العملية السياسية في العراق، تشكيل أم بناء دولة؟

أ. د. متعب مناف

إن التحول من الاحتكام إلى العنف في التعامل السياسي إلى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، يمثل خطوة نوعية وفاعلة في تغير جانب مهم من الثقافة السياسية، لأنه انتقال من الرصاص (Bullets) إلى صناديق الاقتراع (Ballots). وهي خطوة لابد من أن تؤثر على مجمل العملية السياسية في العراق قد تتعدى في تأثيرها السنوات الأربع الحاسمة القادمة. ولكن ما هي الآليات العاملة في المجال السياسي في العراق وتلك التي تعتمدها الثقافة السياسية السائدة والتي ينعكس تأثيرها على سلوك الشخصية العراقية مما يبرز حضورها في الساحة السياسية.

إن العراق منذ تصنيعه بؤرة الزلزال السياسي الذي تمثل بقيام أول دولة/ السلطة/ حكومة في العراق إنما عمد إلى تشكيل حكومة (Forming Government) وليس بناء أمة أو تكوين دولة (Building Nation or State) والفرق كبير بين أن تشكل حكومة/ سلطة وبين أن تبنى أمة وتكّون دولة. إذ أن تشكيل الحكومة/ السلطة ليس أكثر من تجميع عناصر لمكونات/ كيانات قد تكون متباعدة- إن لم تكن متقاطعة- تنظم لبعضها بفعل حبها في ممارسة السلطة/ القوة وما توفره من رفاه مادي وجاه اجتماعي (Prestige) في بلد يعتمد على الأنساب والمكانات العشائرية التي تعتمد على اللحُمة والقوة والغنيمة.

أما بناء الأمة وتكوين الدولة فإنه يعتمد على نوع من التعاقد يُحكْمُ بقواعد دستورية قانونية مع بناء مستوى من المؤسسية في العمل والتعامل وقدر من الفصل بين السلطات وتأمين جانب من (الديمقراطية) تكون فيه الدولة/ الحكومة مسؤولة أمام الشعب الممثل ببرلمانه. وفوق كل ذلك، فإن بناء الأمة وتكوين الدولة وفي العراق الذي يتميز بأصوله الحضارية والدينية التي انعكست بشكل مرجعيات تحكم سلوكه بما فيه السياسي، لابد له كخطوة فاعله أولى أن يكون هناك سِلْم اجتماعي تؤشر من خلاله مشتركات يمكن أن يتفق حولها كل مكونات وكيانات الشعب/ المجتمع في العراق.

مثل هذا السلم الاجتماعي والذي يؤمن الحضور والفاعلية لكل تراكيب وأطياف المجتمع الاثنية والدينية والمذاهبية وما في مجتمع المدينة من تراتبية طبقية وجسم متعلم/ مثقف وتشكيلات للتكنوقراط والطلاب والموظفين أو ما يسمى بالانتلجنسيا مع تأمين فاعل وعادل للممارسات الإدارية (مركزية ولا مركزية) وتوزيع للموارد وضمان حصول الفرد على حصته من المال العام لكل يكون مؤثراً في الحفاظ على هذا المال مما قد يخلص المجتمع من الفساد الذي يمثل أحد أكثر القنوات العاملة على تكريس التخلف والعنف والإرهاب.

لذا فإن الوصول إلى السلم/ السلام الاجتماعي (Pax Social) هو اللازمة الأساس التي توفق بين مشتركات الشعب والتي يمكن أن تبنى عليها الأمة وينهض بها تكوين الدولة، التي يراد لها أن تُعّمر وأن يدخل هذا التعمير في بناء المؤسسات التي تحفظ للدولة استمرارها عندما يتعرض العراق إلى الهزات السياسية التي تتابعت عليه منذ عشرينيات القرن الماضي والتي بدأت بالاحتلال تلاه انتداب برزت بعد ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي سلسلة من الانقلابات تحولت إلى عسكرة خانقة عصف بها الاحتلال راهناً.

هذا هو الدرس السياسي في العراق همه تشكيل سلطة وليس بناء أمة وتكوين دولة دون أن يعي أن تكوين الدولة هو أبقى من تشكيل سلطة، إلا أنه يمارس الأسهل لأنه لا يريد أن تكون القاعدة التي تنطلق منها تكوين الدولة متفاهمة (اجتماعياً) وأن مكونات المجتمع العراقي لها أوزان نوعية قبل أن يكون لها ثقل كمي مما يبعد عنها الإزاحة أو التهميش.

لقد كان هم المشكلين للدولة أن الزمن كفيل بتطويرها وإنضاج مؤسساتها واعتبر أن مجرد استمرارها مع ضعف أدائها وقلة فاعليتها إنما يشفع لها بالبقاء ويحول دون انهيارها. ولكن هذا التصور إنما كان قاصراً فالعراق من البلدان/ المجتمعات المحورية في شرقنا وبغداد كانت حاضرة أمة وليست عاصمة دولة كما كانت بابل قبلها ثم أن الكوفة والبصرة هما العراقان وأن الموصل هي حصين الوصول إلى المتوسط لذا فإن العراق إنما يتميز بعبقرية مكانه ووفره موارده وفي المقدمة منها الماء والنفط والطاقة البشرية. ومثل هذه الميزات للمكان والموارد والإنسان جعلت من العراق محركاً للأطماع أي أن المشكلات الداخلية ذات الخصوصية في المجتمع العراقي يمكن أن تدفع بالدول الإقليمية بل والدولية القوية منها والمعظمة (Hyper Powers) إلى التدخل وفرض حلولها المتمثلة بأطماع اجنداتها.

وبفعل هذه التعددية الديموغرافية (السكانية) في الداخل وانفتاح مشكلات الداخل لحلول اجندات الأطماع الإقليمية والعالمية، فإن الآليات التي رسخت في السلوك السياسي العراقي تنازعها نمطان، الأول: هو أن يكون العراقي (سياسياً) مع أو ضد وبذلك يتكون حسب هذه الآلية محوران محور (مع) ومحور (ضد). وخطورة مثل هذه الآلية التي تجمع بين (مع وضد) هي أن كل من هو ليس معك فهو ضدك وبذلك يبدأ الفرز والاختزال والتهميش والاستعلاء مما يكرس ثقافة العداء والاستعداء ويحول دون الوصول إلى السلام الاجتماعي مما يبقي الدولة مشكّلة في حدود السلطة ويحول دون القبول بالآخر والآخر المختلف بالذات.

أمّا نمط الآلية الثاني: الذي دأب الفرد العراقي التعامل به سياسياً هو المداهنة والتسليم، فهو يدخل في تعامل مع الآخر والآخر القوي في هذه الحال دون أن يرقى مثل هذا التعامل إلى اتفاق أو وفاق إذ تبقى المداهنة هي الحاكمة للتعامل.

يترتب على مثل هذه المداهنة تسليم بتسلط الآخر وذلك تعظيماً للتعامل وبما يحققه مثل هذا التسليم للفرد من منافع مادية أو اعتبارية.

ومن يقرأ أحداث المسيرة السياسية في العراق ومنذ عشرينيات القرن الماضي يستنتج أن الحكومة/ السلطة في العراق إنما تبنت الآلية الأولى في تعاملها مع المجتمع العراقي حيث قسمت السكان إلى من هم معها ومن هم ضدها وهي الآلية التي بلغت أوج الممارسة والتعسف في الفترة التي عسكر فيها المجتمع.

مثل هذا التبني ومن الحكومة/ السلطة في العراق في فترة العسكرة إنما دفع بأفراد المجتمع إلى التمسك بالآلية الثانية التي اعتمدت المداهنة والتسليم وذلك كرد فعل نفسي/ اجتماعي على آلية الحكومة/ السلطة القائمة على محوري الـ مع والضد، كوسيلة للتخفيف من عسف العسكرة التي طالت كل جوانب المجتمع ودخلت أدق تفصيلات حياته اليومية. هذه الآليات التي تعرضت إلى العديد من الانكسارات وبالأخص في فترة العسكرة إنما قضت على كل إحساس بالولاء إلى أي شكل من أشكال الثقة بالسلطة وبأي من التشكيلات السياسية مما ارجع العملية السياسية في العراق ألي مرحلة الانتماءات وبالأخص العشائرية والمذهبية والاثنية والمناطقية لذا فقد كان التوجه نحو صناديق الاقتراع كبيراً إذ أن التصويت وفي أشكاله الثلاثة الانتخابات الأولى والاستفتاء على الدستور وانتخابات 15 كانون الأول 2005 وذلك لكي تتعرف المكونات السكانية والكيانات السياسية على وزنها الفعلي وبالتالي تقدير مدى فاعليتها السياسية مما أوصل نسبة المقترعين في الانتخابات الأخيرة حوالي 70% من عدد السكان المؤهلين للتصويت أي ما يقارب الأحد عشر مليوناً من مجموع خمسة عشر مليوناً. وهو عدد ضخم بكل المقاييس إذ قارناه بالمشتركين في آخر انتخابات في مصر والتي وصلت بالكاد إلى 40%. والسؤال المحوري ونحن نناقش سلوك العراق السياسي في ضوء انتخابات 15 كانون الأول 2005 هو: هل يمكن أن نرسم لنا خارطة سياسية جديدة بالانتفاع بما أفرزته الانتخابات الأخيرة فنتوصل إلى السلام الاجتماعي الذي يمكن أن نبني عليه أمة/ دولة دون أن نشكل حكومة سلطة أو نستمر في التشكيك والتشكيك المقابل وذلك لابقاء دائرة العنف والموت وبذلك نكون كلنا خاسرين؟.

مركز المستقبل للدراسات والبحوث

www.mcsr.net

شبكة النبأ المعلوماتية-الاربعاء  5/نيسان/2006 -6/ربيع الاول/1427