العراق... ونعمة الحرية

منتصر العوادي*

إن من نعم الله على عباده التي لا تعد ولا تحصى هي نعمة الإرادة في الاختيار المتناسبة ومستوى تفكير الإنسان وتوجهاته الثقافية والمعرفية وما يرتبط بها من تأثيرات نفسية وبيئية وغيرها، تجاه معظم الأشياء المادية والمعنوية التي نواجهها في حياتنا اليومية أو التي نعيشها بدءا بأتفه الأشياء وانتهاء بأعظمها وهو الدين الحنيف مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه الكريم ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...) وفي آية أخرى ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي...). فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ترك للإنسان حرية الاختيار في قبول الدين الحنيف أو رفضه ـ بوصف الدين أسمى واخطر شيء يواجهه الإنسان في حياته من حيث الآثار المترتبة عليه ـ فانه من باب أولى أن تكون بقية الأشياء أهون حالا منه، فيما إذا اخترناها أو رفضناها، وهذه هي القاعدة العامة التي شرعها الله تبارك وتعالى لنا منذ بدء الخليقة والى قيام يوم الساعة.

أقول كلامي هذا ونحن نعيش اليوم تجربة أو( نعمة) نجهل مصاديقها وتطبيقاتها رغم أنها ليست جديدة ولا مخترعة ولا طارئة على واقعنا الحالي؛ بل هي موجودة بين أيدينا وفي متناول صغيرنا و كبيرنا، واعني بها تجربة ( نعمة ) الحرية.

والسبب في جهلنا لمصاديق وتطبيقات هذه التجربة ـ كما هو معروف لديكم ـ هو طول فترة سباتنا في ذلك الزمن الماضي المظلم، والضغوط التي مورست علينا ولا سيما على من يحملون جذوة هذه التجربة في صدورهم حتى قتل من قتل منهم وهرب بنفسه من هرب واستسلم الباقون لمأساة الأمر الواقع، لكن عيونهم ظلت شابحة لبصيص نور أمل قد يظهر في نهاية ذلك النفق المعتم أو اشراقة أمل من بين غيوم اليأس المطبق ! وفجأة حدث ما لم يكن متوقعا وانقلب السحر على الساحر، ثم ظهر المنقذ الأسطوري ( بات مان ) في صورة ( علي بابا ) وهو يتربع على صرح فرعون الشاهق مرتديا بزة عسكرية مرقطة بعشرات النجوم البنية حاملا بيده اليمنى صاروخ التحرير( كروز) وبيده اليسرى ملعقة ساغبة البطن كحية ( كلكامش ) الأسطورية، والى جانبه قفص ذهبي كبير محبوس بداخله مجموعة كلاب وخنازير سائبة وهي تطوف لاهثة تتبرك حول كبير الأصنام ( هبل ) الذي كان في يوم ما يطعمها من فضلات لحوم الهدي ودمائها المنذورة إليه يوميا.

اخذ ( بات مان ) يترنح منتشيا لهذا المنظر البهي وقد طاب له أن يلقي خطابا قوميا تاريخيا موجها لجميع شعوب العالم الأول والثاني والثالث بهذه المناسبة الخالدة( مناسبة التحرير) في الوقت الذي اشرأبت فيه عيون الأرامل والقاصرين والسذج من أبناء هذا البلد اليتيم وهي تتطلع مذهولة إلى صورة المنقذ وخطابه الذي ألقاه بطريقة فنية وأداء مسرحي منقطع النظير استعرض من خلاله بالمدح والثناء جمال الهدايا الغربية التي جلبها معه من بلاد ما وراء الشمس والموضوعة بكيس( بابا نويل) لكل الفقراء والمحرومين المضطهدين من أبناء هذا البلد الجريح، وأهمها هديتا( الحرية والديمقراطية) إضافة إلى هدايا أخرى قال انه سيجلبها إليهم في القريب العاجل بطائرات( الشينوك) حالما يستتب الأمن والنظام وترجع المياه إلى مجاريها الطبيعية، ثم تكلم بكلمات لم يفهمها الشعب كثيرا إلا انه اطمأن لشخص المنقذ ووعوده الموثوقة عن شجرة الخلد التي قاسمهم بإيفائها لهم،  عندها صفق الصغار والكبار نساء ورجالا بحرارة لهذا الخطاب الرنان المؤثر باستثناء شيخ واحد كان كبير المضطهدين بينهم راح يبكي بحرقة قلب وغزارة دمع فاجأت الناس وأذهلتهم فهرعوا إليه يتساءلون: علام تبكي يا شيخ وغرابيب الشر قد انزاحت عنا ؟ فقال الشيخ في حزن: إن هذا لكبيرهم الذي علمهم الشر وهو الآن يعدكم ويمنيكم لكي تتبعوه من دوني وما يعدكم إلا غرورا !!. فقالوا له: نراك قد خرفت وشاخ عمرك، ألا ترى الهدايا التي جلبها لنا على ظهره حتى كادت تفقره ؟ قال: يا قومي إنها بضاعة مزجاة لو كنتم تعلمون ؟ فلما أصروا اعتزلهم وما يدعون من دون الله ومضت السنون يأكل بعضها بعضا ولم يأت المنقذ بما وعد حتى هداياه التي وزعها عليهم ظهر أنها مجرد أغلفة براقة لمحتوى فارغ ! حينها استفاق الناس مذهولين لهول الصدمة وعرفوا وقتها سر بكاء الشيخ فعادوا نادمين إليه ولسان حالهم يقول الآن حصحص الحق فهل إلى خروج من سبيل !!.

* أكاديمي في جامعة بابل / كلية التربية الأساسية/ قسم اللغة العربية

شبكة النبأ المعلوماتية-الثلاثاء 21/اذار/2006 -20/صفر/1427