من جديد تعود الولايات المتحدة الامريكية وعلى لسان وزيرة خارجيتها
( كوندوليزا رايس ) التي تقول، بان كافة الخيارات ستبقى مفتوحة في
معالجة الملف النووي الايراني، او لنكن اكثر دقة ونقول: الملف الايراني
بكامله، وليس النووي فقط، على اعتبار ان هذا ما عودتنا عليه الولايات
المتحدة في سعيها للدخول في معالجة ملفات مستجدة على الساحة الدولية،
وتحديدا من تلك الملفات التي تشكل ازعاجا كبيرا للولايات المتحدة
الامريكية، فنصبح في العادة امام هجمة امريكية مفتوحة الابواب على كل
الاصعدة الاعلامية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية،
وغيرها من الابتكارات الامريكية التي تحتكر من الوسائل ما لا يقع تحت
حصر. ذلك ان جزئية صغيرة او ربما هامشية يمكن لها ان تكون مبررا لحرب
شاملة تخاض ضد هذا البلد او ذاك، او لربما كانت الذرائع كبيرة ومضخمة
ولكنها كاذبة، وهو ما حصل مع العراق، وما حصل مع فيتنام، وما يحصل مع
سوريا، وما حصل مع بنما، وغيرها من الدول التي اتسعت رقعة الحرب
الامريكية لتشملها بعطفها العسكري اللامحدود او اللامنتهي. ما يهمنا في
هذه المقالة هو القاء الضوء على الاسس التي قامت عليها السياسات
الامريكية في بناء القواعد التبريرية التي غالبا ما تشكل الملجأ الكبير
والواسع للساسة الامريكيين في عنفهم المتسع يوما وراء يوم، فما تكاد
تنتهي حلقة من الحلقات الا ويتبعها حلقة جديدة او عرض لاكثر من حلقة في
نفس الوقت، ودون اي حسابات لها علاقة بما يمكن ان يتحصل عن ذلك من قهر
للشعوب ومن توتير للاجواء الدولية، مع العلم بان الولايات المتحدة
غالبا ما تتكبد الخسائر الاقتصادية والبشرية والتنموية وغيرها، علما
بان جزءً من مبرراتها تبنى احيانا على تحقيق بعض المنافع الاقتصادية
للولايات المتحدة، حيث سنناقش بعضا منها في خضم هذا المقال، لاثبت
عبثية السياسة الامريكية وعدم جدواها في البحث عن تحقيق بعض انواع
النفوذ الاقتصادي المفترض.
لكن حتى الفرضية الاساسية التي يبنى عليها هذا المقال وهي تلك التي
تربط بين حروب الولايات المتحدة وربطها بالمصالح الامريكية ودفاعها عن
النفس، فكما هو بادٍ للعيان فانها نظرية منهارة بفعل الظروف التي
نعيشها يوميا على الاقل في الصورة المسرحية التي يعيش العالم تفاصيلها
في الحرب الدائرة على ارض العراق، والتي يمكن ان تدور من جديد على ارض
ايران او سوريا او اي دولة اخرى في المدى المنظور. فنجد ان الدراسة
البسيطة التي يستطيع ان يقوم بها اي متتبع او مراقب أو راصد للاحداث
الدائرة حول العالم سقوط هذه النظرية من حيث المبدأ ومن حيث التفاصيل،
فاذا كان الموضوع موضوع دفاع عن النفس فان الولايات المتحدة قد اصبحت
اكثر قلقا وخوفا على مصالحها في منطقة الشرق الاوسط مع تزايد الكراهية
لها ولسياساتها في المنطقة وفي العالم، وهنا من المفيد التذكير
بالمواقف السياسية الصلبة التي بدات تنتشر في معظم دول امريكا
اللاتينية والتي تقوم على مبدأ التوحد في وجه السياسات الامريكية
بمختلف انواعها، مما يثير تساؤلات كثيرة عن الجدوى الحقيقية التي جنتها
الولايات المتحدة من سياستها الخارجية تجاه تلك الدول وخصوصا في
الموضوع الخاص بنشر العولمة وما ارتبط منه بمنظمة التجارة العالمية
وغيرها من الامور التي اججت النيران الرسمية والشعبية في تكتل
امرولاتيني ( في امريكا اللاتينية )، ضد كل ما قد تتخذه الولايات
المتحدة ازاء هذه الدول، ولعلها من المفارقات الكبيرة التي تعيد الى
الاذهان تراجع الشيوعية وانحسارها منذ انتهاء الحرب الباردة وتفكك
الاتحاد السوفياتي وانهياره، ومن ثم عودتها بمد رسمي وجماهيري اكثر
التصاقا بالمواقف المعادية للولايات المتحدة الامريكية، وهذا هو الحال
بالنسبة الى ما يجري في المنطقة العربية التي لا تبدي فيها الشعوب
العربية اي رضى حيال السياسة الامريكية، بل وتفاقم ذلك الى نوع خاص من
الكراهية لكل ما هو امريكي وصادر عن الاداردة الامريكية، حيث اصبح
الامريكيون عرضة للاذى في اي مكان يتواجدون فيه، واصبح العرب يبحثون عن
مواطن اخرى غير الولايات المتحدة، سواء لسياحتهم او تجارتهم او دراستهم
او غيرها من الامور الاخرى التي كان العرب يعتبرون فيها الولايات
المتحدة الوعاء الاكبر والمفضل، بالاضافة الى ما يمكن ان يقال حول
الخسائر البشرية الامريكية التي يتلقاها الجيش الامريكي تباعا في
المعارك الدائرة في العراق، هذا بشكل مبسط عن المنطقة العربية، وحدث
ولا حرج عن ما يتلقاه الامريكيون وحلفائهم في افغانستان وما يمكن ان
يتلقوه بفعل المواقف السلبية المتراكمة ضد الولايات المتحدة، ولا نعرف
ماذا يخيء المستقبل لهم، وبالتالي فاننا اذا امام تورط امريكي في
مستنقعات كان يمكن له ان يتفادى الوقوع بها لو لم تقم نظريته على
معاداة الشعوب واسقاط الانظمة التي اثبتت الايام بانها انظمة على رغم
ما تتهم به من قسوة، هي ارحم بشعوبها وباوطانها من الالة العسكرية
الامريكية التي تمادت في غِيِّها بطريقة لم يكن يتوقعها احد من الذين
رحبوا بها قبل وصولها الى الحد الذي وصلت اليه. وهنا نتقدم الى بناء
قاعدة جديدة تنهار امامها نظرية الامريكيين في الدفاع عن انفسهم – على
حسب زعم رايس – ( وهي في الحقيقة نظرية تبناها المحافظون الجدد الذين
يقودون الاداراة الامريكية والذين يسقطون تباعا)، بالنظر الى ما بات
يَرْكَنُ اليه ضمير الشعب الامريكي من مدارك تنهار امامها المزاعم
والمبررات الامريكية حينما يقولون بان كل ما يقومون به انما هو دفاع عن
النفس، علما بانه لم يكن هناك من دولة او حكومة باغتت الولايات المتحدة
أو هاجمتها في عقر دارها، واعتقد بانه لا توجد حتى الان اي مرتكزات
لوجود مثل هذه الدول، وقد لا يكون في المستقبل القريب، بالاعتماد على
الهدوء الروسي والصيني حيال هذه الامور، والذي قد يكون بعد سنوات طوال
لا نعلم لها حسابا زمنيا مسعفا في الوصول الى تحليل جدي وواقعي لتحديد
سقف فعلي لذلك، وطبعا لا انسى ما يمكن ان يقال عن هجوم تنظيم القاعدة
الذي نفذ في عقر الدار الامريكية، وان بدأ الكثيرون حتى من الامريكيين
انفسهم يرجعونه الى السياسة الامريكية الخارجية، وبالتالي، وبالعودة
الى الاصول القانونية التي يقوم عليها ميثاق الامم المتحدة، الذي يعتبر
اهم الحواضن لقواعد القانون الدولي، فان مسالة الدفاع عن النفس لا يمكن
لاحد ان يتذرع بها ما لم يكن هناك خطر حال ومحدق يتضمن تهديدا عسكريا
جديا ومقرونا بمساع عملية يستهدف الدولة التي تدعي حقها في الرد
بالتاسيس على حالة الدفاع الشرعي او الدفاع عن النفس، وهو ما لم يحصل
مع الولايات المتحدة اطلاقا، وصحيح ان القانون الدولي لم يعد ذو وزن
منطقي على ارض المعارك، او من خلال تجاهله البات من قبل الولايات
المتحدة في كافة حروبها، الا انه يبقى صاحب القول الفصل كمرجعية
موضوعية تتوافق عليها كافة دول المنظومة العالمية الموقعة على ميثاق
المم المتحدة. ولكن حتى ذاك، ومع ادعاء الولايات المتحدة وتظاهرها
بالتشبث الشكلي في بعض الاحيان بالتعامل مع بعض الملفات من خلال ما
يمليه القانون الدولي من قواعد ناظمة للنزاعات حول العالم، وتحديدا من
خلال لجوئها الى مجلس الامن الدولي، الا ان الواقعية التي جاءت على
لسان كوندوليزا رايس ايضا، جاءت مكذبة لذلك، حيث قالت: حتى لو لم يتخذ
مجلس الامن قرارا باستخدام القوة ضد ايران فمن الممكن ان نتحرك بمفردنا
وبعيدا عن حظيرة مجلس الامن، في برهنة لا لبس فيها ولا تشكيك، بان
سياسة العنف التي تنتهجها الولايات المتحدة مقدمة على اي سياسة اخرى،
حتى وان كان ثمنها سحق القانون الدولي وتجاوزه او القفز عنه، او
ابقائه جزءً من بعض التحركات التي تحتاج الى بعض الزينة، ولو الى حين.
وهذا هو ما مارسه وزير الخارجية السابق ( كولن باول )، الذي اعترف
بخطئه الكبير في الدفاع عن موقف بلاده لخوض الحرب على العراق، وبعدم
مصداقية ما طرحه في مجلس الامن ومن ثم تاييد حملة بلاده على العراق من
دون غطاء اممي. المهم الان، وحيال كل ما تقدم، فان الولايات المتحدة
اذاً لم تحقق لنفسها حصانة جديدة بشنها الحروب بدعوى الدفاع عن النفس،
اذ انها انتهكت ابسط القواعد التي تحتِّمُها اصول اللعبة على اداراتها
وسياسييها بالحفاظ على الولايات المتحدة وصيانتها وصيانة اجيالها
ومساهمتها في الدفاع عن توجهاتها امام العالم وشعوبه في كل الاتجاهات.
فنلاحظ ان ما حملته الحرب الامريكية على العراق من محاولات امريكية
للسيطرة على بقعة جغرافية حساسة في الوطن العربي يحكمه الموقع العراقي
الحساس بالنسبة لاسرائيل، وبالنسبة للمصالح الامريكية في المنطقة
برمتها، وما سبقه من سباق محموم للسيطرة على النفط العراقي، كله باء
بفشل ذريع، اذ تحول العراق الى ما يشبه مقبرة للامريكيين، فلا حصلوا
على النفط الذي يريدون وكيفما يريدون، ولا استطاعوا ان يستقروا في
العراق كقاعدة ثابتة قادرة على قيادة السياسة الامريكية المنظورة من
هناك، وهذا بطبيعة الحال فيه من الخسارة الامريكية السرية والعلنية
الكثير، والتي جعلت من العراق ساحة منازلة كبيرة وقوية وصلبة تشحذ فيها
المشاعر والمباديء ضد القوات الامريكية غزيرة الوجود هناك، وبالتالي
فان نظرية الدفاع عن النفس تصبح ايضا بحكم المنهارة، اذ انها فشلت في
حماية المشروع الامريكي عسكريا واقتصاديا، من خلال تلقي الضربات
المتتابعة والتي لا تهدأ ولن تهدأ على المدى المنظور، فاصبحت الولايات
المتحدة وكانها تعمل على وضع نفسها في مصيدة القتل اليومي الذي يناقض
حجة الدفاع عن النفس داخل حدود الولايات المتحدة او ما وراء البحار،
واقتصاديا فلا احتاج الى ان اكرر الاحصائيات اليومية التي تظهر الفقر
الذي يعيشه العراقيون جراء النقص الحاد في النفط وامداداته، وما تتعرض
له المصافي النفطية هناك، والذي قلص حجم الامدادات الى السوق العالمية
بكميات كبيرة، شبَّت باسعاره الى درجات كبيرة، ولم تكن واردة في
الحسبان قبل هذه الحرب، مع تضرر واضح للاقتصاد الامريكي من جراء ذلك،
مما يناقض ايضا احد اهم الاهداف في السيطرة على نفط العراق، والذي كان
ينظر الى السيطرة عليه من باب توفير امدادات نفطية باسعار رخيصة للآلة
الصناعية الامريكية. عوضا عن ذلك كله فقد كان من الاولى للامريكيين ان
يحصنوا انفسهم ويدافعوا عنها لو انهم انفقوا مئات المليارات التي
تتصاعد ارقامها بشكل متسارع ومتلاحق والتي بذرتها الادارة الامريكية
على الحرب في العراق، في ابحاث الطاقة البديلة التي كان يمكن
للامريكيين من خلالها الوصول الى الاستعاضة عن النفط العراقي او العربي
بشكل كبير، علما بان الارقام الفلكية المعلنة من الممكن ان تكون موضوع
تشكيك كبير من قبل العديد من الخبراء العسكريين والمتابعين لتفاصيل
الحرب على العراق، طبعا لصالح وجود خسائر مالية اكبر بكثير مما تزعم
ادارة بوش، وحتى لو لم يرد الامريكيون انفاق هذا المال على ابحاث
الطاقة البديلة، وحافظوا على علاقات معتدلة مع الوطن العربي ( حتى دون
العراق ) لاستطاعوا ان ينفقوا جزءً يسيرا من اموالهم في مشاريع الاصلاح
التي يزعمون حرصهم عليها، حيث ان كولن باول وقبل الحرب على العراق
باشهر معدودة، كان قد صرح بان الادارة الامريكية ستنفق عشرين مليون
دولار امريكي على تعزيز الديمقراطية في الوطن العربي، وهو مبلغ تافة
جدا بالقياس الى ما تكبده الامريكيون وسيتكبدونه مرارا طالما بقيت
سياستهم في نفس الاطار. ولو حصل ذلك لحصلوا على النفط باسعار رخيصة (
كما هو المعتاد ) ولحافظوا على جزء من صورتهم الايجابية ولو شكليا لدى
الشعوب العربية، وشعوب المنطقة والعالم، ولوفروا مئات المليارات وبنوا
اسوارا تناطح السماء ليؤمنوا دفاع الامريكيين عن انفسهم ( ان صح زعم
وزيرة خارجيتهم )، والقول مرتد على قائله. بدلا من الخسائر الاضافية
التي تلقوها في جنودهم وفي كرامتهم العسكرية عندما سيخرجوا مهزومين،
وفي الحقيقة فقد عادت هذه المسالة الى الاضواء من جديد حيال القضية
الايرانية المتفاعلة، والتي كانت من العوامل الاساسية التي ساهمت في
وصول الامور الى ذروتها بالنسبة لاسعار النفط وبالنسبة للمقدرات
الامريكية الاخرى. ولا ادري ان كان غباء الامريكيين وغرورهم، او
التغرير بهم، قد ساعدهم في ابتلاع الطعم الايراني، حينما سكت
الايرانيون او غضوا الطرف عن الغزو الامريكي للعراق، ظنا من الامريكيين
بضعف ايراني، بدأ يتلاشى امام الاقرار الامريكي بان ايران كانت الرابح
الاكبر من غزو العراق. المهم، فبدعوى الدفاع عن النفس اشتعلت اسعار
النفط العالمي، وهبط الدولار، وقتل الامريكيون في بقاع كثيرة من الارض،
ولم يتدخل الايرانيون بعد، فكيف سيكون الحال عندما يدخل الايرانيون على
خط المواجهة الامريكية بعد مصيدة جديدة قد ينصبها لهم الروس؟ او
الصينيون؟ او الايرانيون انفسهم؟ بالتاكيد سيفقد الامريكيون هذه المرة
احلامهم الاستراتيجية، وستغزو المهانة وطنهم كما غزت شرفهم العسكري،
ولعلها تطيح بما تبقى من رجالات المحافظين الجدد، بعد اذ اطاحت العراق
بمعظم حلفائهم في الغزو، من اسبانبا الى ايطاليا مؤخرا، الى بريطانيا،
حيث وصلت السنة اللهب الى حزب العمال وبليرهم المربك والمضغوط عليه
بفعل الخسائر المتلاحقة التي دكت قصره وتهدد بانهيار قلاع العماليين.
نضيف الى ذلك ما تقوم به روسيا من عودة محمومة ومدروسة الى منطق التحدي
للنفوذ الامريكي، في تذكير ببوادر حرب باردة ظن الامريكيون انها باتت
من احداث الزمن البعيد. ومن ثم، هل بقي اكثر من ان تصل درجات التاييد
الشعبي الامريكي للادارة الحاكمة الى اقل مستوى لها منذ ردح طويل من
الزمن؟ وهل بقي اكثر من أن تستقبل وزيرة خارجيتهم في استراليا الحليفة
بقول الطلاب لها في وجهها، دون مواربة، انت قاتلة وارهابية وروائح دم
الجريمة على يديك؟ وهل بقي اكثر من ان يقال لوزير الدفاع الامريكي عن
النفس من قبل موظفيه ومواطنيه وبعض من محلليه، انت كاذب ومضلل ومخادع،
وعلى الهواء مباشرة؟ ماذا تبقى لهم اكثر من ذلك؟ هل هم مصرون على
التذرع بنظرية الدفاع عن النفس التي تسقطها كل الاحداث وكل الارصدة
الكبيرة من المغالطات التي لا تنتهي، من تصدير للحرب وفقد للامريكيين
ولمئات من المليارات التي لو استخدمت في التودد الى الشعوب لاكسبت
الولايات المتحدة دفاعا حقيقيا عن النفس دون ان يطلقوا رصاصة او يحركوا
بارجة، ولكان لهم مكان عَلِي بين الامم التي لا تغفر لمعتد او ظالم،
ولكنها ترحب بكل خير انى كان موطنه، ما دام يبحث عن الصداقة والالفة
والمشاركة المصيرية في صناعة مستقبل الانسانية، ولعلني اختتم هذا
المقال بالقول: قد احسن البروفيسور عبد الستار قاسم عندما قال في احد
مقالاته، مستغبيا السياسة الامريكية ومستغربا لها ( بان أمريكا تنفق
اموالها وثرواتها لشراء كراهية الشعوب ).
* كاتب فلسطيني |