الحديث
عن انعدام استقرار أمني شامل في العراق لا يخفي وجود مشكلات ملازمة
للمجتمع العراقي، ثاوية في طبيعته النفسية والاجتماعية قبل أن يرد عليه
الإحتلال. وربما تضاعفت أكثر، نتيجة لضغط الممارسات الديكتاتورية
وإجراءاتها القمعية والسلطة العارية لصدام حسين.
مضافا إلى ذلك، ضغط الحصار والتجويع الذي فرض على الشعب العراقي
لأكثر من عقد من الزمان، حيث استغله صدام أكثر من الإحتلال نفسه في
مزيد من إذلال شعبه والعبث بما تبقى من المال العام وما تبقى من
واردات الدولة في إطار النفط مقابل الغذاء، كي يصرف على أمجاد طاغية
العراق وتلميع صورته في الخارج وشراء ضمائر السياسيين والمثقفين كما
أسفرت عن ذلك فضيحة الكوبونات.
هناك إذن جانب من مشكلة المعارضة السياسية في العراق، حيث ظلت حتى
فترة المنافي تعيش حالة من التشرذم والتشتت والتنافس والصراع إلى حد
الاستئصال البيني أحيانا. وقد فوتت المعارضة العراقية على نفسها الكثير
من الفرص، بسبب عدم اتحادها ونظرا لضغط الأوضاع الإقليمية والدولية
وملاحقة النظام الصدامي لرموزها. لكن كل هذا لا يمنع من وجود موقف هو
الأغلبي في العراق، يتعلق بذلك التوق غير المشروط للحرية التي لم
يعرفها المجتمع العراقي على مدى تعاقب النظم ذات الصبغة الإنقلابية.
لم تأت المعارضة العراقية بالاحتلال ولا أتت به الأغلبية الصامتة
اليوم كما يحلوا للكثير من المحللين الجاهلين بالأوضاع الحقيقية للعراق
أن يتحدثوا في الكثير من وسائل الإعلام العربية؛ فالاحتلال هو واقع
فرضته سياسة صدام الرعناء.بل هو نتيجة حتمية لكل مغامرات هذا الأخير،
والتي كانت تستقوي حتى حين بالوضع الذي فرضه قانون اللعبة الأمريكية
في المنطقة، حيث كان صدام فارس اللعبة الأمريكية المذكورة في المنطقة.
فصدام لم يكن ليثر في وجه أمريكا لأنها إمبريالية، بل إنه أحس بعدم
حاجتها لأدواره ومغامراته بعد نهاية الحرب الباردة، وبعد أن فشل في
إقناعها بأن دوره لا يزال مهما حتى بعد تغير الأوضاع الدولية، وهو ما
أظهره جهله المركب بالسياسة الدولية. يتطلب الأمر إذن أن يتعاطى
المجتمع العراقي مع محنته على أساس أن هناك احتلالا واقعا، فكيف نجعله
يخرج من دون أن ينهد العراق في حروب أهلية طويلة الأمد يقودها أغراب
ملثمون لا يملكون شيئا من الحياء وهم يفرضون نهجهم الوحشي وخيارهم
الدموي على المواطن العراقي.. وكيف نعجل بهذا الخروج بعد أن توضع قواعد
نظام عراقي جديد ديمقراطي وحر وكامل السيادة. وفي هذا الإطار فشل دعاة
ما يسمى بالمقاومة المسلحة بأن يقنعوا أغلبية المجتمع العراقي بحقيقة
ونظافة مشروعهم. وذلك وجه آخر من وجوه محنة العراق، إذ المقاومة لم
تقدم نفسها بمدلولها الوطني، من حيث الممارسة الدموية التي راح ضحيتها
المواطنون؛ مقاومة تقدم نفسها في إطار مشروع أيديولوجي مرفوض دوليا
ومحليا، بوصفها امتدادا لتنظيم القاعدة. ومن شأن مقاومة كهذه أن تعقد
الأمور، وتجعل استدامة الإحتلال أمرا مستساغا جدا، برسم الحملة الدولية
على الإرهاب. ولا يخفى أن الإرهاب هذا أمر موجود في العراق اليوم، ولم
يعد خافيا أن ضحاياه بالجملة هم المدنيين العراقيين، وبأن استهدافاته
تناقض أهداف المقاومة العادلة للشعوب الرازحة تحت نير الإحتلال.
والمسؤول عنه ليس هو الإحتلال نفسه الذي استدرج فلوله داخل العراق
فحسب، بل إن صدام حسين كان قد فتح الباب على مصراعيه لكل المطاردين
المنتمين إلى تنظيم القاعدة، بعد أن شكل جيشا آخر من النخب الثقافية
والسياسية والإعلامية، نخبة كوبونات النفط العراقي، تكفي للدفاع عن
مصير صدام التكريتي. فكانت الحاجة ماسة لهؤلاء المقاتلين العرب، الآتين
من الأتون الأفغاني.إن تقاطر من سموا يومها بالمقاومين العرب
والفدائيين الذين استقبلهم العراق قبيل الإحتلال بشهور وأسابيع من
مختلف الأقطار، قبل أن يعيدهم سالمين إلى بلدانهم حينما أوشكت أن تدق
نواقيس الحرب، إنما هي تلك اللحظة التي غطى بها صدام على دخول قسم من
تنظيم القاعدة. وحده التنظيم الذي يمكنه الإعتماد عليه، ليس في مواجهة
الإحتلال، حيث ظن صدام بأن حربا كهذه لن تقع، وربما ظن تحت سكر هذا
الهذيان، بأن أمريكا لن تملك أن تخلع عميلا لها بالأمس مع عدم وجود
بديل له. إن الغرض من هذا الاستقطاب كان هو قمع أي انتفاضة شعبية
متوقعة، بعد أن لم يكفه المجموعات المقاتلة لتنظيم "خلق" و ما سمي
حينها بجيش تحرير القدس، والتي تبين أنها لا تعدوا كونها فرق مهيأة
لمواجهة أي انتفاضة محتملة، كما حصل بالفعل في الانتفاضة الشعبانية على
اثر انسحاب الجيش العراقي من الكويت.
وهكذا بات الشعب العراقي يواجه قمعا تنفذه كل هذه التنظيمات التي
احتلت لها معسكرات بداخل العراق وشكلت خلفية أمنية لحماية النظام، كما
واجه استهتارا وحملة إعلامية من الاعلام العربي خارج العراق لا سيما
ذلك الإعلام الذي طالما تلقى دعما غير محدود من النظام العراقي حتى بعد
الحصار. أجل، إن ما يبدوا مقاومة في العراق اليوم، هو مشروع استرهاب
للشعب العراقي، ومشروع استيطان مشاريع ذات نوايا طائفية، تريد جر البلد
إلى حرب أهلية : فإما أن يكون العراق صداميا أو قاعديا أو لا يكون. لقد
حصل بين جماعات صدام ويتاماه وبين فلول المقاتلين الغرباء على العراق
نوع من الإجماع المركب الطارد للثالث المرفوع، إما نحن أو أنتم، ولا
وجود لطريق ثالث. وهذا ما يفسر حقيقة التصعيد في الفعل الانتحاري، حيث
يفجر كل واحد منهم نفسه أمام صناديق الاقتراع المكتظة بالمواطنين الذين
أصروا على الحضور وكذبوا حكاية أن الأغلبية معهم. وحيث سيقدم معظم
الشعب العراقي دليلا صارما ضد مكابرة الأقلية المهملة من المتطرفين
بالعراق الذين لا زالت تتحكم بهم النزعات الطائفية البغيضة، من خلال
الانتخاب على مسودة الدستور التي حررها وناقشها عراقيون أحرار، ولم يكن
ممنوحا كما تخيله أولئك الذين كانوا حتى الأمس القريب يتمدحون بالدستور
الممنوح والمنتهك أيضا من قبل صناع المقابر الجماعية. نعم لقد تبين أن
هذا النوع من الإرهاب مرفوض من المجتمع العراقي ومحرج له ولا يسمح
بالعملية السياسية أن تأخذ مجراها. فبعد أن فشل مشروعهم في أفغانستان،
هاهم يحاولون الأمر نفسه في العراق ؛ العراق الذي لا يحتاجهم في
استقلاله. حيث لا يوجد في العراق من يقبل بالاحتلال، لكن لا يوجد في
العراق من يؤمن بمشروع الإرهاب كطريق للمقاومة، حيث بات من الضرورة أن
تطرح الأمور بوضوح تام : هل في أجندة التنظيمات الإرهابية الدموية أن
تطرد المحتل الأمريكي والبريطاني وحلفائه، أم في نيتهم طرد الشيعة
والأكراد ـمن غير تنظيم الأنصارـ والصابئة والمسيحيين وكذا الشيوعيين
والديموقراطيين العراقيين وكل من هرع إلى صناديق الاقتراع،
والاستفتاء..وإذن ما معنى مسلسل الاغتيالات الذي طال رموزا من علماء
وسياسيين شيعة؟!
ثم إن الذين يقولون لنطرد الاحتلال أولا ثم نتحاور، هل هم ضامنون
لأن يتحاور الإرهابيون مع غيرهم في المجتمع العراقي، فهل هم في الأصل
أهل حوار، أفلا يعني ذلك التغرير بالمجتمع العراقي للدخول في مصير
مجهول من الحروب الأهلية الفتاكة.إن حربا أهلية في العراق لن تكون مجرد
نزهة. فإذا كانت قوى الإرهاب في العراق تظن أنها بإمكانها الضغط
والسيطرة على المجتمع العراقي بالإرهاب والدعم الذي تلقاه من القاعدة،
فإن تحرك الأغلبية الشيعية في هذا الإتجاه من شأنه أن يحول العراق إلى
نار فوق الرؤوس. وهنا يحسب للمرجعية متمثلة في شخص السيد السيستاني
أنها وقفت موقفا مانعا من أي ردة فعل أمام استفزازات الزرقاويين، لا
سيما بعد التفجيرات الإرهابية التي طالت علماء وسياسيين كما طالت
المشاهد المقدسة في النجف وكربلاء وسامراء.وهو الدور الذي يتعين أن
يقدره كل العراقيين سنة وشيعة وكردا، بأن الوحيد الذي يتحرك بوعي وعقل
ومن دون انفعال وتعصب وحسابات عرقية أو طائفية هو السيد السيستاني،
ومواقفه ضامنة للوحدة الوطنية وعدم تجزئة العراق.
من هم الخونة
قد يفجع المرء لما يرى أمامه هذه المواكب الجنائزية التي تتقدم بخطى
حثيثة بهذه النعوش التي كادت تغطي ميادين وساحات العراق، لدفن آخر ما
تبقى من ضمير عربي. والعراق محطة كبرى لاختبار نوايا الكثير من الأطراف
التي تحددت علاقتها مع العراق على زيف الصورة العراقية التي نسجها صدام
حسين في أعين الأغيار، بمعاوضة دموية أسفرت عنها ملحمة التدمير الممنهج
وفاجعة المقابر الجماعية التي كان بطلها صدام وزمرته التي ظلت متحكمة
بالنفوس والأرواح طيلة عقود من الزمان.عراق مزيف، كل ما فيه
كاذب..وأساطير تسكر المستمع، بينما هي تخفي الوجه المتوحش والقذر
للطاغية العربي النموذجي: صدام حسين! وحينئذ بدا العراق، هو هذه
الصورة المختزلة حد الغثيان؛ عراق تكريت والعوجة على سفح دم من الأرواح
الكردية والشيعية. لقد قبل المثقف العربي والنظم العربية أيضا بهذه
الصورة المزيفة للعراق كما رسمتها الريشة الدموية لصدام حسين، وعملت
الرشوة الصدامية عملها الكبير لاستقطاب الطرارين العرب المؤلفة قلوبهم
من المناضلين السياسيين والمثقفين العرب، لينضموا إلى ملحمة التزييف
العراقية الكبرى..وحتى لما كان صدام يسفك الدم الشيعي في جنوب العراق
على إثر الانتفاضة الشعبانية تحت أنظار القواة الأمريكية وفي صمت مريع
من العرب، وخرس من ضمير مثقفي الكوبونات الذين طاب لهم اليوم أن يقدموا
دروسهم الهوجاء للأغلبية العراقية التي اكتوت بنار غدرهم وأكاذيبهم
والتمدح لجلاد يهم والدعم المعنوي للإرهاب الذي يحصد شيوخهم ونساءهم
وأطفالهم ويدمر مقدساتهم ؛ أجل، حتى بعد كل ذلك، لم يكد أولئك المزيفون
أن يستبصروا صورة عراق حقيقي كان يحفر للزيف أخدودا، لن تقوم له بعد
ذلك قائمة. باسم الاحتلال الأمريكي أعطى يتامى صدام وسماسرة الكوبونات
لأنفسهم الحق في دعم مقاومة الزرقاويين، وهللوا لسافك الدم الشيعي
المراق هدرا. ولم تسمح المكابرة بأن يعترفوا بأن شيعة العراق هم
بالنتيجة من ناور لإنقاذ العراق من تداعيات الاحتلال المحتوم.
فالمرجعية الشيعية في العراق هي التي أكرهت بريمر بمقاومتها الصامتة
للمغادرة، والتراجع عن أجندة الإحتلال في وضع حكومة عسكرية أو منحهم
دستورا ليس من صياغة العراقيين و والتعجيل بالانتخابات..كل هذا بنضال
شيعي عتيد وحكيم وليس من صنع الزرقاويين الذين أغرقوا العراق في الدماء
البريئة. وتواطؤوا ضمنيا مع أجندة الإحتلال. لم ير صناع الأوهام
العربية في مبادرات وجهود الكوادر الشيعية المنخرطة في العملية
السياسية بالعراق ما هو جدير بالتقدير. فالمكابرة تعمي عن تلمس
المنجزات والمكتسبات التي ما كان للاحتلال أن يجود بها إطلاقا. ففي
الأيام الأخيرة من رمضان ألقى محسن عبد الحميد درسا في مسجد الحسن
الثاني بالدار البيضاء، درسا وعظيا سرعان ما فاجأ الناس، بخروجه عن
موضوع الموعظة، ليتناول شيعة العراق بالشتم والسب، متهما إياهم
بالخيانة.والحق لو كان هناك خائن، فلن يكون غير هذا الشخص الذي أسفر عن
وجهه الطائفي البغيض في أرض بعيدة لا علم للناس بتعقيدات مشهدها
السياسي. فعبد الحميد الذي شارك في مجلس الحكم الانتقالي، وكان تحت
إدارة بريمر، لا يمكن أن يتهم شخصا في مستوى مرجعية السيد السيستاني
بالخيانة، بينما هذا الأخير لم يلطخ يده بالسلام على بريمر رافضا
استقباله رأسا.من المستفيد من الوجود الأمريكي غير أولئك الإرهابيين
الذين يطيلون من أمد الإحتلال بتصرفاتهم الإرهابية الرعناء..ومن يستفيد
من الحصار الأمريكي للقواة العراقية بأن لا تؤدي دورها بحرية كاملة
لاستئصال شأفة الإرهابيين.
في السياق نفسه يتحدث ياسين زعاترة على نفس الوتيرة ويمضغ التهم
الرخيصة نفسها التي نفتها يتامى صدام، ويقدم دروسا لأغلبية العراقيين
القابلين بالدستور والمقاومة السياسية للاحتلال،في وقاحة منقطعة
النظير. والغريب أن بعض الإسلاميين المغاربة كرموا وجهة النظر الساذجة
تلك، حيث تنشر جريدة التجديد، عمودا للمدعو زعاترة، عبارة عن شتم وسباب
لا نهائي لشيعة العراق. ولا أحد يجد نفسه في حاجة كي يرد على مثل هذه
القذارة الكلامية، إلا أن يقول: إذا لم يرضيكم وضع شيعة العراق وأيضا
موقف الأكراد، فمن سيبقى في العراق..ولو أننا نزلنا عند رغبة شرذمة من
الإرهابيين والطائفيين، كيف سيكون المآل لو انتفضت الأغلبية الشيعية في
العراق، بل لما يتأسف البعض أنه لو لم يلتزم الشيعة الحياد في العراق
لما استطاع المحتل أن يدخل البلاد، كيف يقال ذلك إن كان هؤلاء لا زالت
المكابرة تدفع بهم لإنكار حقيقة الأغلبية الشيعية بالعراق، وهو واقع لا
يستند إلى الرغبة الطائفية..متى كانت الأقلية تسعى لحماية الوطن، في
حين تتهم الأغلبية بالخيانة..وستكون سابقة في تاريخ الاجتماع السياسي
أن الأقلية تتهم الأغلبية في التفريط. وغريب أن يصدر مثل هذا الكلام عن
إسلاميين، وهم اليوم في خندق واحد مع يتامى صدام وفلول الزرقاويين،
مثلما كانوا دائما متفرجين على الدم العراق الشيعي المسفوح، بالارهاب
الصدامي والمباركة الأمريكية..أين كان يومها الزعاترة وكل الوقحين من
صناع الكراهية الطائفية، ومن الأقزام الثقافية التي تظن أن برعونتها
ستكسب معركة الكراهية. سوف ينتصر العراق، ولن يبقى فيه زرقاوي واحد،
وسيتعب أمثال الزعاترة وأمثال عبد الباري عطوان، وكل المغرضين من أهل
الكراهية و أصحاب الكوبونات، سراق الشعب العراقي المحاصر.
الأخطاء الأمريكية والمسألة العراقية
كان بالإمكان أن تنجح العملية الأمريكية في العراق، لو أنها سارت في
اتجاه المصلحة العراقية من دون حسابات منطق الاحتلال وسياسة خلط
الأوراق.إن بين العراقيين والولايات المتحدة الأمريكية مسافة نفسية، لا
يمكن بسهولة محوها من الذاكرة العراقية.ليس فقط، حيث باركت الولايات
المتحدة الأمريكية الانقلاب الصدامي على حسن البكر، والدخول في صفقة
دعم مشروع صدام الأرعن بغزو إيران، ولا بالطريقة الرخوة التي استقبلت
بها السفيرة الأمريكية ببغداد قرار احتلال العراق للكويت..كل هذه فصول
ملحمية دامية من تاريخ العراق الجريح. لكن منتهى الخطيئة تجلت في خذلان
الشعب العراقي في انتفاضته الشعبانية التي كادت تنهي حكم صدام، والسماح
لطاغية العراق الكبير بأن يحصد الأرواح ويقمع الانتفاضة عبر جرائم حرب
مشهودة، وعملية إبادة واسعة طالت خيرة شباب وعلماء العراق..بل أكثر من
ذلك أن الذي سبب ديمومة نظام صدام، هو نفسه الذي أدخل العراق في حصار،
كان الأشد و الأطول من نوعه في تاريخ البشرية. حصار فرضته أمريكا على
الشعب، بيد أن صدام لم يكن يذوق من جوع أهل العراق، بل لقد ازداد غنى
واتسعت قصوره وازدانت، وبلغ كرمه أن صرف من الكوبونات وثمن رغيف شعب
محاصر على كل أولئك السياسيين والمثقفين الذي حجوا طمعا في العطاء
الصدامي، أولئك الذين شكلوا أكياسا من الثرثرة لحماية الطاغية في
الخارج..كان بود أمريكا اليوم أن تكفر عن خطيئتها، وإن كان هذا طلبا
طوباويا، حيث الدول تحكمها المصالح، والدولة العظمى هي دولة بيزنيس
بامتياز.لكن لنفترض أن شيئا من الأخلاق لا زال يحكم علاقاتنا الدولية
ولو في نطاق العمومات، فسيكون من الواجب على الدولة العظمى أن تتحرك
بسياسة إنقاذ شعب حاصرته وفرضت عليه الديكتاتورية ردحا من الزمان..غير
أن الولايات المتحدة دخلت العراق، وهي تسعى للعبث بالمنطقة و إنذار
باقي دول المنطقة بالتغيير والاحتلال. لقد كانت سورية وإيران أكبر
المتضررين بسياسة صدام الرعناء.ولا ننسى أن صدام وحده من كان يحرص
المصالح الأمريكية بالمنطقة.فكيف حينئذ نفسر استياء سورية وإيران مما
يجري اليوم في العراق، سوى أن أمريكا نفسها تدفع باتجاه التنكر للواقع
الجديد الذي أسفر عنه احتلال أمريكا للعراق..هل ينتظرون نجاح النموذج؟
الفشل الذريع للولايات المتحدة الأمريكية لم يكن ناتجا عن إسقاطها
لصدام حسين الذي استقبله الشعب العراقي بالترحاب. بل كان سيكون الأمر
في غاية الاستثناء لو أن الاستراتيجية الأمريكية تخلت عن أطماعها
البعيدة في المنطقة. وهذا طبيعي، فوجودها هناك لم يكن نزهة أو عملا
خيريا.وليس في السياسة تأنيب ضمير! لكن ما بدا فشلا لم يكن نتيجة
لضغط الإرهابيين الذين لم يفعلوا في ملحمتهم الدموية أكثر من قتل
المدنيين العزل في الأسواق وأماكن العبادة. إن فشل المخطط الأمريكي مرة
أخرى جاء نتيجة مناورات حقيقية قامت بها كل من إيران وسورية، بعد أن
كشف المخطط الأمريكي أن استهدافاته لا تتوقف في العراق، بل ستتعدى إلى
كامل المنطقة العربية في إطار مشروع شرق أوسط كبير. لقد فشلت العملية
لأن الولايات المتحدة أخفت نواياها من غزو العراق، فلم يكن في واردها
إسقاط ديكتاتور طالما ساعدته في مغامراته وسطوته على شعبه لانهاء
الحصار المفروض على شعب بكامله، بل كانت لها أجندة أبعد من ذلك، أن
تبسط هيمنتها على المنطقة وتعيد بناء نفوذها على أساس من الفوضى
البناءة. ولهذا السبب تحديدا، فشلت في تأمين انتقال سلمي للسلطة في
العراق.
من فانتازيا الهلال الشيعي إلى هزلية الطعن في الولاء
ما الذي دهى العرب هذه الأيام..وهل حقا آن الأوان لإخضاع العقل
السياسي العربي لجلسة الصابر؟
هناك خوف مرضي من أن يحكم الشيعة العراق باعتبارهم الأغلبية التي
قادتها صناديق الاقتراع إلى سدة الحكم..وقد يعذر أولئك المتخوفون لأنهم
أدمنوا على نكران أصل الوجود الشيعي وحقه في البقاء، فكيف يسلمون له
بالحكم حتى لو كان القائلون بذلك أقلية لا تحتل من العراق إلا المحول
والأرض الجدباء..وإذا كانت بغداد شيعية وكربلاء والنجف كذلك..فهل يعقل
تصور عراقي من دون هذه المحافظات. تحدث العاهل الأردني تحت تأثير
الخواف الشيعي عن هلال شيعي في طور التشكل في المنطقة. واستمرت فلتات
اللسان على الموال التخويفي تارة والتخويني تارة أخرى كما تحدث أخير
السيد الرئيس مبارك. ولم يعد أحد من هؤلاء الساسة يراقب ألفاظه وهو
يتحدث عن حقيقة صدمتهم بقوة منطقها ؛ أن ثمة أغلبية في العراق كانت
مغيبة ومقموعة في بلدها. وأن ثمة مجموعة بشرية تعيش في قلب عالم عربي
وإسلامي لا يزال يشكك في حقها في الوجود بله أن تتحدث عن حقها في
الحكم. إن ما يبدو عبارات مسيئة للشيعة في العراق من قبل هؤلاء الساسة،
إنما هي نتيجة ثقافة سادت ولا تزال، وهي التي تفسر لامسؤولية الخطاب
وفجاجة التعبير.وسوف يستمر هذا الجسم العربي أسير أنماطه وثقافته،
وسيصدم آلاف المرات بهذه الحقيقة قبل أن يسلم بها. إن عراقا ديمقراطيا
وحرا ومحررا من الاستعمار وكامل السيادة وموحدا، سيبرز لكل هؤلاء
المغفلين، بأنهم كانوا يعيشون أشوه الأحلام، وحينها سيدركون، ليس فقط
أنهم كانوا متعسفين في قراءتهم للمشهد العراقي فحسب، بل سيتبين لهم أن
من كانوا يحرضون المنطقة والمنتظم الدولي ضدهم أو يشككون في وطنيتهم أو
يصفقون لجلادهم ويعتبرونه بطلا، هم من سيحمي العرب وهم بحق فرسان
المرحلة! |