المسألة الديموقراطية والعراق

كتب:أحمد شهاب

يشكل دعم الديموقراطية ركيزة اساسية لحسم خيار التحول في اتجه مساوق لرغبات الجمهور، اذ ليس صحيحا الاعتقاد بأن التحول من نظام شمولي الى آخر ديموقراطي يتم بمجرد استبدال النظم الحاكمة، فقد يؤدي التغيير الى استبدال نظام مستبد بنظام مستبد آخر. فما يتسم به العالم المعاصر من نزوع نحو الديموقراطية، يستوجب التأييد من قبل القوى السياسية والنخب الاجتماعية في كل بلد على حدة من اجل ان يأتي التحول الديموقراطي واسعا ولصالح ابناء المنطقة.

ما اطرحه هنا لا يقف عند حدود الحديث النظري القائم على الافتراضات المثالية، وانما ثمة تجارب في التحول الديموقراطي انتظر الجمهور ان تصب في خدمتهم وصالحهم العام، لكنها انتهت كابوسا يؤرق حياتهم وينهش امنهم واستقرارهم العام. هذه المخاوف مبررها ان تهديدات الاستبداد تمس بلدان المنطقة بصورة مباشرة. فهي لا تعاني من سلطوية الانظمة الشمولية فقط وانما تعاني ايضا من هشاشة الحركة المطلبية المتوجهة لتعزيز الحقوق والامتيازات الوطنية، وغلابا ما تقف الحركة المطلبية عندما يمكن تسميته بالانتصارات الوهمية التي تعتقد انها تنجز وتتقدم دون ان يكون لهذا الاعتقاد ما يدعمه على المستوى الخارجي.

من هذا لا يكفي التوقف عند الادعاء بالعمل والانجاز، لا يكفي عقد جمعيات عمومية واجراء انتخابات شكلية، ولا يكفي تأسيس مكاتب اعلامية وسياسية وعلاقات عامة، ولا يعتبر انجازا زرع ابواق اعلامية في الصحف واجهزة الاعلام تمثل الحركة السياسية كما هو المعمول عند اغلب جماعات العمل السياسي في الوطن العربي، وانما المطلوب في الدرجة الاولى دعم التحول الديموقراطي من خلال توفير شروطه الموضوعية، واول شروط التحول تحصيل اجماع وطني على ضرورة التحول، لتكون الديموقراطية مطلبا وطنيا عاما، وليس امتيازا لفئة أو جماعة دون اخرى، ومن بين تلك الشروط ايضا الاتسام بقدر من الوضوح في الهويات السياسية والابتعاد عن الغموض.

اذا طبقنا سالفة الذكر على تجربة العراق، فإن ما يحدث في العراق سمته التحول نحو الديموقراطية، لكنه لا يزال في طور ما يسميه «اودونيل وشميتر ووايت هيد» باللايقين من النجاح، فهل التحول الذي يمخض حاليا يمكن ان ينتهي الى نظام حر وديموقراطي؟ أم انه يدخل في دائرة اعادة انتاج السلطوية بشكل آخر؟

ان ابرز المحاذير في التجربة العراقية هو استمرارها في حالة من عدم الوضوح واللايقين، وعدم قدرة اللاعبين الاساسيين على تحديد ملامح عملية التغيير والاستبدال الديموقراطي، فمن الطبيعي ان الجميع متفقون على ضرورة وايجابية الخلاص من النظام السلطوي السابق، لكن الجدل لا يزال ساخنا حول مدى قدرة البديل على ان يشكل محورا جامعا للشعب العراقي باطيافه وتنوعاته الدينية والعرقية والمنطاقية. فما هي مآلات جهود التحول الديموقراطي في هذا البلد؟ لعل اكثر المتفائلين داخل العراق وخارجه يعتقدون ان الفترة الزمنية التي سوف سيتغرقها استقرار نظام ديموقراطي في بلدهم ليست قليلة، فيما لا يخفي اخرون تشاؤمهم من المستقبل القادم، وينفون اي علامات ايجابية لوضع افضل. وهذا اللايقين في المستقبل هو احد اهم اسباب استمرار النزيف العراقي، وضعف مناعته امام الهجمات التي يشنها اعداء مشروع التعايش السلمي من داخل العراق وخارجه، وهم اكثر من ان يحصوا بمقال.

يكمن السبب وراء حالة اللايقين في العراق الى الغموض الذي يلف الهويات السياسية في الساحة العراقية، اشير تحديدا الي هوية الجماعات الاسلامية التي ترفع شعار المقاومة، بينما تتورط يوميا في تفخيخ المراقد المقدسة ودور العبادة، وقتل الابرياء من فقراء الشعب العراقي، واختطاف المهنيين والفنيين ثم الدخول في صفقات ابتزاز لمن يدفع اكثر؟ ومن المؤكد ان مسرحية الخطف والقتل والتفجير، لا تنسجم مع الفكر الاسلامي وقيمه العليا، فما هي هوية هذه الجماعات وعن اي اسلام يتحدثون؟

وحسب اعتقاد مراقبين للساحة العراقية فإن الجماعات الاسلامية متورطة حتى النخاع في دعم عمليات العنف والعنف الطائفي من جهة، فيما تدخل في تفاصيل العملية السلمية والتفاوض حول المكاسب السياسية من جهة اخرى، انها بكلمة اخرى خليط من جماعات اسلامية مسلحة واخرى سياسية، تدفع الاولى «باسم المقاومة» الدولة العراقية الى حافة الحرب الاهلية والاحتقان الداخلي، بينما تفاوض الاخرى باسم العمل السياسي لتحقيق مكاسب وانجازات على ارض الواقع للخروج بحصة اكبر من كعكعة الحرية، والمحصلة ميوعة هوية الجماعات الاسلامية في العراق، والتباس مواقفها ودوافعها.

من المؤكد ان الواقع السياسي في اي دولة لا يستقيم دون تحديد القواعد التي تحكم ممارسة السلطة، بما يحفظ حقوق ومصالح كل اطراف الساحة، ويساهم في رفع درجة اليقين بنتائج الاستبدال، وضمان وصول مساعي التغيير الى غاياتها السليمة والمتمثلة بالنظام الديموقراطي الثابت والقادر على المحافظة على قيم العمل المشترك رغم التحديات والظروف، والغموض يتناقض مع هذا المطب، بل هو داعي الى الشك في مآلات جهود التغيير، والشك نقيض الاستقرار ومحبط للمساعي والجهود الديموقراطية بتمامها.

ان العراق مثال، اما الصورة الكاملة فهي جميع بلدان المنطقة، وكلها تعيش حالة من اللايقين في نتائج الاستبدال، خذ على سبيل المثال الجدل حول شعبية الحكومة في الكويت، وتحفظ بعض القوى من نتائج هذه الاطروحة خوفا من البديل الذي لا يتوقعون ان يكون افضل حالا من الحكومة السيادية، ويحسم هذا الشك رضا المواطنين وانتصارهم لمشروع التغيير، وهو الحل الذي يقتضي انجازه ان تبني قوي التغيير مؤسساتها على قاعدة صلبة من القبول بالاحتكام الى القوانين والتعود على التداول السلمي للإدارة، وحل الخلافات عن طريق التفاهم وبالحلول الديموقراطية، عندها تكون الديموقراطية مسألة روتينية في الحياة العربية، وينتفي الشك في البديل لأنه محسوم على المستوى الوطني.

alshehab4@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية-الاثنين 24/نيسان/2006 -25/ربيع الاول/1427