كانت كلماتي تتلعثم متعثرة على مطالع اللسان المتأهب استعدادا لبوْح
الاكداس المتراكمة من الكلمات والتعبيرات الحزينة الخالية من الامل،
والَّلاهثة بعيدا عن الاحباط، واليائسة من صحراء السراب المتعجلة دوما
في التراكيب التعقيدية لسطوة الفكر، بعد ان احالت الرمضاء الى واحات
خيالية امام قلمي الذي يهزأ من صاحبه في عديد المرات التي يحاول بها
استجماع شجاعته في كل موضوع جديد، وهو محق طبعا، فليس هناك ما يشفي
غليل الاقلام العطشى من ماء مفقود، ودم مهدور، وافراح عشاق توجسوا خيفة
على ضياع معشوقتهم، الا من ذاكرتهم التي تختزن بدلا من الذاكرة عشرا،
وبدلا من مناديل المعشوقة الحمراء والسوداء والبيضاء والخضراء عشرات
وعشرات، مستعينة على الفَقْدِ بتهذيب الايمان الراسخ والمزروع والمولود
في الذات المتخالجة مع قلبها الحزين، عزاؤها خفقان القلب، وان عاثت
السنون فسادا في حقول الايام ومزارع المشيب الابيض.
هكذا تبدأ الحكاية معي دوما، مشهد متكرر لكرامة فلسطينية مجروحة، او
يتسع جرحها لتملأ مساحات الارض، المقدس منها والمسحوق تحت اقدام الرجس
والطغيان والنكران، او امام كلمات نازفة من شجرة فلسطينية اقتلعتها
انياب الحديد، او امام رمز شامخ اطاحت به كوابيس عرجاء، في ادمغة اكثر
عرجا. حاولت مرات كثيرة ان انام قبل ان اكتب، وقلما كنت افلح في ذلك،
بل وقلما تعافَتْ اوردتي الحسية من ذنب سرعان ما يعاود الضخ في مسامات
جسدي، هذه المرة كان الاسرى يتدفقون في كل المسامات، وبكل المقاسات،
على الرغم من انهم الضيف العقلي الدائم والقلبي الاكثر دواما، في كل
اوراقي ودفاتري وتخيلاتي، وانسجتي من خيوط الحرير وشرانقها النامية على
اهات الاجساد التي تلوكها جرذان الظلم والعتمة والخيمة الاسيرة، وهو
ذات الشيء في سطوري وارصدتي الابداعية، محاولا ان اكرسها لبعض من سنين
امضيتها في محيط ضيق مما يعيشون، اتراجع بسرعة البرق عن هواجسي، وابتعد
عن المقارنة الخاسرة حتما، امام ذنب قد ارتكبه في لحظة عفوية، فأقايض
بها معاناتي القديمة المتلاشية، بتلك المعاناة الباقية والماثلة مع كل
الكلمات ومع كل الانغام، وهي ليست انغام الموسيقى، بل هي كل حركة
تستعذب النغم على هذه الارض، من النغمات الزغاريدية الطائرة عند لقاء
الام بعصفورها السجين في أول لقاء، وتلك السيمفونية المعذبة التي تقطر
دمعا لام تواقة لحسونها المغرد في القفص، وتلك الالحان الصادحة مع بكاء
محروق لطفل حرَّموا عليه نظرة مارقة بابيه او امه ولو من بعيد.
اعاود الكرَّة مرة تلو مرة، واحبو كطفل صغير حول بساتين الكلمات،
عسى ان تخضوضر في حدائقي بضع من جمل اعرفها، ومرتبكة في مراحل الخروج
الاخير، جمل مكونة من كلمات الظلم والسيطرة والقهر والالغاء والوحشية
والسطوة المنفلتة من رحم القشعريرة الغموسة بغثيان التعبيرات، اكتبها
ليساعدني احدكم على جمعها في جمل كثيرة وكبيرة، مجتمعة او منفردة، ليس
بها من الرقة الا ما يحيرني من قصور ذاتي يعدم وسيلة الصياغة برغم وضوح
الجريمة وسطوع صورة المجرم، لانها جريمة اكثر حرارة من العيش في قعر
بركان دائم التفجر والثوران، ومجرم محتل تخلف بدرجات كثيرة عن قيم
الانسان الاول الذي أخاله الان يربأ بنفسه عن الجرائم الاسرائيلية التي
تحولت الى مستنقع تستنسخ فيه الامراض الهادمة للانسانية منذ فجر
التاريخ.
ان ما أقرأه من تفاصيل يومية وما أسمعه من اخبار قمعية بحق الاسرى
الفلسطينيين (مناضلين ومناضلات)، يجبرني على التراقص مع اقلامي وكلماتي
( ولكن على نهج العصافير الراقصة من شدة الالم )، ويجبرني ايضا على لعن
البشرية الصاغرة امام الفتاوي العقيمة لامراء الحروب وملوك القهر
وأقران الوحشية وصانعيها. لهذا، وعلى الرغم من شعوري الكامن في كل
كلمة، ذلك الشعور الذي يحاول الوثوب عبثا الى فضاء العبارات واقنية
العبرات المتقصفة كأعمار الاسرى، والمبحوحة كَسِنِيِّهِمْ المنزوعة من
تقاليد ازمانهم المهدورة في اللاشيء، وعلى اللاشيء، وبلا شيء، الا من
احتلال يلعن الاحلام البريئة في حياة اسير يحلم بهدوء داخل قفصه، ويحلم
بسكينة مخدوشة في احشاء ذلك القفص، سجان يجثو على اطراف الروح الاسيرة،
فلا هو مطلقها، ولا جاعل للعيش في قفصها اي سبيل، صحيح انني اعيش لحظات
مسترسلة في الابتهال والدعاء الى ان يفك الله اسرى المأسورين، ويطلق
سراح المسجونين، الا انني اموت ما بين دعاء ودعاء الف مرة، او الفين
وربما ثلاثة، ذلك انني اعرف ان سيف السجان مسلط على رقبة السجين صباح
مساء، في احصاءات الصباح واحصاءات الظهيرة، ومثلها في المساءات
المزاجية التي قد تمتد الى اطراف الفجر، حرصا على ان يشهد الاسرى
الفلسطينيون تنفس الصبح ( والصبح اذا تنفس )، وما علم السجانون انهم
خنقوا انفاس الصبح الاسيرة المجلودة بصعوبة التنفس والتي قد تموت في اي
لحظة. سؤالي الان، الا زال البعض يظنون ( ان بعض الظن اثم )، ان امتياز
ابي غريب هو امتياز امريكي ومحكور على العراق وحده؟ ام ان الامريكيين
قد صمموا نسخة غوانتانمو في الخليج الكوبي ولا شيء مثله؟
جوابي الان، جواب الاسرى الفلسطينيين واهليهم وشعبهم، ان
الاسرائيليين قد صنعوا في فلسطين عشرات من النماذج الابي غريبية،
ومثلها من النسخ الغوانتنامية، فما على الناس الا ان تعرف ان الاسرى
الفلسطينيين، المعذبون في الارض ( عنوان كتاب للطبيب الفرنسي فرانس
فانون )، يعيشون في المعتقلات الاسرائيلية، فهم في النقب المقموع قبل
ايام عدة، وهم في مجدو المزروع في الاشواك، وهم في نفحة المخفي تحت
رمال الصحراء، وفي عسقلان المطوي في سجلات النسيان، وفي هداريم، وبئر
السبع، والرملة، وعوفر، وحوارة، وعصيون، وقدوميم، وسالم، والجلمة، وفي
بيتح تكفا ( ببوابة الامل )، وهي بوابة الشيطان المتواطيء مع الشر
اينما كان، والمسكوبية، والتلموند الذي تعذب فيه المعتقلات، وصغار
المعتقلين، وريمونيم، واسماء كثيرة سموها هم واباؤهم، سرية وعلنية
اجتهدت في تذكر البعض منها، مما عشت فيه ومما سمعت عنه طوال اماد من
الايام القاحلة الا من العذاب المتراكم على جثة الزمن الفلسطيني، لست
انا من يحق لي ان اقول شيئا عن المعذبين خلف هذه الاسوار، لان صرخاتهم
تملأ الارض، حتى وان لم يعلنوا عن ذلك، ولست انا من ادون صناعة الماساة
التي يعيشونها في محارق البشرية البطيئة، فروائح جلودهم المسلوقة
والمكوية بنيران الظلم ولهيب القهر هي من تحدثنا عنهم، هي من تنوب عن
كلماتهم المكبوتة في كل صرخة، والمدفونة في كل جسد، والمتعبة من كثرة
ترديد الشكوى. شكواهم التي لا تسمع،ذلك أن منهم اعادها وكررها عبر
ثلاثين عاما، عبر كل المحطات التي ابرق فيها الامل ثم خبا، فلا الاطفال
عادت في نظرهم اطفالا، ولا الحياة باتت في افكارهم حياة، انهم الجسد
المجبول مع الرطوبة والعفونة، والظلمة والعتمة، لا فرق بين يوم طويل او
يوم مختزل فقير وقصير، ولا جدال بان اليوم الاعتقالي يختلف عن كل
الايام، يختلف عن ايام السلاطين، وعن ايام الملوك والامراء، ويختلف
طبعا عن ايام المحتلين، هؤلاء الذين اختزنوا ادران السنين والعقود
والقرون وافرغوها في اوقات فلسطينية، عتَّقوها بطريقة اشبه ما تكون
بمومياءات الاقدمين، وحكموا على من يعيشها بالموت الابدي، ولا باس ان
كان على مراحل، المهم ان يكون في قبر لا تدخله الشمس، ولا يسمع فيه
الهمس، حتى يتحول الانسان الفلسطيني فيه الى شبه انسان قد يكتشف من هذا
او ذاك، سواء بقصد الدرس، او بصدفة قادها الفضول، ولكن بعد اذ اختفى من
الانسان الا شكله وبعضا من بواقي اسنانه وبواقي فوائده التعليمية.
وحتى لا اهرب الى فلسفة الزمان والمكان، فانني ساقصد الدرب
الى حيث العبرة، وحتى لا ينسب الفضل الى غير اهله، والى من اعتقدوا
زورا وبهتانا بان ابو غريب وغوانتنامو هما صناعة امريكية، او انجلو
امريكية، فانني اذكر ( للتذكير فقط ) انهما تجربة مستنسخة عن الافكار
الاسرائيلية في هذا المضمار، فلكم ان تتخيلوا ابو غريب في كل معتقل
يحتجز به الفلسطينيون، بمحاكمة صورية او بلا محاكمة، حيث لا داعي في
كثير من المرات الى الدلائل، لِتَوَحُّدِ الخصم والحكم في ذات الروح
وفي ذات الجسد، وان لم يعجب البعض ابو غريب فعليه بالبحث اكثر ليجد ان
غوانتنامو هو ايضا تقليد اسرائيلي اعتقد بان الامريكيين ابدعوا في نقله
الى حواضنهم، دون ان يطوروا فيه شيئا، سوى انهم كتبوا عليه ( made in
America)، الا انني اتفق مع من يقول بانهم الوحيدون الذين يحتكرون هذه
الصناعة خارج اسرائيل، لعهد غليظ بين الطرفين، يساوي بينهم في احتكار
كل وسيلة تعذب بها شعوب الارض بطريقة تبادلية تتيح لهم الاستفادة من
اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، والتي تضمن انتقال السلع وتبادلها
دون اية عوائق، وللحقيقة فان سلعة التعذيب وحرمان الشعوب من كرامتها،
ووضعها في منزلة لا يقبل بها الحيوان هذه الايام هي من اكثر السلع
تبادلية بين الدولتين، ليس لشيء طبعا، وانما تطبيقا للاتفاقية المذكورة
اعلاه.
ملاحظة هامة : تستطيع اي دولة تمتهن كرامة الانسان، وتدوس قيمه تحت
جنازير الدبابات، وتهدر حقه في العيش الكريم، وتعمل على توسيع سجونها
والتشجيع على اقامة وانشاء المعتقلات الجديدة، وابداع الاساليب الحديثة
في التعذيب النفسي والجسدي الانضمام الى الاتفاقية المذكورة انفا،
شريطة احتفاظ اسرائيل وامريكا بالعضوية الدائمة، وحق الرئاسة التبادلية
او التعاقبية بينهما.
nakhanfar@yahoo.com |