ممكن ان تكون حمى الموت الفظيعة الحالية المنتشرة في المجتمع العراقي،
هي انطلاقة كبيرة وإيذان خطر بانتشارها لبقاعٍ اخرى من الارض.
اليوم في العراق توجد صورةٍ لا يمكن وصفها بدقةٍ، فالموت بصورته
الخفية يطارد كل انسانٍ فيه، بل يتصارع معه بقوةٍ لخطفه وانهاء حياته
ومجتمعه.
حقيقةً لم يعرف المجتمع العراقي موجة عارمة من الموت اوسع من التي
يتعرض لها الآن، آلاف البشر يقتلون بلحظاتٍ ولامورٍ غير ذات اهمية،
فمطحنة الموت تعمل بلا هوادةٍ محيلة هذا البلد الى بقايا نظم ومؤسسات
لا نعرف متى تنهض.
فما الذي ارتكبه هذا المجتمع لتصبح حياته مفقودة في كل حال من
الأحوال ؟
لقد تأزم الوضع العراقي في الفترة الاخيرة الى الحد الذي باتت
حياة الفرد فيه لا يعار لها شيئاً او اهمية تذكر، أي لا يعار اهمية
لكيانٍ ممكن ان يفقده المجتمع والذي يعتمد عليه البناء الاجتماعي كثيراً،
فرقي المجتمعات بتنمية افرادها، فما هو حال المجتمعات التي يُقوض
ويُقتل افرادها ؟
لقد تعود الشارع العراقي بل ويتوقع كل يوم ان تذهب منه ضحايا في
اقل تقدير بين الـ (50- 30) شخص من الابرياء وكحصيلةٍ محسومة، وربما
نحن غافلون عن معنى ذلك في بناء الحياة، حتى اننا بدأنا عندما نسمع بأن
حصيلة الموتى قد تتراوح بين (5 – 10) اشخاص نقول اليوم افضل من البارحة،
ولا نعلم ان ذهاب انسان واحد على الاقل بهذه الطريقة المفجعة هي كارثة
مجتمعية للشخص نفسه من حيث تدمير حياته واسرته ومركزه ككيان يتولى
رعاية ابناء او اخوة ومساهم في اعمار المجتمع وتقدمه، وخسارة للمجتمع
نفسه لانه يعول على افراده في بناء اركانه، وعليه فالخسارة كبيرة
وعلينا ان لا ندعي بأننا نحيا في مجتمعٍ، فالامر خلافٍ لذلك.
ان الحياة الانسانية في العراق لم تعد تهم احد في الداخل او
الخارج، فحتى الحيوان في كثير من بلدان العالم يحظى برعايةٍ واهتمام
وربما حتى جمعيات للرفق به وحماية حقوقه، على العكس في المجتمع العراقي
الذي بات يريد فقط ان يتركه سيل الموت الجارف في حاله، ولا يريد على
الاقل جمعيات للحماية وما الى ذلك، وانما مجرد العيش لا اكثر ولا اقل
في الوقت الحالي.
لقد سمعنا من اجدادنا القدامى وكما يتم تناقله من جيلٍ الى جيل
روايات كثيرة، منها ان الناس قبل عقودٍ طويلة مضت كانت عندما تسمع بموت
شخصٍ معين لسبب ما، تظل مصابة بدهشةٍ كبيرة لموته، ولا يعني ذلك انهم
لا يؤمنوا بالموت، وانما لقلة وندرة حالات الموت والتي قد تأتي بين
فترة واخرى في حياتهم، اما اليوم فقد تطبعنا حقيقة على سماع حالات
الموت الكثيرة، واصبحنا لا نعير لها اهمية، بل حتى اننا ننتظر دورنا في
تعداد الموت العارم هذا ولا نعلم متى يحين بعد دقيقة او ساعة اويوم،
فالاعمار بيد خالقها.
قد يقول البعض ان حياة الانسان رهن خالقها، نعم ونحن لا نختلف في
ذلك، وقد نموت الآن بدون سبب او بسبب او بعد حين، وقد لا يتوقف الامر
على الفوضى الحاصلة الآن في العراق، ولكن هناك اسباب قد تكون موضوعية
لموت الانسان، فالشخص الذي يتوفاه (الله) تعالى بسببٍ اعتيادي، يختلف
عن الشخص الذي يموت لسببٍ تافه وليس له ذنب فيه.
اننا لا نخشى طعم الموت فهو واحد بقدر ما نخشى على مجتمعٍ لو قدر
ان يبقى هكذا لتلاشت ملامحه الى الابد.
من المفروض على محترفي الكلام عن حقوق الانسان ان يبحثوا لهم عن
قضية اخرى يكسبوا رزقهم من وراؤها، فالحق الانساني منتهك في كل مكان
ولا يجوز لهم الكلام عنه، فان تكلموا سيدينون انفسهم.
نحن على يقين ان بقاؤنا في هذه الدائرة الملتهبة ينذر بمستقبلٍ
مشئوم قد يحرق كل شيء ويزيد من سرعة النار في الهشيم، وربما وباء الموت
هذا يعم الكل من الاطراف ولا يمكن حينها ضبط زمام الامور نهائياً ان
فلتت. |