بقلم:
حسن عبد الرزاق
يعتمد القاص إبراهيم سبتي على الحكاية الشعبية ذات البعد الواقعي
أو الخرافي في صياغة قصصه الثماني والثلاثين بمجموعته( ماقالته الضواري
في حداد الأنس ) ، مستغلا السطوة النفسية لهذا النمط الفلكلوري من
الأدب على المتلقي بحكم ارتباطه زمنيا بعالم ماض غير معاش من قبله ،
تثير ملامحه المبهمة المخيلة وتجنح بها إلى أمكنة وأشخاص هم اقرب إلى
الخيال من الواقع ، وهنا يكمن سر الانجذاب نحوهم والاشتياق للولوج إلى
عوالمهم غير المألوفة.
غير إن القاص هنا لم يتجه إلى محاكاة البناء التقليدي الشائع لهذه
الحكايات وانما ابتكر اسلوبا حداثويا على مستوى اللغة والتقنية من اجل
إعطائها صفة المعاصرة إضافة إلى معالجاته الواعية للمواضيع وتحميلها
مضامينا ذات تماس بواقع اجتماعي او انساني يعيشه.
ورغم تراجيدية الأحداث التي أدت إلى هيمنة حالة من السوداوية على
اجواء الكثير من القصص فان ابراهيم سبتي استطاع أن يستثمر خصائص
الكتابة الدرامية المتمثلة بالترقب والتوتر والتشويق لجعل المتلقي
منشدا منذ الاستهلال وحتى النهاية إلى اجواء القصص حيث
كثيرا مايبدا السرد برسم صور داخلية او ظاهرية تتسم بالغموض
لشخصياته المحورية مقترنة بصور مماثلة للاماكن التي تمارس فيها أفعالها
ثم يجنح بعيدا عن كل التوقعات التقليدية من خلال سبك مشاهد ذات بعد
بصري تنطوي على غرابة ودهشة ، او الذهاب في استغوارات عميقة للشخصيات
من اجل خلق تبريرات مقنعة لدوافعها السلوكية التي يبنى عليها الحدث
اساسا .
ففي قصته التي اتخذت المجموعة منها عنوانا، يطل علينا في الاستهلال
رجل عصري في كل تفاصيل مظهره الخارجي فهو (يجلس امامك في المقهى حاملا
صحيفة)و(يمشي بمعطف انيق)و(تفوح منه اغلى انواع العطور).يمارس هذا
الرجل نوعا من السلوك الذي يقترب من النمطية حيث لااختلاف في ظاهره عما
هو مالوف لكن هاجس خفي قد ياخذ دلالة غيبية يدفعك إلى السؤال عن حقيقته.
ومن اجل ان تصل إلى الجواب الذي يروي الفضول او ان السارد يوصلك إلى
ذلك يجب عليك الاستعانة بالمدخل الأول ( استخدم القاص مثل هذه التقنية
)والمدخل الثاني لكي يقودك التأويل المسبق إلى ان هذه الشخصية سوف تقوم
بفعل بطولي ما يحتسب لصالح البلدة المهددة من قبل الضواري .الا ان
السارد مع ذلك يمارس عملية تضبيب الحقيقة من خلال الاختفاء المفاجئ
للشخصية مما يستدعي الاستمرار في متابعة السرد بحثا عن مصيرها وهذا
الامر بحد ذاته يقودنا إلى احداث وشخصيات اخرى توا شجت مصائرها مع مصير
هذه الشخصية المهمة.
وفي قصص اخرى يفتتح السرد بوصف للحالة الآنية للمكان والفعل البدني
او النفسي الذي تكون عليه الشخصية فيقود هذا الوصف إلى التخمين بنهاية
لاتفترق كثيرا عن دلالات الاستهلال ويحصل هذا بالفعل لكن بعد ايهامات
عدة تتولد على أثرها استنتاجات لحظوية خلال مدة التلقي مثلما حصل في
قصة( الشاهد والمطر) .
قد خلق القاص حالة من التنافر واللاانتماء بين شخصياته بسبب عقد
نفسية مختلفة منها متعلق بطفولة تخللت القسوة والرعب زمانها البريء كما
لدى شخصية الابن في قصة (حافة الزمن )ومنها ماله علاقة بأحداث حياتية
خاصة كما يتجسد بشخصية الرجل في قصة
(انشطار ذاكرة) والمتسول في (ليل راكض).وقد كان لهذه العقد اسباب
خارجية متأتية من تأثير البيئة وليست اسباب داخلية مما يوحي بوقوع
الشخصيات ضحية لاضطهاد اجتماعي مورس ضدها .وفي كل الأحوال تنوعت
الأنماط الانسانية على تنوع القصص واختلفت في انشغالاتها الذاتية غير
ان مأساوية مصائرها كانت قاسما مشتركا بينها وهذا مايفسر تشابه
المناخات النفسية لها والذي انعكس على اسلوب البناء الفني لاغلب قصص
المجموعة.
أما من ناحية المكان الذي يمثل عادة العنصر الأكثر تشويقا وإثارة
للخيال في الحكايات الخرافية فقد ضاعت ملامحه الواقعية وارتباطه
التاريخي بفترات الزمن المختلفة وظهر في جميع القصص مكانا مفترضا
مجهولا ساعد مخيلة المتلقي على ان تنشط في البحث عن شكل له.
ان إشارات السارد إلى المكان وتوصيفاته له كانت ذات طبيعة عمومية
فهو مرة (بلدة) وأخرى (شارعا ) وثالثة ارض ما وبسبب هذا التعميم ضعف
تأثير المكان على أفعال الشخصيات ودوره في تحديد طبيعة الأحداث في
الحكايات التي اقتربت اكثر من سواها إلى الواقعية .فالمكان ليس مجرد
رقعة جغرافية تحتضن الناس والاشياء وانما هو الإطار الحاوي للقيم
والأخلاقيات والأفكار والتقاليد والسلوكيات التي تمارس من قبل المجتمع
الذي يؤسس وجوده في تلك الرقعة وهذه بمجموعها تدخل كعناصر مؤثرة في
التكوين السيكولوجي للفرد الذي يعيش بها .
لقد استطاع ابراهيم سبتي في مجموعته هذه يؤسس لأسلوب خاص به رغم
تجاوره مع أساليب اخرى سبقته في هذا المنحى(منحى إعادة صياغة الحكاية
الشعبية بلغة معاصره) وقد نجح في ذلك بعد ان حافظ على خصوصية خطابه ذي
المضمون الواقعي وأنماط سرده وحيوية اللغة التي كانت قصصية خالصة.
* ماقالته الضواري في حداد الأنس هي الجموعة الثانية للقاص إبراهيم
سبتي وقد صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 2002. |