تذهب العلاقات الدولية في عمومها إلى أن السياسة الخارجية تتأثر
بجملة من العوامل المختلفة سواء منها العوامل المجتمعية أو الإقليمية
أو الدولية، فالسياسة الخارجية تتسم نسبيا بالتغير المستمر.
ومما يزكي هذه المعاينة أن الهواجس الإستراتيجية والعسكرية التي
وسمت العلاقات الدولية في القرن الماضي لم تعد تشكل أهمية ذات فاعلية
بل برزت عوامل أخرى إلى جانبها استأثرت بالعمل الدولي ويتعلق الأمر
بالعامل الاقتصادي والتنموي والأمني.
هذا التحول على مستوى فكر العلاقات الدولية جعل الدول تعمل عل صياغة
إستراتيجيتها وتكييف سياستها الخارجية تبعا للأحداث الدولية، فجدلية
التأثر بين السياسة الخارجية والعلاقات الدولية أفضت إلى أن الممارسة
الدبلوماسية نتيجة المتغيرات الدولية الجديدة صارت كالكائن الحي الذي
يخضع لسنة التطور، مما يحتم على دارسها وصناع القرار الخارجي ملاحقة
الأحداث والوقائع الدبلوماسية باستمرار (1).
ومن ثم فصناعة السياسة الخارجية في الحقبة الحالية تطرح عدة خيارات
أساسية:
1- التأقلم والتكيف مع البيئة الدولية الجديدة.
2- توسيع جغرافية المصالح في عالم متغير يزداد تعقيدا وترابطا.
3- الانفتاح على بقع جغرافية غير تقليدية.
فإذا تميزت السياسة الخارجية المغربية بكونها تتحرك في إطار جغرافي
محدود تمثل في علاقته مع الدول الأوروبية ودول المشرق العربي في حدوده
القصوى، فهذا الارتكاز الجغرافي لم يعد كافيا لتحقيق المصالح الحيوية
للدولة، بل أضحت الدبلوماسية المغربية اليوم معنية بتكييف سياستها وسلم
أولوياتها بشكل مستمر ويتوافق مع التحولات التي تحتمها المتغيرات
السياسية والاقتصادية في العالم، وأيضا توسيع دائرة جغرافية المصالح،
اعتمادا على علاقات إقليمية متنوعة وشراكة مع البلدان المختلفة في
أنحاء القارات الخمس، وذلك استنادا إلى دبلوماسية ذكية (2) تقوم أساسا
على التركيز على مناطق "الجيوب المنسية" من العالم أو المناطق غير
التقليدية المهمة والتي بحاجة لتواصل وتفعيل قوي وهو ما أغفلته ولا
تزال تغفله الدبلوماسية المغربية لسنوات طويلة، مما يضر وينعكس سلبا
على تحقيق مرد ودية على مستوى العمل الدبلوماسي لاسيما إذا ما حسبنها
بمنطق الربح والخسارة.
إن توسيع نطاق تأثير الدبلوماسية على قاعدة أكبر بدلا من تركيزها
على بقع جغرافية محدودة، تشكل تجربة مهمة وبحاجة لأن تستثمر وتطور
بفعالية، كما أنها تضمن أصوات وأصدقاء سواء في السلم والأزمات.
وفي إطار ما يسمى بأسلوب الدبلوماسية الذكية، تعتبر العلاقات
المغربية الصينية التي برزت ملامحها الأولى منذ سنة 1959 نموذج لذلك،
حيث قامت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عبر وضع آليات للتعاون
والتشاور الثنائي الدائم حول مختلف القضايا التي تهم البلدين وأيضا
القضايا الإقليمية والدولية فضلا عن الزيارات الرئاسية الشبه السنوية
التي تحكم علاقات البلدين في نطاق روتيني لا يرقى إلى مستوى تحقيق
الأهداف الإستراتيجية مما يطرح تغيير نمط التعامل غير المتكافئ، حيث
يصدر المغرب المواد الأولية إلى الصين ويستورد منها المواد المصنعة،
بالإضافة إلى المعونات الفنية التي يتلقها المغرب، فلم يشهد التعاون
بين البلدين تطورا إلا في السنوات الأخيرة في المجالات الاقتصادية
والتجارية حيث بلغ حجم التبادل التجاري أزيد من 5.1 مليار دولار سنة
2005 بزياد قدرها 28 في المائة بالمقارنة مع سنة 2004، ولقد احتلت
الصين سنة 2005 المرتبة السادسة كمزود للمغرب والمرتبة العشرين كزبون
له، ومن أهم المجالات الأكثر إستراتيجية في أولويات التعاون بين
البلدين هو مجال الصيد البحري، حيث يتوفر المغرب والصين على أكثر من 20
شركة مختلطة تشغل 77 باخرة لصيد الرخويات، فضلا عن التنقيب على البترول
في الواجهة البحرية (شمال آكادير) حيث اعتبرت الشراكة بين المكتب
الوطني المغربي للهيدروكاربورات والمعادن والمجموعة البترولية "شينا
ناشيونال أوف شور أويل كوربورايشن" نموذج للعلاقات الإستراتيجية.
ويدخل اهتمام الصين بالمغرب في مجال الطاقة في إطار دبلوماسية الصين
الطاقية، حيث تشكل هذه الدبلوماسية جزءا مهما لإستراتيجية الصين
الحالية،كما أن معظم الزيارات التي قام بها الرئيس الصيني "هو جينتاو"
إلى كل من السعودية، المغرب، نيجيريا مرتبط بالأساس بالشؤون التعاونية
في مجال البترول والغاز الطبيعي والفوسفات، وترجع أسباب إتباع هذه
الدبلوماسية إلى أن الصين تسعى إلى تنمية وتطوير الاقتصاد الصيني، فمنذ
25 سنة بدأت الصين عملية الإصلاح والتحول من دولة شيوعية فقيرة إلى
دولة من أهم الاقتصاديات الصاعدة في العالم، فرغم حداثتها في الانفتاح
بعد وفاة ماو تسي تونغ فقد حققت الصين طفرة اقتصادية مهمة تحت مظلة
السوق الاشتراكية لتحقيق التنمية بجانب الاستقرار الداخلي، ويؤكد
المحللون الاقتصاديون أن العملاق الصيني سيكون من أكبر المناطق
الصناعية وأحد أكبر مراكز الاستثمار(4).فإذا كان يطلق على الصين اسم
العملاق النائم فإن معدل النمو الاقتصادي الأسرع في العالم مكنها من
لقب العملاق المتيقظ ومن المفيد أن نفهم أن هذا العملاق يريد استغلال
موقعه الصحيح في مركز العالم (5)
ومن ثم نستطيع القول أن زيارة الصين الأخيرة للمغرب يمكن قراءتها من
خلا ل النقط التالية:
1- أن هذه الزيارة تدخل في إطار دبلوماسية الصين الطاقية.
2- أن هذه الزيارة تأتي في إطار تنويع دبلوماسية الصين الجغرافية.
3- أن مثل هذه الزيارة مفيدة للمغرب كسائر الدول السائرة في طريق
النمو، بحكم أن الصين كانت إلى عهد قريب جزءا من العالم الثالث وتتربع
الآن على المركز الخامس، إن لم يكن الرابع في الاقتصاد العالمي وفي ذلك
دلالة مهمة، هي أن الشعوب النامية تستطيع أن تلحق بالركب وأن تكسر حاجز
التخلف، والمغرب يدرك جيدا دور الصين المتعاظم، كما أن الدراسات تؤكد
أن الصين ستأخذ مكانها ضمن القوى العالمية في المستقبل(6)، وهو أمر
كذلك وارد في حسبان صانع القرار المغربي.
4- تجربة الصين في التنمية تستحق أن تكون مثالا يحتذى به بالنسبة
للدول التي تسعى لتحقيق خطوات على طريق التنمية حيث أنها حققت
المعادلة الصعبة بين النمو الاقتصادي والاستفادة من الموارد الطبيعية
والبشرية المتاحة من ناحية، وبالتالي فهذه التجربة تشكل أهمية للمغرب
الذي هو الآخر ماض في تحقيق ما يسمى بمبادرة التنمية البشرية.
وهكذا، يبرز بجلاء أن مستقبل العلاقات المغربية الصينية، رهين بوضع
خطط وآليات مستحدثة لأجل تفعيل التعاون بين البلدين في كافة المجالات
السياسية والاقتصادية والثقافية متجاوزة تلك القنوات الروتينية
التقليدية التي لا تستجيب لطموحات تلك العلاقات، وذلك من خلال تحرك
الدبلوماسية المغربية في إطار التنظيمات الجديدة القائمة في آسيا مثل
APEC ;ASIAN ومنظمة شنغهاي للتعاون والتي تسعى إسرائيل للانضمام إليها
والحصول حتى على مقعد مراقب(7) ويرى بعض المحللين أن ما يأخذ على العمل
الخارجي المغربي على مستوى آسيا هو غياب الحضور في المنتديات التي تشكل
فضاءا للتفاعل سواء على صعيد المنتدى العربي الصيني أو المنتدى
الإفريقي الصيني(8)، مما يضيع عليها تحقيق فرص ومكاسب مهمة، فأهمية
آسيا تظهر كميدان لتنويع وتوسيع البدائل المتاحة أمام المغرب في إطار
التحولات العالمية، أي كميدان للتنويع الاقتصادي للتجارة والاستثمارات
والاستفادة من التكنولوجية.
والجدير بالذكر، أن تعميق العلاقات بين المغرب والصين وأهميتها
وضرورة تنميتها أصبحت تمثل أحد ثوابت السياسة الخارجية لكلا البلدين،
لأن كلاهما يسعيان لأجل تكريس التنويع الجغرافي للدبلوماسية، فإذا كانت
الدبلوماسية المغربية هي دبلوماسية أوروبية، بمعنى أنها تتحرك في إطار
جغرافي محدد اسمه أوروبا لعوامل جغرافية وسياسية واقتصادية، فيبدو أن
هذه الرؤية ضيقة لا تخدم المصالح المغربية،لأن العالم يحتوي عل بقع
جغرافية مهمة ولابد من الاستفادة منها، فمثلا تعد منطقة جنوب آسيا من
المناطق الإستراتيجية في العالم فهي تضم ثماني دول كالصين، الهند،
باكستان، سيريلانكا، بوتان، بنغلادش، جزر المالديف، نيبال(9)، ويلاحظ
المراقبون أن ثمة نظاما إقليميا آخذا في التبلور بهذه المنطقة سواء على
المستوى الاقتصادي والإستراتيجي ولعل هذا الصعود يفسر تحول القوى
الصناعية الغربية نحو بناء العلاقات مع هذه الدول أو غيرها من دول آسيا
في إطار "منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا- المحيط الهادي "APEC الذي
تأسس سنة. 1989، "ومؤتمر القمة الأوروبي الآسيوي ASEM".
لعل ما ينقص الدبلوماسية المغربية هو الجرأة الفعلية للحضور
والتفاعل مع ما تطرحه التحولات الراهنة على مستوى العلاقات الدولية،
إسوة بالدبلوماسيات الكبرى من منظور كونها علما وفنا ومهنة (10) فالرقي
بالدبلوماسية بات يشكل مدخلا مهما لصناعة سياسة خارجية أكثر ديناميكية
تضمن للمغرب مكانة متميزة في المشهد الدولي، ذلك لأن الصراع الحالي ليس
بين الأقوياء والضعفاء، إنه صراع بين السريع والبطيء، بين الذي يتوفر
على مرونة كافية تجعله قادرا على الإبداع المتجدد بأقل التكاليف
الممكنة، وبين ذلك الذي يفتقد لهذه الإمكانية والذي قد يضطر في نهاية
المطاف إلى اللجوء لإجراءات قاسية(11)
1. عبد الواحد الناصر، العلاقات الدولية
والممارسات الدبلوماسية، المغرب، الطبعة الأولى، 1993، ص3.
2. حسن شبكسي، الدبلوماسية الذكية، جريدة الشرق
الأوسط، العدد 9652، 6 مايو2005.
3. محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الأسيوية:
الدروس المستفادة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص 116.
4. تهاني محمد شوقي عبد الرحمان، السياسة
الأمريكية الجديدة اتجاه الصين وتطورها منذ نهاية الحرب العالمية
الثانية حتى زيارة نيكسون 1972، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى سنة
1997، ص 96.
5. لماذا الصين مهمة للغاية؟ السبت 5 مارس 2005
www.bbcarabic.com
6. la chine concurrence les " TIGRES " ,l'ATLAS
du MONDE
DIPLOMATIQUE, 2006,P:188-189
7. نانيس عبد الرزاق، المؤتمر السنوي للمجلس
المصري للشؤون الخارجية : الصين في القرن الحادي والعشرين 28 ديسمبر
2005، مجلة السياسة الدولية، العدد 164، السنة 2006.
8. مصطفى الرزرازي، المغرب وآسيا، مداخلة في
ندوة علمية أقامها النادي الدبلوماسي المغربي، يومي الثلاثاء والأربعاء
25 -26 أبريل 2006.
9. DIPLOMATICA,N° 3- MARS 2006 P-P 34-41
REVUE
10. عادل المساوي، الدبلوماسية المغربية الحصاد
والرهانات الجديدة، وجهة نظر: المغرب في مفترق الطرق 2004-02005 ص 144.
11. الحسان بوقنطار، السياسة الخارجية المغربية:
المواء مات الضرورية، الإتحاد الاشتراكي،عدد 1977-3-28.
** باحثة من المغرب في قسم العلاقات
الدولية،
جامعة محمد الخامس، آكدال - الرباط |