البحث عن أي دليل آخر يدل على ارتكاب المتهم للجريمة،
فان توفر أعطى القانون الحق بفتح التحقيق مجددا بحق ذلك المتهم. ولضمان
استقرار الأوضاع لم يترك المشرع الوضع على إطلاقه بل قيده من خلال جعل
الفرصة قائمة خلال مدة سنتين اذا كان قرار الإفراج صادرا عن قاضي
التحقيق أو أي سلطة تحقيقية أخرى تعمل على وفق أحكام قانون أصول
المحاكمات الجزائية، وبعد مضي تلك المدة يمنع القانون اتخاذ أي إجراء
بحق المتهم المفرج عنه ويكون القرار نهائيا وتكون المدة سنة واحدة اذا
كان القرار صادرا من محكمة الموضوع ( محاكم الجنايات والجنح والمحاكم
الجزائية الأخرى ) وذلك على وفق أحكام الفقرة (ج) من المادة (302 )
أصول جزائية ويكون ذلك الكم بمثابة حكم البراءة وتنقضي به الدعوى
الجزائية.
3. من خلال تطبيقات القضاء لاحظنا وجود قصور في فهم محتوى تلك
الأحكام من قبل المختصين إذ يجنحون إلى مخالفة تلك النصوص وفتح التحقيق
مجددا بحق من صدر بحقه قرار بالبراءة أو الإفراج من خلال الاستعانة بنص
المادة (303) أصول جزائية التي نصها ما يلي ( تجوز العودة إلى إجراءات
التحقيق أو المحاكمة ضد المتهم الذي انقضت الدعوى الجزائية عنه اذا ظهر
أو حصل بعد صدور الحكم أو القرار البات أو النهائي فيها فعل أو نتيجة
تجعل الجريمة التي حوكم المتهم عنها أو اتخذت الإجراءات ضده بشأنها
مختلفة في جسامتها بضم هذا الفعل أو النتيجة إليها على ان يحسب له عند
الحكم عليه ما سبق ان حكم عليه به من عقوبة ) وبقراءة بسيطة لتلك
المادة سنرى انها تتعلق فقط بالإحكام التي تصدر بالإدانة، إذ لا يمكن
تصور الإفراج في مصطلح تشديد العقوبة لان النص يتطلب ان يظهر فعلا أو
نتيجة تجعل الجريمة التي كانت أساس محاكمة تشديد العقوبة لان النص
يتطلب ان يظهر فعل المتهم أو التي اتخذت ضده الإجراءات بموجبها مختلفة
الجسامة من خلال ضم هذه النتيجة أو الفعل، و المثال على ذلك اذا تم
الحكم على شخص بموجب أحكام المادة 412 من قانون العقوبات التي تتعلق
بالاعتداء وإحداث عاهة وبعد ذلك الحكم وعلى الرغم من اكتساب القرار
الدرجة القطعية ومرور المدد المشار إليها في الفقرة (2) من البحث أعلاه
ومن ثم توفي المجنىعليه، وبسبب الفعل الذي قام به المتهم المدان، فعند
ذاك تكون العقوبة اشد لأنه يصبح تحت طائلة أحكام القتل العمد، وفي هذه
الحالة فقط تتم الإعادة ومن ذلك يتبين إنها لا علاقة لها بالذي صدر
بحقه قرار الإفراج أو البراءة والسير على خلاف ذلك، أراه خرق للقانون
وتعدي على حقوق الأفراد التي كفلها القانون. ولذلك ومما ورد أعلاه أرى
ان البراءة والإفراج مصطلحان مختلفان من حيث اثر هما ولكنهما يتفقان في
كونهما من وسائل القانون في حماية الحرية الفردية لأبناء المجتمع.
|