بداية : احب أن اسجّل أسمى آيات شكري و امتناني للاخوة الذين اتصلوا
بي مستفسرين عن حالتي الصحيّة و الذين يدعون لي بالشفاء , هؤلاء الذين
أدين لهم بعد الله بالبقاء على قيد الحياة رغم صعوبة مرضي واشتداد
حالته , معاهداً إياهم أن أكون دائماً و أبدا و حتى الرمق الأخير
مدافعاً عن قضية شعبي الجريح , هذا الشعب الذي افتقر من بعد غنى ,
وجاع و هو يجلس على بحيرة عائمة من الذهب الأسود الذي يتمتع بثروته هذه
كل ضباع الأرض و وحوشها المفترسة في حال هو ( الشعب العراقي المظلوم )
يحصد الجوع و التشرد و المرض و الإرهاب و الحرمان من ابسط مقومات
الحياة البشرية , متقرباً بهؤلاء المظلومين إلى الله تعالى راجياً أن
يشفع لي بحق مظلوميتهم يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون .
البغداديّة :
يحكى انه كان بإحدى القرى الكردية في شمال عراقنا الحبيب مسجداً
يؤمّه الناس بكثرة , وذلك بفضل امام جماعته , اذ كان شيخاً جليلاً
عالماً حكيماً, عطوفاً على الناس, فاعتاد الناس على مشورته و مساعدته
في كل صغيرة و كبيرة .
و بمرور الأيام وجد شيخنا الجليل أن المصلّين خلفه بدءوا يقلّون
شيئاً فشيئا , إلى أن وصلت الحالة إلى أن يلتفت ورائه في آخر الأيام
ليجد انهم لا يتجاوزون الثلاثة أشخاص فقط .
فسألهم عمّا جرى لأخوتهم الباقين, فصارحوه : إن الشيخ ( فلان ) امام
المسجد الجديد و الذي قدم حديثاً إلى القرية قد استقطب الناس من حوله ,
فهو يتسامح معهم في الحقوق الشرعية ويختصر لهم الكثير من العبادات و
الواجبات المفروضة, ونتيجة لحذاقته و لباقته جعل الناس البسطاء الطيبين
يلتفّون حوله و يتركوا الشيخ الجليل الذي طالما خدمهم و ضحى براحته
لأجلهم.
هنا حزّ في نفس الشيخ الجليل و ارتأى أن يخرج أحد الشيخين من القرية
من أجل أن لا يتفرّق الناس , فدعى إلى مناظرة بينه و بين الشيخ الجديد
.
وبالفعل حدد يوم معين من أجل المناظرة و المباراة بالعلوم الدينية
فيما بين الشيخين و كانت الآلية المتبعة أن تكتب الأسئلة على ورقة و
تقدّم إمام الجميع ليجيب عليها الطرف الممتحن , ومن يسقط منهم في ثلاثة
أجوبة يتوجّب عليه الخروج من القرية و تركها للشيخ الفائز.
و قاد دهاء الشيخ المحتال ( الشيخ الجديد الوافد إلى القرية ) و
مكره بأن يشترط على ألاّ يكون الجواب بالنفي كلمة ( الله اعلم ) فامّا
أن يقول الممتحن في جوابه بما يعلمه , أو يقول لا اعلم .
و حينما حانت ساعة الامتحان تملّص الشيخ المحتال من أن يكون الأول
بحجّة أن الشيخ الجليل هو الأكبر في السن إضافة إلى أقدميته في القرية
و إن من الأدب يتوجب عليه أن يقدّمه على نفسه بالامتحان .
وابتدأ الامتحان , فأخذ المحتال يسأل الشيخ القديم سؤاله الأول على
ورقة كتب عليها ( متى ستموت ؟ ) و كان السؤال موجّهاً باللغة العربية
التي لا يتقنها سكان القرية , فلم يستطع الشيخ الجليل إلا أن يقول
مجيباً بالكردية ( نيزانم ) أي بمعنى : لا ادري! و ذلك لان من شرط
المباراة أن لا يقول ( الله اعلم ) , بل يقول : لا ادري أو يقول ادري و
يجيب .
أما السؤال الثاني فكان مفاده : ( ماذا ستلد زوجتك , أغلاماً أم
بنتاً ؟ ) فكان من الطبيعي أن يجيبه بكلمة ( نيزانم ) أي لا ادري !
أمّا السؤال الثالث فكان : ( أين هو أبوك المتوفّى , أفي الجنّة أم
في النار ؟ ) و كان الجواب كذلك ( نيزانم ) !
و حينذاك ضجّ الناس بالتكبير و التهليل إعجابا و إكبارا بالشيخ
المحتال !
و كان لزاماً على شيخنا الجليل أن يترك القرية حسب الاتفاق المبرم .
و لكن قبل تركه لقريته التي ولد و ترعرع فيها و سبق أن عقد له
اللواء لزعامتها و ادارتها وخدمة اهلها وامامة مصليها لعقود من السنوات
, عزم صاحبنا الشيخ الجليل على الاّ يغادر قريته قبل ان يثأر لنفسه و
لاهل قريته من الحيف الذي اصابه من المحتال الجديد و يلقّنه درساً قبل
أن يرحل فقال للشيخ المحتال إمام جميع المؤمنين :
أنا اعترف بعلميتك و رجاحة عقلك التي تغلبت بها علي , ونحن عندنا
عادة أن نتبرّك بهكذا عالم جليل مثلك بأن نأخذ شعرة من شعرات لحيته
نتبرّك بشمها و تقبيلها بعد كل صلاة !
ولمّا كان طلب الشيخ الجليل من الشيخ المحتال بسيطاً , لبّاه له في
الحال , بل أعطاه عدّة شعرات بدل الشعرة الواحدة , أخذها الشيخ الجليل
ليضعها بين طيات منديله و يخرج مودعاً قريته على كره منه ! ... و لكن ؟
و هذه الـ ( لكن ) فتحت عليه باباً لبقية الناس , فأتى كل واحد منهم
طالباً شعرة من شعرات لحية الشيخ المحتال إلى أن أتوا على جميع لحيته
فاصبح املطاً.
و ألان عزيزي القارئ الكريم :
يبدوا أنّ بعض المغرّر بهم استجابوا من حيث يشعرون , أو من حيث لا
يشعرون لفتن ودسائس البعثيين و التكفيريين إضافة لضعاف النفوس من الفئة
النفعية البراغماتية الذين همهم ما يعتلفونه من أقوات و يمتصونه من
دماء المستضعفين .
يبدوا انهم استجابوا لضغوط البعثيين و التكفيريين المسدّدين بدعم
أسيادهم الانكلو أمريكان لتنحية من اختاره الشعب العراقي عبر انتخابات
شرعية شارك فيها اكثر من أحد عشر مليون عراقي خرج لأدائها بدمه متحدياً
فيها مفخخات الإرهاب .
نعم خرج شعبنا الجبار رغم علمه بمخاطر و وعورة الطريق بكل نسائه و
رجاله شباباً وشيوخا مصوتين لمرشحهم المطلوب بديمقراطية شفافة اتفق
عليها الجميع بما فيهم الذين رفضوها بعد أن تبينت لهم خسارتهم لها فيما
بعد .
أنا شخصيّاً لا أعير أهميّة لأيتام حزب البعث العفن أو لمرتزقتهم
الإرهابيين أو لأسيادهم الانكلو أمريكان و مبعوثيهم سواء كانت السيدة (
القندرة رولز رايز , أو الجايف سترو , أو الزمال خليل زاد ) .
و كذلك لست قلقاً على الأحد عشر مليون ناخب من شعبنا العراقي الصابر
المجاهد و عن مصير جهودهم التي بذلوها رغم الأخطار التي كانت محدقة
بخروجهم للتصويت , لأنهم أدوا تكليفهم الشرعي و واجبهم الوطني أولا , و
لأنهم يعرفون سلفاً أن طريق الحق محفوف بالوعورة و المطبّات و بناء
الوطن يحتاج منهم اكثر من هذه التضحيات و قد تعودوا منذ آماد بعيدة على
التغلّب على الصعاب و الصبر في الملّمات.
ولكن كلّ قلقي ينصب على مصير دنيئي النفوس البراغماتيّين الذين سال
لعابهم لّلعبة القذرة التي يلعبها البعثيون و التكفيريون المدعومين
بخطط خبيثة و طبخات معلبة من أسيادهم الانكلو امريكان.
هذه اللعبة التي ضنّوا انهم ( البراغماتيون ) سيكون لهم نصيب من
كعكتها , بينما هي ستطيح بهم لاحقاً ناتفةً لحاهم واحداً بعد آخر كما
هو حال صاحب قصّتنا البغداديّة أعلاه .
و عندها سيتحقّق المثل العربي المأثور الذي يقول :
من حفر بئراً لأخيه وقع فيه .
بغدادية عاجلة :
بعد القاء تحية الصباح و نحن نلتقي صدفة في الطريق العام صباح هذا
اليوم بادرني السيد (سحس ) بالمثل العراقي قائلاً :
( يا حاج انّ صاحبنا زرب بالجدر و حرم العيال ).
و ( سحس ) حسين المصري هذا كنت قد تعرفت عليه في العراق قبل اكثر من
عشرين عاماً اذ كان يزور اصدقاءه من المصريين الذين كانوا يشتغلون في
معملي بالعراق .
مكث سحس اكثر من عشرة اعوام في العراق ليغادر بعدها الى العمل في
جنوب لبنان احد اهم معاقل حزب الله .
ثم التقيته قبل عامين في امستردام اذ قدم للعمل في هولنده , لكنه لا
يزال يحلم ان تتحسن الاوضاع في العراق ليرجع اليها لقناعة لديه و لدى
الكثير من العمال المصريين الذين جالوا كل بلاد الدنيا و خاصة الدول
الخليجية العربية منها فلم يهنئوا بعيش و لم تطب لهم اقامة شريفة بعيداً
عن الذل و الاهانة الاّ في العراق.
و المثل : زرب بالجدر او حرم العيال تقال بمعنى انه تغوّط في قدر (
طنجرة ) الطهو وحرم عائلته من استعماله .
وكان سحس يقصد بها ان الرئيس المصري حسني مبارك حينما صرّح لقناة
العربية الفضائية بأنّ الشيعة ولائهم ليس لدولهم , حرمت هذه التصريحات
العمال المصريين من العودة للعمل في العراق مستقبلاً بعد ان تهدأ
الاوضاع انشاء الله حيث سيشهد البلد حركة اعمار و بناء عملاقة تتسابق
عليها كل شركات العالم و تستقطب عمال من شتى بقاع الارض و العامل
المصري اولى من غيره لانه سبق و ان عمل في العراق , وقد فاق عدد العمال
المصريين منتصف الثمانينات في العراق و تجاوز عددهم الخمسة ملايين عامل.
فطمأنت الاخ حسين المصري ( سحس ) بانها لا تزر وازرة وزر اخرى , فما
ذنب العمال المصريين ان يؤخذوا بجريرة رئيسهم .
و حتى رئيسهم قد يكون قد استقى معلومات خاطئة مررتها له جهات تقصد
الاساءة الى الشعب العراقي,
فلكل جواد كبوة , وآمل منه ان يتدارك الامر و يصحح معلوماته.
مع كل تحيتي و محبتي لاخوتي المصريين الثمانية و العشرين عامل الذين
كانوا يعملون معي في معملي في العراق .
انتهى.
و دمتم لأخيكم : بهلول الكظماوي .
أمستردام في 10 – 4- 2006
e-mail:bhlool2@hotmail.com |