التـنـقـيـب عـن ديـكـتـاتـور جـديـد

المهندس علاء فيصل

حين نقرأ كتابات ومقالات بعض الكتاب والنخب العربية تساورنا مشاعر الأسى والإستغراب. الأسى والأسف للوضع المزري الذي تعيشه بلادنا اليوم بسبب ما تعصف به من كوارث ونكبات والاستغراب لعدم الاتعاظ بالماضي الدموي والمهين.

قبل أيام مرت الذكرى الثالثة للحرب على صدام وسقوط أحد أبشع الديكتاتوريات في التاريخ. المناسبة كانت تتميز في هذه السنة بميزتين:

الأولى الوضع المستعصي للعملية السياسية في العراق والجمود والركود الذي خلفته الصراعات المتنوعة المتشابكة على الساحة العراقية...صحيح أن المشكلة تحلحلت نسبياً في لكن يتوقع أنها فتحت الباب أمام صراعات أصعب في المستقبل.

والثانية مواقف غريبة كثيرة في الإعلام العربي وغير العربي وبعض تلك المواقف للنخب تتناول الأزمة العراقية من جهة والحل بما فيه البديل من جهة اخرى وكانت تتميز تلك المواقف بسلبية مع الحنين إلى الماضي وتحديداً الأمل برجعة القائد الحديدي الأسطورة الفرد الواحد !! وكما كان صدام المخلوع.

هناك ارتباط وثيق بين الميزتين فالاحتقان السياسي وتلكأ السياسيين العراقيين في مسار العملية الديموقراطية في العراق أفسح المجال وفتح الباب بمصراعيه أمام الإعلام العربي ذات الطابع الشوفيني والطائفي والنخب العربية (السياسية منها أو الفكرية) لكي يلقوا الشتائم المتراكمة على صدورهم طيلة ثلاث أعوام الماضية , على الشعب العراقي الذي لم يخفي فرحته من سقوط الديكتارية والذي جازف بحياته من خلال مشاركته في ثلاث انتخابات على رغم كل الصعوبات والتهديدات الإرهابية.

لكن الأهم والأخطر من ذلك هو منحى الخطاب النخبوي العربي والذي بدأ يكشف صورته الحقيقة من خلال الحلول!! التي يقدمها ليس للعراق فقط بل للعالم العربي والشرق الأوسط  برمته والموقف المعادي لمشروع الديموقراطية.

فالمنظرين العرب بدؤوا وينظـّرون للنظريتين في آن واحد:

الأولى هي التشكيك بمدى جدوى الديموقراطية أوبالأحرى الممارسة الديموقراطية في بلداننا في ضل الظروف الراهنة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية وبالإجمال عدم التأهيل للممارسة الديموقراطية في هذه المرحلة.

والثانية التنظير لفكرة الديكتاتورية المرحلية وثم التحديث وصولاً إلى الديموقراطية!!

ولا شيء يمنع هؤلاء أن يستشهدوا بما يعاني منه كل من العراق وفلسطين وصولا إلى مصر من احتقان سياسي مزري وحالة اجتماعية واقتصادية متردية لإثبات صحة أقاويلهم.

وهذه هي النقطة التي أرادت الأنظمة السياسية الحاكمة الوصول إليها من خلال ثورتها المضادة للديمقراطية في الشرق الأوسط.

والذي كان واضحا من أولى خطوات تدشين المشروع الديمقراطي في الشرق الأوسط هو وحدة هذه الأنظمة حول محور إفشال هذا المشروع بشتى الطرق رغم كل إختلافاتها.

لكن لا يمكن إلقاء  اللوم كله على النخب أو الأنظمة فقط في هذا المجال.فهناك من يتحمل العبء الأكبر من الإثم واللوم في إيصالنا إلى هذه النقطة وإعطاء الذريعة لهؤلاء لترويض أفكارهم المريضة سياسياً وايدولوجياً.

إن التحولات التي عصفت بالشرق الأوسط والتي بلغت ذروتها في الأشهر الأخيرة ومع إجراء الانتخابات في كل من مصر وعراق وفلسطين أدت إلى وصول نخبة سياسية جديدة إلى سدة الحكم والتي  كانت تشكل جزءا من المعارضة في بلدانها سابقاً.

هذه الممارسة الديمقراطية أفرزت إشكالية بين فئتين من المعارضة والنخب التي كانت تعارض الوضع القائم في السابق.

وهذه الإشكالية هي التي أعطت الذريعة للحكومات والمنظرين للفكر الشمولي المتفسخ بتنظير أفكاره التوتاليتارية المريضة.

فالديمقراطية الوليدة والمنقوصة قسمت المعارضة السابقة إلى فريقين.

الفريق الأول ذلك الذي تمكن من استقطاب الرأي العام والوصول إلى المستويات عالية في هرم السلطة في بعض البلدان أوإلى قمة الهرم في بلدان أخرى من خلال صنادق الإقتراع.

والفريق الثاني ذلك الذي خسر اللعبة وفي النهاية وجد نفسه أيضاً في موقع المعارضة لكن هذه المرة المعارضة مع الحكام الجدد.

فالإشكالية قد تكمن في هذه النقطة تحديداً.

لكن كيف؟

يمكن القول بأن كل من الفريقين قد أدى الدور الذي كان من المفترض أن لا يؤديه والذي ساعد الأنظمة السلطوية الشمولية الحاكمة في ثورتها المضادة للديموقراطية بشكل أوباخر.

إن حقيقة ما قاموا به كل من الفريقين يمكن تسميته وبكل صراحة عملية إفساد الديمقراطية.

فبعد أن أفسدت الأنظمة السلطوية الشمولية الحاكمة في بلداننا كل شيئ من الإقتصاد والإجتماع والسياسة فأتى الدور على هؤلاء لكي يفسدوا الديمقراطية التي كانت ومازالت وستكون المخرج الوحيد ونافذة الأمل الوحيدة للإصلاح في عالمنا العربي والشرق الأوسطي.

فأصدقاء الأمس وفرقاء اليوم بدؤوا المضي في طريق مسدود لن ينتهي إلا إلى نسف كل الجهود وإهدار كل الدماء التي ناضلت طيلة هذه السنين لأجل الحرية والديمقراطية.

نعم , إن الذين كانوا يوماً يصرخون بشعار الحرية والديموقراطية أصبحوا اليوم عالة عليها. وبممارستهم غير الديموقراطية أصلا أفسدوا حتى إسم الديمقراطية وسمعتها.

فالفريق الأول والذي إنتهز الفرصة وقفز القفزة الكبيرة ووصل إلى سدة الحكم بتفويض من صناديق الاقتراع كان يعاني ومنذ البداية من عدة إشكاليات تخفيها وراء حجاب المعارضة.

الإشكالية الأولى ترجع إلى عدم إيمانها الراسخ والعميق بالديمقراطية وقيمها وأولويات العمل الديمقراطي مثل تداول السلطة والشفافية نظرياً وعملياً.

والتي تبين بعد وصولها إلى الحكم بوضوح والمفارقة أن الديمقراطية هي كانت الوسيلة الوحيدة لكشف الحجاب عن هؤلاء..

فمن الناحية العملية لن تمارس غالبية هذه الأحزاب المعارضة العملية الديمقراطية في داخلها طيلة حياتها السياسي وذلك مشهود في أساليب تعاملها الداخلي ومواثيقها الداخلية. ومن ناحية الشفافية فإلى حد اليوم لن  تكون لدينا أحزاب تتمتع بالشفافية من حيث مصادر التمويل وغيرها من مصادر الدعم.

والطريف أن لن نحتاج سوى أيام أو شهور قلائل لكي تطفوا هذه الإشكاليات على السطح وبعد أن وصلوا إلى سدة الحكم.

فها هم منهمكون وراء المناصب وتقسيم الحصص بينهم والبلاد والعباد تحترق وكل منهم  ينادي أين حصتي من هذه الكعكة الكبيرة!!.

إن الحقيقة المضحكة المبكية أن هؤلاء تدمقرطوا بين ليلة وضحيها وأنهم ركبوا موجة الديمقراطية فقط !!

 هذه الدمقرطة لن تتجسد حتى في مواثيقهم الحزبية الداخلية حتى وعدم الإيمان هذا يظهر في خطابهم بين حين واخر.

الحقيقة أن هؤلاء عندما إستنتجوا أن الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح لهم الفرصة للوصول إلى قمة هرم السلطة فأمنوا بها وصاروا  يرددونها.

فبدأت الصراع على المناصب وبدأ التهافت للتحالف حتى مع ألد الأعداء للحصول على حصة ولوصغيرة من الكعكة.

فكثيراً من هؤلاء إندس بما إندس به أسلافهم من الأنظمة التي طالما إنتقدوها وشتموها ( وإن كان هوالحق).

وبدأ الصراع والتشبث على أوبالكرسي وسموه بكل وقاحة ممارسات ديموقراطية.

لكن الفريق الثاني أيضاً كان يعاني من الإشكالية نفسها هو الاخر وهو عدم إيمانها العميق بالديمقراطية وكل ما قلناه عن الفريق الأول يمكن تطبيقه على هذه الفئة أيضاً.

لكن اللوم الأكبر والانتقاد الحاد الذي يمكن توجيه لهؤلاء يكمن في الحلول التي يطرحونها بين حين واخر وخصوصاً عندما يتعثر الفريق الأول في طريقه. والمؤسف أن هذه الحلول تلقى ترحيبا واسعاً من المثقفين والنخب العربية السياسية منها والاجتماعية.

يا ترى ما الحل الذي يطرحونه هؤلاء.الحل وبشكل مبسط يقول:

" إن شعوبنا  غير مؤهله حالياً للديمقراطية والممارسة الديمقراطية حتى فلهذا يجب الإيتان بمن يقوم بتحديث هذه المجتمعات ومن ثم ممارسة الديمقراطية !!"

والذي يبعث الإشمئزاز أنهم ليس لديهم مانع بأن يمسك زمام المبادرة ديكتاتور من الذين يزعمون بأنهم علمانيين للتطبيق هذه النظرية.

يالها من نظرية !!

يبدوا أنها اخر طبخة من مطهى الفكر العربي السياسي والذي يقوم بطبخ أفكاره من مواد استنفذت صلاحيتها ومنذ زمن طويل.

لكن يجب أن يسأل هؤلاء:

ألم يكفي ما مر علينا من دكتاتورين عبر العصور والأجيال؟!

لماذا لم يتحقق حلم التحديث على يد الأسلاف ومن الذي يضمن تحقيقه بيد الأخلاف؟!

هل أوصلنا الزمن إلى هذه الدرجة من البؤس الفكري كي ننقب وتحت الصخور عن أمثال المسئولين عن وضعنا المزري اليوم؟!

قرأت قبل أيام مقالاً في أحد الصحف المرموقة!! كان فيه الكاتب يبحث عن التطورات التي شهدته منطقة جنوب شرق أسيا وعندما وصل الكاتب إلى أندونسيا وبالتحديد زمن سوهارتوقام بالتمجيد والمدح اللامتناهي لسوهارتومدعيا بأنه الذي أوصل أندونيسيا من مرحلة الحداثة إلى الديموقراطية!!

بل وفي الأيام التي كانت تعاني العملية السياسية في من الإنسداد بذريعة الإختلاف على ترشيح الدكتور الجعفري ارتفعت صرخات وتعالت نداءات بالبحث عن فرانكوعراقي!!

ومع الأسف يكرر ويروج هذه النداءات الخطيرة من يدعي الليبرالية!!

لا يا أيها المحترمون

لسنا بحاجة الى سوهارتواوفرانكواواتاتورك اوغيبفارا اوالسفاح اوالحجاج  كي يسيروا بنا إلى الديموقراطية!! فتاريخنا ومقابرنا تأن من أمثالهم وعانينا بما فيه الكفاية والإعتبار.

والحل ينحصر في الديمقراطية نفسها... بالتفكير ديمقراطيا والتخطيط ديمقراطيا للإنتقال الى الديمقراطية... نحن بحاجة الى مشروع بأدوات ووسائل ديمقراطية لنشر وتجسيد وتكريس الديمقراطية والمسؤولية مسؤولية النخب... فعوضا من البحث والتنقيب عن ديكتاتور ينقلنا الى الديمقراطية يجب أن البحث عن مشروع كبير لتصنيع وتشغيل ماكنة إنتاج وظهور نخب ورجال سياسيين يؤمنون ويلتزمون بالديمقراطية وقيمها مع المعرفة بقواعد اللعبة الديمقراطية بجدارة وقدرة وحزم وعزم وتدبير وإخلاص وبعيدا عن الإنتهازية والفساد وإغراءات السلطة.

نعم هذا هو الحل الذي يجب أن نبحث عنه ليل نهار وهناك ما يكفي من الأمثلة في التاريخ المعاصر من الذين حملوا هذه الروح الديمقراطية الوطنية والحكمة العالية وإلى يومنا هذه يشهد التاريخ لهم بذلك وتدين لهم شعوبهم بذلك. التاريخ الحديث رغم مأسيه وتناقضاته لم يخلوا من أمثال هؤلاء الذين لم يستسلموا لوسوسة القوة والسلطة  فلم ينزلقوا إلى هاوية الديكتاتورية والإستبداد وصاروا قدوة خالدة للأجيال القادمة.

ألم يكن غاندي أب إستقلال الهند وواضع حجر الأساس للديمقراطية الهندية التي بدأت تعطي ثمارها اليوم للشعب الهندي؟!

رغم رصيده الشعبي الكبير الذي كان لا يمكنه من التشبث بالسلطة فقط بل حتى توريثه!!

يا ترى ما الذي جعل الأمريكيين يعتبرون جورج واشنطن أب الأمريكيين دون أن تسبح وسائل الإعلام باسمه اناء الليل وأطراف النهار.

نعم يحدثنا التاريخ ويقول:" بعد أن قاد جورج واشنطن الجيش الأمريكي في معركة الإستقلال وخاض حروب شرسة مع البريطانيين والتي إنتهت إلى إستقلال الولايات المتحدة والتصديق على معاهدة سلام في عام 1783, إنتخبه المجمع الإنتخابي في عام 1789 رئيساً للولايات المتحده بالإجماع.ثم إنتخب رئيسا للولايات المتحدة لفترة رئاسية ثانية لكن عندما إنتخبه المجمع الإنتخابي للمرة الثالثة رئيساً للولايات المتحدة وبالإجماع  رفض الترشيح الديمقراطي الثالث فصار قدوة ونموذجاً يقتدي به الرؤساء الذين خلفوه بل أسس لتعديل الدستور رقم 22 والذي حدد فترة الرئاسة بفترتين فقط."

نعم منْ يؤمن بحقيقة الحرية والديموقراطية وينادي بها يجب أن يكون أول منْ يلتزم بها وبما ينشرها ويكرسها ويحولها الى جزء محوري من الإدراك المعرفي الخالد للأمة ويضحي لذلك.

نحن اليوم في مسيس الحاجة إلى مثل هؤلاء الرجال الوطنيين الحكماء الوطنيين والمخلصيين والمؤمنين بالديمقراطية وأصولها لإنقاذ المشروع الديمقراطي الوليد في بلداننا من افة الصراع المقيت على المناصب والمكاسب والذي يجهض الديمقراطية وينعش جهود المنقبين الباحثين عن ذلك الرجل الحديدي الفرد الأسطورة في الديكتاتورية والإستبداد والتخلف.

معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات – واشنطن

http://www.siironline.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  7/ايار/2006 -8/ربيع الثاني/1427