تأثثت
الذاكرة العراقية بخزين كبير من التصريحات السياسية التي ما أفلحت حتى
هذه اللحظة بمد جسور الصدق بينها وبين الناس، وليس صعبا على البسطاء من
شرائح الشعب ان يفرزوا بين الصادق والكاذب من هذه التصريحات التي صارت
تشبه الى حد كبير لعبة( تشكيل اللجان التحقيقية) من اجل( التخدير
والتبرير وما شابه)، فاذا ظهر الوزير الفلاني واعلن ان هناك خللا في
هذا الجانب او ذاك فانه سرعان ما يرفق هذا الاعتراف بتشكيل لجنة تحقيق
للكشف عن حقائق وبواطن الامور ومعاقبة المقصرين واعادة الاعمال الى
نصابها، وما ان تهدأ ثائرة الناس وتساؤلاتهم حتى يتبين للجميع ان ما
قاله السيد والوزير وما فعله لا يعدو كونه ذرا للرماد في العيون وتهدئة
للخواطر وتخديرا لنقمة المتضررين من فقراء الشعب.
اسوق كلامي هذا وانا اتذكر تصريحات متكررة لأحد أصدقائي ايام العوز
الذي كان يمر به كلانا قبل عقود، فقد كان يأخذني الى بيته ويؤكد لي بأن
(الباجة) استوت الآن تماما وهي بانتظارنا، وحين ندخل البيت تستقبلنا ام
صديقي ببسمتها المعهودة وكان صديقي يمررني من باب المطبخ الذي يؤدي الى
الغرفة الداخلية المخصصة للجلوس وما ان نجتاز المطبخ حتى أصاب أنا
وصديقي بالخيبة نفسها، فالباجة لها رائحة مميزة تملأ البيت كله وعندما
لا نشمها اعرف انا وصديقي اننا امام فخ جديد نصبته امه لنا وقبلها نصبه
لكلينا الفقر والعوز الملعونين، فالام كانت تضع القدر الكبير على
الطباخ والماء يغلي لكنه كان فارغا إلاّ من فقاعات التصريحات الكاذبة
للأم، وعندما كنت اغضب من صديقي يقسم لي بأن امه أخبرته بإحضار الباجة
وذكرته بإستصحابي معه للبيت لانني صديقه المقرب منه ومن العائلة ودائما
كان يلقي اللوم على امه.
وفي يوم ما كرر دعوته لكنني رفضتها تماما من دون ادنى تفكير او
تريث رغم انه اقسم بأغلظ الايمان بأن الباجة هذه المرة حقيقة لا تقبل
الشك ابدا، وحين يئس مني أخذ معه صديقا آخر حكى لي في اليوم التالي عن
أشهى باجة تناولها في حياته وأسهب في التفاصيل لدرجة انني لعنت حظي
الذي لم يسعفني بتصديق التصريحات مهما كثر كذبها وقلَّ صدقها.
الآن أتذكر المثل العراقي الذي يقول (يفوتك من الكذاب صدق كثير)
وأتوجه الى ساستنا الكرام ومسؤولي الدوائر والخدمات في كل مفاصل الحياة
العراقية وأقول لهم: عليكم أن تكفوا عن التصريحات الكاذبة فورا وانتم
لستم مضطرين إليها أبدا لأن العراقيين ما عادوا يصدقون حتى أقوالكم
الصادقة !!، فما بالكم بغير الصادقة منها.
وأخيرا نتساءل الآن، هل ستبحثون عن وسائل وسبل أخرى تقربكم من
الشعب وتعيد ثقته بكم، هذا هو سؤال المرحلة المقبلة ؟؟. |