استراتيجية الاحتلال او الانسحاب

رؤية من الداخل

المحامي طالب الوحيلي

قديمة هي نزعة مخططي السياسة الاستراتيجية داخل السلطة الأميركية لجعل الولايات المتحدة تقود العالم وتسيطر على موارد الطاقة فيه وتنشر جيوشها في كل مكان وتشكّل الحضارة العالمية.

 هذا ما يقر به صراحة احد ابرز هؤلاء المخططين، السيد زبغنيو بريجنسكي. فهو يبدي رضاه عن سياسة الإيقاع بالاتحاد السوفيتي في "الفخ" الأفغاني من خلال دعم التمرد والشبكات الإسلامية. فهو كان إذن احد صانعي "القاعدة" وان من دون إرادة منه.

استوقفني هذا المقطع من مقال لاحد الساسة الأوربيين حول الاستراتيجية الأميركية في العالم، ودور برجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر،العارف بكافة مدركات وتفاصيل السياسة الأميركية في العراق منذ الحرب الباردة ولحد الآن، حيث ينظّر لفكرة الانسحاب من العراق، وبدوره يحلل مفردات وإرهاصات الواقع العراقي الذي بدى له وكأنه عبارة عن سلسلة من التجارب الفاشلة او الشبه ناجحة على اكثر تقدير، او أنها مجرد نتائج غير متوقعة لعملية تحرير العراق من النظام البائد من وجهة نظر الشعب العراقي، أو مكافحة الإرهاب العالمي وضرب قاعدته الأساسية المهددة للأمن العالمي من وجهة نظر المؤسسة الإعلامية تجاه دافع الضرائب الأميركي او شعوب الحلفاء،مما يجعلهم يجدّون البحث عن المبررات والمعاذير المستمرة، او اختلاق شماعات لتعليق أخطائهم القاتلة للشعب العراقي عليها، ان كانت أخطاء فعلا.

وقراءة سريعة لما يجري في الساحة العراقية منذ سقوط النظام البائد، تضعنا أمام حقائق باتت معروفة للقاصي والداني، أهمها التبدل الدراماتيكي للخطة المتفق عليها في مؤتمرات المعارضة العراقية في لندن وصلاح الدين،ومحاولة إلغاء كافة نتائج تلك المؤتمرات، والبدا من الصفر عبر مؤتمر يعقد في الناصرية ومع شركاء جدد،الأمر الذي وقفت ضدة القوى الوطنية والقيادات الإسلامية بشدة، مما ادى الى إحداث تغييرات في هيكلية الإدارة المزمع إقامتها في العراق حيث جرى إبدال (جي كارنر) ب(بول بريمر)، ولكلا الشخصين مقاسات مختلفة عن الآخر،فيما راح الأخير يسعى لوضع العراقيل أمام حركة القوى الوطنية في توفير مناخات طبيعية لجمع شتات المجتمع العراقي سياسيا واثنيا، وزرع بذور الثقة بينها من اجل إيقاف بركان الخراب والتدهور في البنى الفوقية والتحتية للبلاد الذي مهدت له قوات الاحتلال كثيرا بمساعدة الخلايا المتربصة للمؤسسة الصدامية المتهالكة، والتي كانت كمثل وحش جريح يسعى لتخريب والتهام ما سلم من بقايا الجسد العراقي المهشم، دون ان نستبعد المصالح الفردية والإقليمية في ذلك، لكي يكون العراق قاعدة لخراب ابدي.

فيما شرعن مجلس الأمن الدولي الاحتلال بموجب القرار1483، انصاع العالم لهذا الاحتلال ووقف موقف المتفرج بما فيه العالم الإسلامي والعربي، تاركا الشعب العراقي يواجه مصيرا مجهولا بعد ان صنعت قوات الاحتلال ودعمت اكثر من حزب وتكتل معارض للقوى المتصدية للعملية السياسية التي جاهدت وناضلت كثيرا من اجل انتزاع بعض مفرداتها الديمقراطية والإدارية وكأنها لقمة من براثن أسد، بما في ذلك تشكيل مجلس الحكم وتأسيس أول حكومة حاولت إعلان بقاء الدولة العراقية وعلمها مقابل الاحتلال المقنن دوليا،فضلا عن تمكنها من فرض خيار الانتخابات لتأسيس مجلس كتابة الدستور الذي حاولت الإدارة الأميركية الوقوف ضده وفرض خيار التعيين، حيث جرت أول انتخابات عراقية بالرغم من موجات الإرهاب التي استفحلت وتمددت شرقا وغربا وطالت اكثر المدن العراقية، بعد ان تعامت قوات الاحتلال عن الملف الأمني كثيرا وتماهلت وتمادت أمام الخطر البعثي الذي وجد انه بعيد جدا عن القصاص القانوني او الشعبي، وبدل ان يسعى لطلب الصفح واستعطاف ضحاياه، راح يحث الخطى صوب العودة الى مؤسسات الدولة والحكومة حتى شعر المواطن ان عقيدة وعرف النظام البائد مازالت هي السائدة فعلا بعد ان افتتح صفحة جديدة لمعركته الاخيرة وقد أسسها على عدة محاور أهمها التغلغل وسط العملية السياسية مستثمرا خبرته الحزبية ومواقعه الإدارية والتقنية، متطيلسا بأكثر من طيلسان كالطائفية والتكفيرية مستفيدا من حلفائه من القاعدة والتكفيريين العرب .

لقد راهنت الإدارة الأميركية على العملية الديمقراطية كثير،كما راهن عليها المواطن العراقي الباحث عن اقصر الطرق للأمن والاستقرار والسلام والرفاه الذي حرم منه مطلقا، بعد ان ساءت ظروفه المعيشية للحد الذي لا يطيقه البشر، ووجد ثرواته الوطنية نهبا ولم يبصر أي تغيير إيجابي سوى المشاركة الفعلية في اختيار دستوره وانتخاب ممثليه، لكن حتى هذا المكسب قد فقد جدواه بعد ان سادت التقاليد الغير ديمقراطية للقفز على الاستحقاق الانتخابي، واختلاق استحقاق توافقي غريب على كافة الأعراف الديمقراطية.

والانكى من هذا ان الفراقاء السياسيين بقوا فرقاء لالقاء بينهم سوى التنازع المستمر بين قوى فائزة في الانتخابات وحاصلة على كافة شروط تشكيل الحكومة، وقوى يفترض بها الإذعان لما أفرزته صناديق الاقتراع والاعتراف بكونها ليست الوصي او المتولي على الشعب العراقي.وأمام كل ذلك تقف الإدارة الأميركية داعمة ومحركة لبعض أطراف هذه الحلبة سواء كان ذلك مباشرا عن طريق سفيرها، اوباكثر من صورة غير مباشرة أهمها عدم إطلاق يد قوات الأمن والحكومة في تطبيق القوانين والأنظمة التي شرعت في عهدها او في العهود الماضية، وبذلك فهي تقف عاجزة أمام القبض على بعض القيادات السياسية المكشوفة للإرهاب، بل ان بعضها يجلس تحت قبة البرلمان العراقي دون ان يعبأ بأوامر القبض الصادرة بحقه!!

رهان الإدارة  الأمريكية بمحله لو كانت نواياها صادقة وكانت لديها الرغبة الحقيقية في إنجاح التجربة الديمقراطية، بعد ان نجحت فعلا في فرض سيطرتها على البلاد، ونحن نعرف حقيقة ان العراق لم يتحول الى مستنقع فيتنام وان الخسائر الأميركية التي لم تتجاوز الألفين ألا قليلا هي خسائر بسيطة جدا قياسا بأكثر من مائة وخمسين ألف قتيل عراقي راحوا ضحايا الإرهاب، علما ان نسبة الخسائر في تدريبات الجيوش في الأوقات الاعتيادية لاتقل دائما عن 5% أي ان الخسائر الأمريكية المعلنة في حربها في العراق لا تتعدى النسبة الاعتيادية في التدريب، فما الذي حققته (المقاومة الوطنية) اذن؟!

وعودة لما ابتدأنا به ولما كان بريجنسكي احد صانعي (القاعدة) فهو العارف بتفاصيل عملها وامتداداتها وما ضيها وحاضرها، لاذا لا يصعب عليه اكتشاف الحلول المنطقية في إفشال مخططاتها في إشعال الحرب الأهلية التي أستبعدها باعتبارها مكلفة ومنهكة للجسد العراقي وان الكل فيها خاسر على حد تعبيره، واذا كان صادق فيما يقول في جزء من تعليله لعدم نشوبها لاسامح الله، فان ما يلاقي اغلبية الشعب من ويلات الإرهاب هو اشد فتكا من الحرب الأهلية لكنه وبفضل صبر وحكمة قياداته الإسلامية والسياسية قد آل على نفسه تحمل كل الصعاب والقتل اليومي المنظم لاجل لم الشمل العراقي وحرمة الدم ووحدة الدين والقيم والوطنية.

اما ما يلوّح به بريجنسكي كخيار استراتيجي مطروح وهو الانسحاب من العراق، فان رغبة الناخب العراقي الأولى هي ان تنسحب قوات الاحتلال من أرضه وقد اختار الطريق السلمي في تحقيق هذه الرغبة، وقد كان منال إعجاب العالم المتحضر بأسره في هذا الاتجاه، وبالضد منها دعاة الإرهاب الذين أوجدوا المبررات الغير مرغوب فيها لإصرار القوات الأجنبية على عدم مغادرتها العراق في الوقت الذي عرقلت مسارات كثيرة بالاتجاه الصائب منها إتمام بناء المؤسسات الأمنية والقضائية والعسكرية، وقطعا ان 125 الف جندي عراقي غير كاف أمام اتساع جبهات الإرهاب والتمرد على الدولة والقانون،  ومع ذلك كله يصر بعض الساسة من القوى المعارضة للعملية السياسية على الخوف من انسحاب القوات الأجنبية بل ان بعضهم دعى الى عدم التعرض اليها، ومجابهة القوات العراقية وخصوصا رجال الشرطة.

من كل ذلك نخلص الى ان الحلم العراقي ببناء الدولة الديمقراطية الأنموذج  لو تحقق بدعم صحيح وبحسن نية بعيدة عن نظرية السيطرة على العالم او قيادته من قبل الولايات المتحدة، لما جرت شلالات الدم الطاهر ولا تعثرت ابسط المتطلبات الضرورية في إتمام البنى الفوقية او التحتية، ولخرجت تلك القوات منذ الأشهر الأولى من الاحتلال دون خشية من حرب أهلية او اجتياح إرهابي..

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/ايار/2006 -16/ربيع الثاني/1427