إيران مـا بعـد التـخـصيـب

الدكتور فراس البغدادي

البعض يشكك في مدى جدية نجاح إيران في تخصيب اليورانيوم بحد ادنى مقبول في الظروف المختبرية اوبعبارة أدق يتعامل بحذر مع ما تمَّ إعلانه بالنظر الى جدوائيته وإمكانات إستمراريته رغم تسويق البعض للتخصيب كإنجاز كبير اوكتحد خطير بحسب المصالح والأهداف والحسابات الجديدة القديمة المتراكمة وعلى الصعيدين الداخلي والخارجي في إيران وخارجها.

لـماذا التشكيك في جدوائيـة التخصيب الذي أعلنته إيران مؤخرا ؟

يبالغ البعض مدعيا ان المعلومات المطلوبة للقيام بما تزعم ايران انها انجزته متوافرة الى حد كبيرفي المراجع والمصادر المتاحة ومنها الانترنت، ومع توافرالمال الكثير والإنفاق السخي، يمكن تخصيب اليورانيوم بنسب مختبرية بسيطة متواضعة. لكن في كل الأحوال يبقى الطريق بين الإنتاج المخبري المحدود المكلف لأغراض الطاقة السلمية والإنتاج الصناعي ذي الجدوائية لها طويلا  وربما يستغرق ما لايقل عن 10 أعوام في ظل جميع الظروف والدوافع والموانع الحالية والمستقبلية  المحتملة والتقنيات والتكنولوجيات المستخدمة في مشروع التخصيب.

وذلك يستغرق أكثر من ذلك بكثير إذا كانت إيران فعلا تعمل لتجنيد النجاح المحدود البسيط الذي أعلنته مؤخرا وسوقته كإنجاز وطني كبير لطموحات في التسلح النووي. وهذا ليس سرّاً او إكتشافاً فالكل يعرف ما أكد ه محللون نوويون غربيون من ان ايران  تفتقر الى المهارات والمواد والمعدات اللازمة لتحقيق طموحاتها النووية العاجلة.

وما يؤكد هذا الإحتمال يتمثل في الرد غير المباشر لبعض المسؤولين الإيرانيين على ما يصب في هذا الإتجاه الذي ينظر الى المشروع النووي الإيراني بقدر من الواقعية كقول نائب رئيس وكالة الطاقة الذرية الايرانية، محمد سعيدي، ان ايران ستسعى الى وضع 54 الف من أجهزة الطرد المركزي موضع التطبيق، وهو ما يشكل زيادة عالية من الـ 164 جهازا الذي قال الايرانيون الثلاثاء الماضي انهم كانوا قد استخدموه لتخصيب اليورانيوم على مستويات يمكن ان تشغل مفاعلاً نووياً.

لذلك وغيره مما تقدم نرى ان المحللين النوويين مازالوا يصفون المزاعم الإيرانية بأنها مبالغ فيها. ويضيفون انه لم يتغير شيء يتطلب تعديل التقديرات الراهنة الخاصة بالوقت الذي يمكن ان تكون فيه ايران قادرة على انتاج سلاح نووي، في حال كان هذا الهدف النهائي. وقدرت حكومة الولايات المتحدة ذلك بفترة تتراوح بين خمس الى عشر سنوات، بينما قال بعض المحللين ان هذا يمكن ان يتحقق في فترة لاحقة بحلول عام 2020.

وقال ديفيد أولبرايت، رئيس «معهد العلوم والأمن الدولي» في واشنطن، وهي مؤسسة خاصة تراقب البرنامج النووي الايراني «انهم يبالغون في ذلك». ووصف انتوني غوردسمان وخالد الروضان من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» المزاعم الايرانية بأنها « ليست أكثر من موقف سياسي أبله» يقصد منه الترويج للنزعة القومية الايرانية.

وقال الخبراء النوويون ان زعم ايران أول من امس بأنها يمكن ان تنتج 54 ألف جهاز طرد مركزي يذكر بأصداء ادعاءات قامت بها قبل سنوات. وأشاروا الى انه حتى في هذه الحالة فان ايران ما تزال تفتقر الى الأدوات والمواد اللازمة لصنع الأجهزة عالية التعقيد التي يمكن ان تحول اليورانيوم الى وقود غني بما فيه الكفاية لاستخدامه في مفاعلات نووية او قنابل ذرية.

ويواصل المحللون النووييون تحليل وجهة نظرهم بالقول:

لقد تطلب الأمر من طهران 21 سنة من التخطيط وسبع سنوات من التجارب المتقطعة، معظمها سرية، للوصول الى قدرتها الحالية لربط 164 من اجهزة الطرد المركزي بما يسميه الخبراء عملية تراكمية.

ويستدرك هؤلاء الخبراء قائلين:

ان على طهران الان ان لا تحقق نتائج راسخة على مدار الساعة خلال شهور وسنوات عدة فحسب، وانما ايضا بدرجات أعلى من الدقة والانتاج الواسع. ويبدو الأمر كما لو ان ايران، وقد أتقنت آلة موسيقية صعبة، تواجه تحدي انتاج الآلاف منها وتأسيس أوركسترا كبيرة جداً تعزف دائماً بتوافق وتناغم ( 1 ).

أيـن الحقيقة إذن ؟

ما لاشك فيه ان هناك تضخيم والمفارقة ان التضخيم يأتي من إيران ومن تسميهم وتصنفهم إيران نفسها في خانة الأعداء !!

ببساطة ودون تسطيح لأن إيران تبحث عن إنجاز وطني قومي كبير ومن العيار الثقيل لإشعار الرأي العام بنشوة الإنتصار الكبير الذي يبحث عنه المواطن منذ أمد طويل ولإسكات الثوريين الراديكاليين  تمهيدا  للدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة الأميريكية وهي تتسلح بورقة رابحة ومن موقع المنتصر متوقعة معالجة ملفات معقدة كثيرة ومعروفة.

ذلك مما يبعث إيران الى تضخيم إنجاز التخصيب الأخير وكما فعل صدام وحلفاءه بتسريباتهم المتوالية المضخمة عن المشاريع المتواضعة المحدودة فيما يرتبط بأسلحة الدمار الشامل لترهيب امريكا وغيرها وحتى قبل ساعات من إقتراب القوات الأميريكية من بغداد العاصمة!! مع ما بين عراق الأمس وإيران اليوم من فروقات لا ترتبط بالمقال.

لكن ليست إيران وحدها تضخم خبر التخصيب المحدود البسيط... لماذا ؟

لأن بعض المهولين يحلم بمهاجمة إيران لسبب اولأخر والبعض الأخر يهدف أن يحصد المزيد والكثير من التنازلات من إيران والبعض الأخر يعبد الطريق للإبتزاز الأكثر.

فحتى لو كانت خطوة التخصيب كبيرة وتناسينا جميع المعوقات امام الإنتاج الصناعي الواسع كيف ستعالج إيران ندرة  الأحتياط الإيراني لليوارنيوم وقيود توريده فالنائب السابق والخبير في الشؤون النووية، الدكتور احمد شيرزاد، استاذ الفيزياء، كتب مقالا كشف فيه ان مناجم اليورانيوم في ايران لا تحتوي على كمية كبيرة من اليورانيوم، وحتى لو نجحت إيران في تخصيب اليورانيوم، فإن احتياطيها في مناجم اليورانيوم لا يكفي لتأمين الوقود لمحطة بوشهر لأكثر من سبع سنوات، ما يعني ان علينا ان نبيع نفطنا وغازنا بأسعار منخفضة لكي نشتري اليورانيوم بأسعار باهظة، ونجعل انفسنا تحت رحمة دلالي السوق السوداء، اذ ان الدول الغربية لن تسمح لنا بأن نستورد اليورانيوم بشكل قانوني. وتساءل شيرزاد، لماذا لا نبني المفاعل الغازية الاكثر نفعا والأقل خطرا على البيئة؟ ( 2 )

طبعا لا أريد إستصغار خطوة التخصيب التي اعلنتها مؤخرا  إيران الكلام في الحجم الواقعي للخطوة والتهويل والتعظيم والتضخيم الذي رافقتها، كما لا أريد إنكار الخطر لمنْ يرى فيها خطرا  لكنه لا يشكل حتى لهؤلاء إلا خطرا  وعلى المدى البعيد لو تمكنت من الإفلات من العقوبات المشددة التي باتت قريبة الفرض على إيران.

وبناءا على ذلك فتوجيه ضربة عسكرية حاليا.. حاليا لإيران يبقى مستبعدا في ضوء المعلومات المتاحة والظروف الأقليمية والدولية القائمة فحجم خطوة التخصيب المتواضع الذي تعرفه وتقدره الأطراف المعنية اوالمحشورة فيها تسمح بالإقتصار على العقوبات المشددة و ربما الشاملة مع إستمرار المفاوضات المفتوحة الصعبة المعقدة الإستنزافية غير الشاملة بمد وجزر بين امريكا وايران لحرق تدريجي لأوراق إيران  ومنها خطوة التخصيب البسيطة الصغيرة.

وكل ذلك إذا لم تقدم إسرائيل بنفسها على المقامرة التي تبدو صعبة او غير مجدية او لم تفلح في دفع اميركا غير المتحمسة لهذا الإتجاه.

اتصور ان الإعلان عن التخصيب يمكن ان يتم تجييره لخروج يحفظ ماء الوجه من الأزمة النووية كي تكف إيران من التفكير في اللجوء الى تصدير الأزمات وتتفرغ لبناء إيران وتعويض الفرص الضائعة للبناء والإنجاز والتقدم والإصلاح وهو الإنجاز الكبير الذي ينتظره الإيرانيون منذ أمد طويل وبفارغ الصبر. فذلك لوحده يمكن أن يتوج بالبقاء.

سيتغير وجه إيران بعد خطوة التخصيب هذه رغم تواضعها والوجه الجديد يعتمد على حكمة اصحاب القرار في إيران والفرصة التي ستتيحها الأطراف الأخرى المعنية اوالمحشورة مع كل هذا الإقرار المضخم لخطوة التخصيب الإيرانية التي تسابق هاشمي رفسنجاني مع أحمدي نجاد في الإعلان عنها  لعوامل ربما منها لدفع المشروع النووي بواسطة رفسنجاني في إتجاه الخروج المشرف فعليا. فهلْ يسمح بذلك المرشد المقرب لأحمدي نجاد أية الله مصباح اليزدي الذي بات البعض يردد أسمه كمنافس اوخليفة للمرشد السيد علي خامنئي.

.......................

( 1- 2 ): الشرق الأوسط اللندنية – 14-4-2006 

*معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات – واشنطن

www.siironline.org

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء  18/نيسان/2006 -19/ربيع الاول/1427