أحابيل المساء

قصة: سعد محمد رحيم

 

   ـ 1ـ‏

خمس دقائق، لا غير، تفصلني عن درجة التوقد.. عن التحوّل والخلاص.. ستأتي.. لا شك أنها ستأتي، فهي التي اختارت الوقت والمكان.‏

ـ موعدنا قرب محطة الوقود

هكذا اقترحت.. لا يهم.. المهم أنها ستأتي، ستطل من أعماق الزحام بقوة الوهج الذي فيها، وها أنا ذا بكليتي متأهب لأن أتلظى!.‏

 

ـ 2 ـ‏

 قد أكون على يقين قاطع من أنها ستأتي، ولست في ريب من الوقت والمكان، فهي التي أصرّت.‏

 ـ انتظرني، قرب محطة الوقود.

ـ غريب.. لم؟.

كركرت.

ـ من أجل أن يكون البدء حريقاً.

اللهب في صدري يتحشرج.. يتحفز للانقضاض على لوثة الماضي وهشيم غابته الدكناء.. عبر الزجاج الأمامي للسيارة أراقب المارة، أو / أترقب النار التي ستشق صفحة الجليد وتحيل المدينة والعالم.. الأيام والساعات.. المشاعر والتصورات إلى ضرام رائع.‏

 

ـ 3 ـ‏

 ساعة فاجأتني:‏

ـ ألو .. مساء الخير.

كدت أَسقط سماعة الهاتف من فرط الدهشة.‏

لفحني صوتها..سرى دفئاً لاهياً يرج بلادة الدم والخلايا، حتى إذا ضحكتْ تحطمت أوثان كبيرة، وصارت الأشياء غير الأشياء، والناس غير الناس، وأناي غير أناي.‏

داخل سيارتي المركونة إلى جانب الرصيف مازال البرد والتوجس. والرعشة.. رعشة القلب بسبب البرد أو التوجس.. ستأتي لتمحق البرد، وتجعل من التوجس أنغاماً وتحتوي الرعشة..‏

ستكون الرعشة ابتهاجاً وأغنية.‏

مازلت أرتعش، والدقائق الخمس انقضت، والزحام جليد متحرك تحت بقايا الأشعة المراقة لشمس تنحدر.‏

قد تأتي .. أو لا تأتي.‏

 

ـ 4 ـ‏

 أغمضت عيني، ولم أفتحهما إلاّ بعد مرور خمس دقائق أُخر. قلت في سري:

ـ خمس دقائق ليست بمعضلة في مقابل ذلك الضياع المديد لسنوات العمر.

ستأتي.. أريدها أن تأتي.‏

أيعقل أن تخلف موعدها الأول معي؟ شهور طويلة وهي تتمنع.. توغل في اللعب.. تمسك الطرف الآخر من الخيط المتوتر، وتظل بعيدة مثل حلم من زمن الطفولة.‏

بيني وبينها مسافة تردد وانجذاب، وأسئلة محيرة، ورغاب صاهلة، وأشياء قابلة للاشتعال.. بيني وبينها عصر من الحروب، وبقايا شتاءات أليمة في الروح، ووعود ارتحالات لم تتم. وكل دقيقة تمر طوق يصغر ويضغط ويهرش العظام.. كل دقيقة فتك لا يرحم، وخيبة واستعادة للخسارات‏.

ـ ستكون هناك.

قالت. ـ قبلي حتماً.

أكدت. ـ وسأجيء وأفتح باب سيارتك وأدخل.

 ضحكت. ـ فتنطلق.. هنا استحال ضحكها إلى همس كالفحيح.. كاللهاث بعد الشبع.

 ـ وحينها ستكون الدنيا ملك يديك.

صوتها مشحون بكهرباء صادمة يجتثني من ليل الزنازين والهوام وشرك الأسئلة المنهالة مع الشتائم، ومع الصفعات والركلات والبصاق.. دفء صوتها وسلام شاسع.. نكاية بتلك الظلمة المزحومة بالصقيع والوجع.. رجاء صوتها.‏

ـ سيكون البدء حريقاً.

ـ وماذا بعد الحريق؟.

ماذا قلت؟.. لست متأكداً.. لعلها قالت "الشتاء" أو "الشقاء"، أو تراها قالت "الشفاء" لعلها تلفظت بكلمة أخرى لم أستطع التقاطها.. همهمة منغمة وانقطع الخط، فشهقت.‏

أية نبرة واثقة رصينة جسور تلك التي تمتلك؟. كيف سيدتي بعد هذا المرض الطويل الغامض، الاعتباطي، العسير، المرهق، الفاجع.. كيف؟. وبدأت أدرك "كيف؟."

ستقبل، في أصابعها أوار اللهفة، والوعد الموصول بالنعيم.. ستفتح باب السيارة لتزيح البرد والوحشة والارتياب.‏

هل ستأتي؟‏.

 

ـ 5 ـ‏

 هي مجمرة الحنين في ليل المطر والانكفاء، وإنْ أتت سأخرج من جلدي الفار من عرس السياط.. جلدي المتقرن الذي ملَّ الرماد والسخام وعطن الزوايا المعتمة..‏

قلت لها: ـ أنقذيني من ذاكرتي.. ذاكرتي أرض خراب.

اعترضت: ـ لا .. بين الذاكرة والأحلام أنت.

قلت: ـ بين الذاكرة والأحلام ليس إلاّ التيه.

قالت : ـ راوغ الموت لتكون .. بين ذاكرة حاضرة وأحلام تمور ينبغي أن تكون، وإلاّ ما جدوى مجيئي؟. ‏

 

ـ 6 ـ‏

كالزقزقة كان صوت الباب وهو يفتح.. كالسحر يقرِّبك من حالة الموت قبل أن يرتد بك. وشعرت أن روحي تُخطف وتلوب.‏

التفت..ياه.. كدت أصرخ.. من تكون هذه المرأة الضاجة بالألوان والغرور!؟.. بإصبعها أشارت إلى الأمام بعد أن جلست باسترخاء إلى جانبي.. يا لوقاحتها.. كل ما فيها فائر واستفزازي ومريب‏

ـ كيف تجرؤ على البقاء هنا؟ عود ثقاب مهمل يمكن أن تفجر محطة الوقود.‏

ـ من أنت؟‏

ـ عجباً.. شهور طويلة وأنت لا تكف عن المطاردة، والآن تقول..‏

ـ لستِ هي .؟‏

ـ لستُ من؟‏

ـ تلك التي وعدتْ أن أنتظرها قرب محطة الوقود.‏

ـ أحمق .. سر‏

ثم صارخة: ـ سر.. سر.‏

راحت تحثني .. ما كان علي إلاّ أن أرضخ.. عاطت السيارة وهي تثب.

كما لو أنني هارب من الوحشة والبرد والأسئلة إلى اللامتعين المحجوب، المجهول. ما وراء الآن، وهنا. بعد ساعة أو حين من الدهر. هناك، في الضباب والدوامة والجرح.‏

قالت: مازلت كما عهدتك تستجير من الوهم بوهم آخر.‏

ـ أتعرفينني سيدتي؟‏.

الظلام محتقن بالزمهرير، والرماد على لساني.. في حلقومي.. في الشرايين مخلوط بدمي.. رماد ماسخ، فج بارد، وخانق. استدرت بالسيارة حول ميدان خال من المارة والسيارات وتوقفت.. أبصرت كتلة مرعبة من نار تتمايل مثل درويش هائم.‏

ـ ما تلك !؟‏

ـ محطة الوقود.‏

ـ من أحرقها؟‏

ـ سيدة وهمك.‏

ـ أخبريني.. من أنت؟‏

ـ ها أنت مصر على التنكر لذاكرتك.‏

فكرت أنني ربما كنت ضحية مقلب أعدته لي المرأة / الحلم ـ امرأتي ـ مع صديقة لها .. صحت بها:‏

ـ أرجوك اخرجي.‏

هزت رأسها، ثم راحت تقهقه.. تطاير رذاذ السخرية.. الرذاذ رشق وجهي.. تولاني غضب هادر.. رفعت يدي لأصفعها.. تراجعت برشاقة.. فتحت الباب وانزلقت إلى الخارج وهي تضحك.. وبقي صدى ضحكتها يتردد بعد أن أخفاها منعطف أول شارع فرعي.‏

وألفيت كفي يتقلص في الفراغ ومفاصلي تتشنج.. تهالك جذعي على المقود وارتطمت جبهتي بزر المنبه فانبعث صوت حاد.‏

 

 ـ 7 ـ‏

 بعد لحظات، أو بعد زمن طويل ـ لست متيقناً ـ سمعت نقرات أصابع على زجاج النافذة الجانبية.. التفت برأس خاو... رأيت امرأة منحنية تومئ لي كي أفتح الباب، ووراءها كانت محطة الوقود عامرة كما عهدتها، وأنا في مكاني حيث أنتظر امرأتي.‏

كيف عدت؟ من أعادني ؟.. حركت إصبعي بإشارة رفض واعتقدت أنها من بنات الهوى.. لم ترتدع..‏

فتحت الباب ودلفت إلى الداخل.‏

كان شعرها أحمر صارخاً، وطلعتها جامدة لا تخلو من قبح.‏

ـ أنطلق.‏

ـ من أنتِ.‏

ـ ستعرف في ما بعد..انطلق.‏

ـ لماذا ؟‏

ـ محطة الوقود قد تحترق.‏

قلت في سري ( إنها مجنونة).. همست ببرود:‏

ـ أنت المجنون .. انطلق.‏

تذكرت المسدس الذي أخبئه في درج سيارتي.. خطر لي أن أسحبه وأهددها به لتغادر.. ضحكت بتهكم .. ضحكت طويلاً فلم أفعل.‏

انطلقت، وبعد قليل سمعت دوياً هائلاً، ورأيت قطعاً نارية تتطاير وتسقط في أماكن مختلفة من المدينة... قالت:‏

ـ ألم أقل لك ؟‏

أوقفت السيارة وصحت بوجهها:‏

ـ أنت التي أحرقت المدينة.‏

وهممت أن أمسكها من ياقتها فتهاوت يدي في الفراغ..‏

لا أدري كيف اختفت المرأة؟‏

 

ـ 8 ـ‏

 نظرت حولي.. أمسى الشارع خالياً، وتحت أعمدة النور الشبحية كانت الكلاب والقطط وحدها تخطر.. المدينة نائمة، ومحطة الوقود غارقة في الظلام.. أدركت أن امرأتي لابد أن تكون قد أخلفت وعدها تاركة إياي للبرد والكوابيس. ومن يدري فلعلني لم أستوعب جيداً كلماتها التي بها حددت الزمان أو المكان، أو الزمان والمكان معاً.. حاولت أن أتذكر تقاطيع وجهها.. لون عينيها.. تسريحة شعرها فلم أفلح.. كانت هي الأخرى قد انسلت من سراديب ذاكرتي وتبددت .. نظرت إلى ساعتي.. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل.. أدرت مفتاح التشغيل لأغادر المكان وأنا محبط وبردان وعلى حافة المرض والبكاء.‏

تهيأ لي أن امرأة تجلس إلى جانبي بصمت.. لم أجرؤ على النظر إليها، وتسلطت على ذهني فكرة أن محطة الوقود ستنفجر لتقذف سيارتي في الفضاء.. لثوان صار هذا الأمر حدساً مستحوذاً، ملحّاً فوجدتني أضغط بقدمي على دواسة البنزين بقوة، وأجعل السيارة تسرع بي في الطريق المعتم.. طريق الهروب.‏

راحت سيارتي تدور حول محطة الوقود.. صار الشارع دائرة مغلقة حول بنائها الفسيح المضاء.. ربما أضيء تواً، والمرأة التي معي تضحك مني مستخفة، وباحتقار تمط شفتيها.‏

بيد مرتعشة عصبية فتحت الدرج وقبضت على المسدس وصوبته نحوها وضغطت على الزناد.‏

لم تكن ثمة امرأة، ولكن محطة الوقود انفجرت بدوي هائل، وزحفت النيران، تتلوى وتئز مثل ثعابين مستفزة، وأنا في فلكها الحارق المميت أدور، وأدور.   

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 3/تموز /2006 -/جمادي الاخرى/1427