وردة اللوكيميا

                                             قصة: علي حسين عبيد 

     الممر الأبيض يغص برائحة الدواء، ابواب الردهات متقابلة، والغيوم تخفي وراء لونها البني وجه السماء، توافذ الردهات تطل على حدائق غنّاء مربعة الشكل وطفلتي شذا ذاوية على سرير المرض بوجه ملائكي، غير ان الشحوب طوقه وتغلغل في مساماته فبدأ وكأنه ينتمي الى العالم الآخر رفعت يدها النحيفة واشارت لي باصابع كفها ( بابا خذني اليك ) هبطتُ بهامتي على وجه شذا قبلتها على جبينها، افزعني برودة جسدها واحدثت في روحي رعشة خوف مفاجئة، حملتها بين يدي، ما شعرت بوزنها ، كأنها كومة قطن ضئيلة ، فتحت عينيها وابتسمت لي، تمتمت بكلمات واهنة لم افهمها ، كانت امها تنظر الي بعينين دامعتين ، وقلب رهيف مضت خمسة ايام وشذا تنام في مكانها هذا بلا جدوى النهار يزحف على جسدها بثقله والليل يمتص عذوبتها والق روحها هذا أمر لا يطاق ايها الطبيب ، عليك ان تجد حلاً انا لا استطيع ان اتخلى عن ابنتي الوحيدة انت لا تدري كم تعبت حتى حصلت عليها، ( سرطان الدم او اللوكيميا ) هذا امر لا يهمني البتة، عليك ان تفهم انني لن اغادر المستشفى إلا ومعي شذا بكامل صحتها، لا تستغرب كلامي، انت حتماً . تعرف معنى محبة اب لطفلته الوحيدة ، لذلك لا اقبل اعتذارك، ابداً، لا تقل لي ان هذا المرض لعين وغادر، لا انا لا اتفق معك في هذا عليك ان تجد حلاً .

وضعت طفلتي وجهها لصق رقبتي، شعرت بأنها تشم رائحة جسدي وتضغط بيدها على رأسي خطوت بها الى زجاج النافذة، اردت ان امنحها ( فرصة اخيرة من الحياة ) وشيئاً من الحرية الفضاء مفتوح يختلف عن فضاء الردهة، ارض خضراء وزهور غاية في التوهج واكثرها جمالاً وعذوبة تلك الوردة الحمراء، آه ما اشد جاذبيتها، لاحظت ان طفلتي تنظر الى الوردة وتشير نحوها باصابع كفها النائمة، طرقت على الزجاج فانتبهت شذا وافاقت كما لو انها استردت نصف عافيتها، وبدت وكأنها تريد الوصول الى الوردة قرأت رغبتها الشاحبة في عينيها المنطفئتين انا اعرف طفلتي لكن الزجاج حاجز مرير يجعلك ترى ما تحب ولا تحصل عليه الطقس بارد هواء اقرب للزمهرير يجوب فضاءات الحدائق والخروج الى الوردة مجازفة لا تسمح بها حالة شذا انها كما يبدو امنيتها الاخيرة ، هكذا حدست ، انها ترغب في الحصول على الوردة في ساعات حياتها الاخيرة ، ولكن عليك ان لا تنسى ايها الطبيب ، انني ارفض السكينة او الترويض بالحلول الوسط ، هل يمكن ان اخرج بها الى تلك الوردة الحمراء التي تنهض بجمالها بين حلة الزهور التي تلون وجه الارض ولكن ارجو ان تجد حلاً ..

نعم انك قادر على تطبيب طفلتي لا تتذرع، لا تختلق اعذاراً باهته، الوردة تصيح لطفلتي، انت تسمع صوتها مثلما اسمعه انا وطفلتي برغم اغفاءتها على صدري الا ان صوت الوردة هو الوحيد الذي يجعل عينيها ترمشان بهدوء وامتنان، سأخرج الآن بها الى الحديقة، لا عليك، لا تمنعني، انا اعرف ان الهواء قارس ومميت لكن شذا تريد الوصول الى الوردة، الم تسمع صوتها ؟ ألم تر كف طفلتي وهي تشير اليها ؟ ايها الطبيب الأمر لا يتطلب اكثر من لحظات، سأجعلها تشمها فقط ، تستنشق اريجها واعود بها الى ( دفء الردهة ) مثل البرق، هل لديك حل آخر؟ طفلتي هل تتجاوز محنة ( اللوكيميا ) هل لك ان تجيبني بصدق، عيناك ترمشان بقلق وارى فيهما شيئاً من الخديعة او انك تحاول ان تعطيني أملاً كاذباً بأنها اليوم لن تغادر الحياة، وتشرح وتسهب بالكلام، لماذا تريد ان تقنعني بأن ما حدث لها مرض غادر مثل الذين زرعوه في ارضنا ثم مذا تعني بكلمة ( اليورانيوم ) انا لم اسمع بها مطلقاً ولا اريد ان اسمع، ثم كيف اقتنع بأن مفردة (لا افهمها ) يمكنها ان تأخذ مني ابنتي الوحيدة بعد ذلك تضاف مفردة ( المنضب ) وهذه ايضاً لا افهمها، انا قد افهم السكين مثلاً، الرصاصة، السم ، وسائل معروفة للموت، ولكن ما تقصه علي وتحاول ان تقنعني به احسبه شيئاً غامضاً او ربما تحايلاً علي او محاولة لتجاوز اخفاقك في اشفاء طفلتي.

فتحت باب الردهة، هب علي شذا هواء الممر البارد، لم يرجف جسمها، عيناها مغمضتان وقلبها ينبض ببطء شديد، ركضت بها خارج الممر، طوقني برد عجيب، ابنتي فتحت عينيها بهدوء غريب، توجهت بها الى الحديقة، الى الوردة الحمراء، وقفت فوقها تماماً ، كانت شذا تنظر اليها وقد شع بريق مفاجئ بعينيها ، رفعت كفها كما لو انها ترفع جبلاً، كانت حركة يدها بطيئة بطريقة لا تصدق (هذه الشعلة المتوقدة كيف تنطفئ هكذا )اشارت الى الوردة، جلست بابنتي على الارض الخضراء الى جانب الوردة ، مدت يدها بهدوء جليل وتعب ممض، كورت اصابعها حول عنق الوردة لكنها لم تقطفها، قربتها الى الوردة وجعلت انفها لصق اوراقها الحمر اللامعة، شمت الطفلة اريج الوردة، تورد خداها فجأة وسرت في جسدها حرارة العافية، تركتني طفلتي، نهضت من حضني، كورت كفيها على الاوراق الحمر واستنشقت قلبها بعمق ، سرب من الفراشات الملونة كلل رأسها، عصافير وحمائم بيض، سرب نوارس كلها نزلت على طفلتي وشاركتها احتفالية البقاء على قيد الحياة انتصبت بجسدها وشعر رأسها يهفهف في فضاء الحديقة، ركضت شذا بفرح عجيب على الحشيش وبين شتلات الزهور والآس، يا إلهي لقد ( عادت ابنتي الى الحياة ) لقد هزمت الوردة الحمراء حماقة ( اللوكيميا ) وها هي ابنتي تستعيد حيويتها وحبورها وانشاءها وزهوها ورغبتها الهائلة في التواصل مع الحياة فرحت بشدة وانا اتطلع الى شذا كم كان الامر قاسياً لو اني فقدتها، اردت ان اعلن فرحتي ولكن لمن، احتضنت الاشجار بنظري والحدائق والبنايات والمدى المنفتح امامي ووجه السماء ثم نظرت الى الزجاج الحاجز فرأيت وجه زوجتي وهي تبكي ووجه الطبيب المكبل بحزن ثقيل، يا الهي لماذا هذا البكاء والحزن ها هي طفلتي تستعيد حياتها من مخالب (اللوكيميا) ها هي تجلس وتكركر قرب الوردة، ها هي تشمها من جديد وتتورد، ها ان البرد قد انطفأ تماماً وهناك دفء رباني ملأ فضاء الحديقة بل ملأ الكون كله، وفجأة صفعتني ورقة ملصقة على الزجاج وانطلقت نحو صدري كرشقة رصاص (احذروا اليورانيوم ) قفزت من مكاني كي اتحاشى زخة الرصاص التي مزقت ظهر طفلتي ورأيت دمها ينثّ كنافورة صغيرة على الفراش الاخضر، لحظات وذوت الطفلة بحضني وهي تطوق بكفها الناحلة غصن الوردة الحمراء وتنظر الى امها عبر حاجز الزجاج الشفيف.

شبكة النبأ المعلوماتية-الاحد    11/حزيران /2006 -13 /جمادي الاول/1427