قصّة عبد كور الواردة في سلسلتنا (بغداديات) لهذا الاسبوع موثـّقة
من قبل أخي وعزيزي ألاستاذ (أبو ليث المغازجي) كما يرويها المرحوم
والده الذي شهد أحداثها ووقف على تفاصيلها المدوّنة ادناه:
عبد كور هذا صاحب (كهوه) مقهى في منطقة الفضوة في الكاظمية سنيّ
الأربعينات أيام الحرب العالمية الثانية.
أما لقب عبد الكهوجي (كور)، فكلمة = كور = تعني باللغة الكردية
الأعمى أو كفيف البصر، وكذلك الحال في اللغات الايرانية والتركية
والاوردية.
إذن كلمة عبد كور تعني: عبد الأعمى، ولربما كانت لقباً لوالده أوجده.
والمعروف عن أصحاب المقاهي وخصوصاً كهوة الطرف انهم عندما يلبّون
طلبات زبائنهم من الشاي او القهوة وبالاخص لأصحاب المحلات التجارية
والكسبة في مناطقهم يسجّلون ما يرسلونه لهم من طلبات في دفتر يؤشّرون
فيه حساباتهم، وبعد انتهاء النهار أو انقضاء الاسبوع يتحاسبون مع
زبائنهم على مجموع ما أرسلوه لهم من طلبات.
وعليه كان دفتر عبد كور معدّا لغرض تسجيل طلبات (المعاميل) الزبائن
قبل أن يتحوّل الى سجل احصائي لجرد خسائر ألالمان في الحرب العالمية
الثانية،
إذ كانت إذاعة الحلفاء تبث البيانات تلو البيانات بأعداد الألوف
المؤلّـفة من الجنود الألمان الذين يسقطون تباعاً قتلى بسبب قصف
الطائرات الحربية المتحالفة يومياً.
كان راديو عبد كور من نوع (سيرا) من الحجم الكبير موضوعاً على رف
كبير في مكان بارز من المقهى، وكلما أصدرت إذاعة الحلفاء بياناً عن
تعداد لقتلى الألمان كان عبد كور يفتح دفتره ويسجل فيه (شخطاً) خطّـاً
واحداً لكل الف قتيل منهم، وحينما تتجمّع أربعة خطوط متوازية كان
يقفلها بخط مائل (مثل ما يفعله لاعبوا ألد ومنه بلعبة الآزنيف): أي
يتكوّن عنده كل مربع من أربعة خطوط مقفولة بخط مائل، يتكون ذلك المربع
من خمسة آلاف قتيل ألماني بيد الحلفاء وعلى رأسهم الإنكليز، حيث كانت
بريطانيا التي تسمى عظمى آنذاك تتصدر هؤلاء الحلفاء ضد دول المحور التي
كانت ألمانيا على رأسهم.
وهكذا استمرّ عبد كور على تدوينه لقتلى الألمان في دفتره الخاص
بزبائن مقهاه ولما نفذت صفحات الدفتر ولم يعد بها مجالاً للتدوين اضطرّ
ان يشتري دفتراً آخراً ليستمر في تدوين قتلاه، ولم تمض ايام الا ونفذ
الدفتر الثاني ثم الثالث..... وأخيرا بعد أن ملّ صاحبنا من التدوين أخذ
يسأل الناس العارفين بالسياسة والجغرافيا عن عدد نفوس ألمانيا، فتبيّن
له أخيراً أن أعداد القتلى
الذين دوّنهم في دفتره يفوق عدد سكان ألمانيا آنذاك.
عندها هرع صاحبنا عبد كور إلى بيته فخلع ملابس عمله وارتدى ملابسه
الفاخرة التي تليق بمقامه ووجاهته واعتمر (جراويته) لفّـة رأسه ورجع
الى مقهاه ليأخذ دفاتره التي احصى فيها قتلى الالمان،ثم استأجر سيارة
توصله الى الشوّاكه حيث مقر السفارة البريطانية في جانب الكرخ من
بغداد، وطلب مقابلة (الصاحب) السفير الإنكليزي لأمر هام وغاية في
الخطورة.
وما هي الاّ لحظات ويسمح له بمقابلة (الصاحب) السفير الذي استقبله
هو بدوره بكل لهفة وحفاوة منتظراً منه (أن يبيضها للدرّة) يبوح بالسرّ
الخطير الذي جاء من أجله.
وعندها أخرج عبد كور دفتره من طيّات ثيابه ليعلن للسفير الإنكليزي
بعدم جدوى الاستمرار في الحرب وهدر كلّ كميات الوقود هذه التي تستهلكها
طائرات الحلفاء وتبذير كل هذا العتاد الحربي على الارض الالمانية التي
هلك كل شعبها ولم يعد أي بشر يعيش على تلك الأرض.
وعندها ارتاح السفير البريطاني لما ضنّه بالامر الخطير الذي يهدد
بريطانيا العظمى، ثمّ التفت بعدها وقال لعبد كور: احسنت وبارك الله لك،
لقد اتيتنا بالخبر اليقين والرأي السديد وسنعمل بنصيحتك وسنوقف الحرب،
ثم اخرج من خزانته (نوط ابو العشرة) ورقة نقدية ذات العشرة دنانير (وهو
مبلغ كبير في ذلك الوقت) وقدمه هدية إلى عبد كور وأخذ منه دفتره وقال
له: أرجوك لا تتحدث مع أحد بهذا الموضوع الخطير الذي يتوقف عليه سلامة
التاج البريطاني.
وألان عزيزي القارئ الكريم:
يا ترى لوقدّر لعبد كور ان يأتينا اليوم بدفتره ليسجّل عليه
ملاحظاته لما يدور في العراق اليوم من أحداث، فيا ترى ماذا سنجد قد
سجّل في هذا الدفتر؟:
حتماً سنجد الحلفاء اليوم ومخابراتهم قد ألقت القبض على عشرات
الآلاف من أتباع ابن لا دين وأبو مصعب الامريكاوي (عفواً الزرقاوي)
أودعتهم في مضايف ابناء العم لتطلق صراحهم لعدم ثبوت الادلة ضدهم بعد
قضاء فترة من الراحة والاستجمام.
سنجد انهم القوا القبض على اكثر من ألف أمير من امراء الجهاد
الذبّاحين على الطريقة الإسلامية.
انهم القوا القبض على اكثر من عشرة سواق واكثر من سبعة حلاقين إضافة
لعشرات المساعدين والبوابين لابي مصعب الامريكاوي و...و.... الخ.
حقّاً انّه لجيش عرمرم لا يقوى على إحصاء عدته وعديده غير دفتر
الكهوجي عبد كور.
عزيزي القارئ الكريم:
كل هذا الجيش العرمرم من الاعضاء والامراء والسواق والحلاقين
والمساعدين الذين ورد ذكرهم اعلاه ليسوا بموضع اهتمامي بقدر ما انا
احرص على ان يكون دفتر عبد كور يحتوي على أسماء ممثليهم ومندوبيهم
الذين تسللوا الى مجلس النواب العراقي الجديد، وعسى ان لا يكون قد
فرضهم السفير زلماي المحارب للإرهاب جداً جداً على الوزارة الجديدة ؟
ودمتم لأخيكم بهلول الكظماوي.
ملحق مميّز:
(فجران دم)
بالوقت الذي تغمرني فيه الغبطة والفرح والسعادة والسرور وانا اتابع
الفضائيات وهي تبث صوراً حيّة لمراسم تشكيل أوّل حكومة حرّة منتخبة
يشهدها العراق،
بنفس هذا الوقت نشاهد العشرات من مجاهدينا عفيفي النفوس الأبطال (الكادّين
على عيالهم) في مدينة الصبر والبطولة، مدينة الصدر المجاهدة، حيث كمن
لهم القتلة بعد صلاة الفجر وهم ينتظرون دورهم (في مسطر العمّالة) عسى
من يأخذهم للعمل عمالاً في أعمال البناء وبذلك يتمكّنوا من توفير قوت
يوم واحد لعيالهم،
وإذا بأولاد الحرام يداهموا أبنائنا العمال أولاد الحلال ويفجّروا
أجسادهم الطاهرة بمتفجّرات حقدهم الدفين على الابرياء العزّل من
العراقيين.
ومن عادة العراقيين إن من يكمل بناء بيته الجديد أو يشتري سيارة أو
يتزوج يذبح لبيته أو سيارته أو زوجته ما يسميه اهلنا في العراق (فجران
دم) قرباناً لوجه الله تعالى، وبذلك جاء استشهاد أبناء مدينة الصدر
المجاهدة ثم منطقة الكرادة والشعلة والشعب ومن بعدها بغداد الجديدة وحي
الامين، جاء استشهادهم (فجران دم) قرابين للدولة الجديدة.
ونحن إمام هذه الفاجعة لا يسعنا الاّ ان نقول: ألهمّ تقبّل من شعبنا
هذا القربان، واجعله خاتمة السوء والاحزان، مردّدين مقولة سيدنا
ومولانا الصحابي الجليل سعيد بن الجبير (رض) وهو يشهد آخر لحضات حياته
قبل أن يقضى مقتولاً شهيدا على يد الطاغية الحجّاج: الهمّ لا تسلّطه
على أحد من بعدي.
ونكرّرها: الهم بحق عزتك وجلالك لا تسلّط هؤلاء أولاد الحرام القتلة
على أحد من ابناء شعبنا من بعد شهداء مدينة الصدر والكرادة والشعلة
والشعب وحي الامين وبغداد الجديدة !
الهمّ بحق عزتك وجلالك انصر حكومتنا الجديدة وسدّد خطاها واهدها إلى
سواء السبيل حتّى تستطيع أن تفي بوعودها لعزّة ورفاهية شعبنا العراقي
المظلوم ومكنها من دحر ارهاب اعداء شعبنا ولتأخذ بثأر شهداء هذا الشعب.
الهمّ وفّقها لمحاربة الفساد ولتحقّق لشعبنا الاستقلال التام
والقضاء على آخر آثار الاحتلال الغاشم.... آمين يا رب العالمين.
امستردام في 22-5-2006
e-mail:bhlool2@hotmail.com |