لم يكن بمقدوري ان استوعب بان كافة الفصائل الفلسطينية تخوض الان
حربا اعلامية شعواء تتغيا من ورائها محاولات تسجيل النقاط القاضية ضد
بعضها البعض، ولم يكن بمقدوري ايضا ان ارى ذلك الانحدار الكبير الذي
وصلت اليه مستويات العمل الوطني السياسي الفلسطيني من الاقتتال
الاعلامي على قنوات التلفزة الفضائية، وكأننا نمارس متعة غير مسبوقة في
الاتهام والاتهام المتبادل الذي تحول الى غذاء حيوي لمقدمي البرامج
المستضيفة عبر العشرات من اللقاءات البطولية على الشاشات. الغريب في كل
ذلك ان الاحتلال لا زال يشدد من قبضته الوحشية ضد ابناء الشعب
الفلسطيني كافة، دون الالتفات الى تلك الانتماءات الحزبية التي توقعت
ان تتلاشى امام الاخطار الداهمة والازمات المحدقة بالشعب الفلسطيني من
كل الاتجاهات، اي انني اشعر بان السجال المتفاقم بين مختلف الفصائل قد
تقدم باشواط كبيرة جدا عن ذلك السجال الذي يجب ان يكرس ضد الاحتلال
وسياساته التي لم تتوان في اي لحظة من اللحظات عن الحاق كل انواع الاذى
النفسي والجسدي والاقتصادي بالشعب الفلسطيني برمته. لم يعد بالامكان
السكوت عن الاحداث الساخنة التي تجري بشكل متلاحق على الارض والتي
اصبحت بادية للعيان، ليس فيها مواربة او هروب، فالشعب الان يرى بدون اي
ضبابية او غيوم، والشعب ايضا يعيش في مرحلة العذاب النفسي مما يرى
ويسمع من خلال المواقف الفصائلية والحزبية التي وضعت الوحدة الوطنية
على هامش العمل السياسي الفلسطيني، وكأنها اصبحت من المسائل الهامشية
التي قد يتم اللجوء اليها في بعض الاوقات، حين يتطلب الموضوع حملة من
الشعارات الجاذبة لجمهور الناخبين من هنا او هناك، وسرعان ما يذوب
الشعار عند ظهور اي ازمة صغيرة ساهم بها جهل سياسي من هنا او او غباء
حزبي من هناك، لتجد ان العزة الحزبية لا تفتح المجال او الفرصة امام
الفصائل لتلتقط الانفاس الدافعة للعودة الى الاطر الوطنية الواجب
التعامل من خلالها مع كل المستجدات.
اقول هذا وقد امتأت حنقا مما ارى واسمع يوميا من المشادات والجدالات
التي لا تسمن ولا تغني من جوع امام اللاشيء، فلا نستطيع ان نطلق على
انفسنا باننا قد اصبحنا نظاما سياسيا يتبلور في الدولة، ولا نستطيع ان
نقول باننا نمتلك قرارا سياسيا منعزلا عن العوامل المؤثرة اكثر من اي
مكان في العالم، ولم نصل بعد الى شبه سلطة وليس الى شبه دوله فقط،
وبالتالي فانني لا ارى واعتقد ان الكثيرون قد تنبهوا الى ذلك، ما هو
الداعي الذي يقف امام الهدوء المتبادل على الاقل في التصريحات، عن اي
المناصب وعن اي الصلاحيات يتم النزاع والصراع الان، اتذكر بان الراحل
ابو عمار بعد اعلان الاستقلال في الجزائر، كان قد سئل في يوم من الايام
عن شكل الدولة التي سيتم اقامتها على ارض فلسطين، فاجاب: لا نريد ان
تقتتل على جلد الدب قبل اصطياده، وها انا اكرر نفس المقولة، سواء
اتفقنا مع الرجل ام اختلفنا، اين هو الدب الذي نتصارع للحصول على جلده،
لا زال الدب رهينة القيود الاسرائيلية، وحراس الدب لا زالوا في
المعتقلات الاسرائيلية، لم يفرج عن واحد منهم، فلا زال اسرى حماس واسرى
فتح والشعبية والديمقراطية والجهاد والمستقلين قابعين خلف القضبان، لا
زال مروان البرغوثي وحسن يوسف واحمد سعدات وعبد الرحيم ملوح وراكاد
سالم، والالاف المؤلفة من الرهائن الفلسطينيين داخل المعتقلات، لا زالت
الحواجز الاسرائيلية تقطع اوصالنا وتخنق انفاسنا، ولا زال ثعبان الجدار
يواصل التفافه على البقية الباقية من ارضنا، ولا زالت المستوطنات تتمدد
في اجسادنا، ولا زال الزيتون يقطع والبيوت تدمر، والشهداء يسقطون،
والجرحى يعانون، اذا اين ما نقتتل عليه، ام ارضاء الاطراف الاخرى اصبح
غاية تتقدم على الغايات الاخرى، تلك الاطراف التي لا تتنبه الى
الفلسطيني الا في الاوقات المصلحية، الا لتحقيق خطوة جديدة في لعبة
الاوراق وخلطها، حتى لو اندثر الشعب الفلسطيني من ورائها، فهي تحرض على
قتل الفلسطينييين في هذا البلد، وتدعمه في ذاك.
تقلبت الولاءات الوطنية لحساب ولاءات اخرى، وانهارت الكثير من
الشعارات امام شعارات براقة جديدة، وانهارت الكثير من اركان الوحدة من
اجل منصب هنا او منصب هناك، واصبحت النكاية عنوان المرحلة التي نعيشها،
وتحولت المناكفة قدرا فلسطينيا جديدا على الشعب الفلسطيني ان يتحمل
نتائجه، وكأنه مطال بان يدفع ثمنا لولادته على هذه الارض. ان الشعوب
التي تقع تحت الاحتلال لا ينبغي لها الا ان تتوحد، ولا ينبغي لها الا
ان تربي اجيالها على ذلك، بل ومن المحتم عليها ان ترضعهم حليب التماسك،
وان تسعى الى تنشئتهم تنشئة تتوافق مع الوحدة الوطنية بكافة اطيافها
وعلى اختلاف توجهاتها. يؤلمني جدا ما اقراه من تعليقات على الشبكة
الدولية من انتقادات للفلسطينيين على ما وصلت اليه حالهم من الفرقة
والتنازع على اللاشيء، ويؤلمني اكثر بان القادة السياسيين يتجاهلون
واقعا حقيقيا من الماساة التي يمر بها الشعب، بل ويصرون على ادخاله الى
عالم من التخبط والمجهول، وكأن الشعب الفلسطيني قد انهى كافة ملفاته
العالقة ووصل الى حلول اعجازية لازماته التي يمر بها، دون الاداراك بان
تنقل صناع القرار واعضاء المجلس التشريعي واعضاء القيادة السياسية
بحاجة الى تصريح مرور احتلالي، او لكأنهم نسوا ان كلهم معرض للعزلة او
الاعتقال او تقييد الحركة، يتناسون ذلك ويبتدعون من اساليب المناكفة
السياسية ما لم يخطر على بال الشعب من قبل، فهذا في تحالف من هذه
الدولة، وذاك في حلف وثيق مع ذلك البلد، وهؤلاء ضد هؤلاء ومصالح الشعب
في الهواء.
كانت الوحدة الوطنية شعارا براقا، خاطفا للاضواء من كل الاتجاهات،
وكانت بالفعل قادرة على لملمة الكثير من الجروح التي شقتها الظروف في
الجسد الفلسطيني في كل مكان، وكانت الوحدة الوطنية دوما طريقا معبدا
بالالام المشتركة والدماء النازفة، والنكران المستفحل من بعض الاطراف،
وباعتقادي ان الوضع لا زال على ما هو عليه، بل وانه ازداد تعقيدا، اي
ان الوضع الان يحفز على مزيد من الوحدة ومزيد من التلاحم، فكما كانت
الوحدة الوطنية جسرا متينا ومسلحا بالقيم الوطنية التي تذوب ازاءها
كافة الخلافات والمنازعات والاختلافات والالوان، ويتحول الفلسطيني الى
لون واحد من المعاناة والامل، والى طيف واحد من الانجاز والعمل، والى
قرار واحد في توطيد الوحدة ورفع وتيرتها كلما ازدادت الاخطار. اعرف بان
الكثيرين يدركون ان المصير الفلسطيني المشترك يحتم عليهم الرضوخ لنداء
الوحدة مهما كان ثمنه، لان الكرامة الوطنية المشتركة تفرض التنازل عن
بعض المواقف الحزبية الضيقة التي قد لا تساهم في حماية الشعب ومصالحه
ان لم تكن جزء من البناء الاصيل للوحدة الوطنية.
على الجميع ان يتنبه الى حقيقة مفادها بان السلاح الاقوى الان،
والبعيد عن الشعارات الفارغة هو التوحد، التوحد يعني الهدوء في مواجهة
الاخر، يعني الالتزام بالمعاني المشتركة حتى لو كانت تنتقص من بعض
المعاني الفصائلية الحزبية التي قد لا تجد لوحدها طريقا الى بناء الذات
الوطنية الموحدة التي تتناغم فيها حركة الاطراف مع حركة الدماغ، فلا
ينبغي للاطراف ان تتصرف على هواها او على خلاف ما تقتضي طبيعة العقل،
لان ذلك سيكوت خللا واضحا قد يؤشر بوجود الاعاقة التي تظهر الجسد
عاجزا، او في طريقه الى العجز مع الايام. فالوحدة الوطنية الصادقة لا
تخطيء، فهي القادرة على وصف الدواء حتى لو كان مرضا عضالا، وهي القادرة
على لملمة خرائط الوطن الممزقة، بعيدا عن الخاص من المفكرات والاجندات
والاحلام والتعبيرات، وقريبا جدا من القلوب التي يريحها ان تعيش في
البيت الكبير، محافظة على استقلاليتها ولكن في حدود ما تفرضه قوانين
البيت الكبير. ولذا فاننا نكررها مرات ومرات، ولن نمل تكرارها الوحدة
اولا، الوحدة دائما، الوحدة اولا واخيرا.
nakhanfar@yahoo.com |