كربلاء .. جغرافيا الروح .. تداعيات الذات

حميد مهدي النجار

هناك إشكالية ترد دائما عندما نتناول موضوعة كربلاء, فأنت مرة تتحدث عن كربلاء ولكنك تقصد الحسين ع، وأخرى عندما تتناول الحسين كرمز يلوح في ثنايا الكلام أنك تعني   كربلاء بمعناها الأشمل .

 هذه الإشكالية قد لا تجدها في مكان آخر, فأنت لا تعني بالضرورة المعز لدين الله الفاطمي أو أبا جعفر المنصور عندما تتحدث عن القاهرة أو بغداد, فللقاهرة وبغداد تاريخ  طويل  يتشعب في مسارب ألحضارة من أدب وفكر وعمارة,  ولكن في الحديث عن الجانب ألاخر من العملة, يكون ذلك منطقيا, فأن ذكرا لمعز أو المنصور يجرنا بالضرورة لذكر مدينتين كان لهما الفضل في تأسيسهما .

إن هذا التداخل بين المدينة ورمزها حالة استثنائية تستمد مصداقيتها من الدين في جانبه الفقهي( حيث أهمية زيارة الحسين، وإتمام الصلاة بالنسبة للمسافر تحت قبته  والتربة الحسينية وقدسيتها واتخاذها موضعا للسجود, ماء الفرات وتداعيات دوره في واقعة ألطف) وثانيا مما تركه الحسين ع في العقلية الإسلامية، إن على مستواها الشعبي أو على مستوى النخبة من مفكريها وشعرائها وأحرارها وإسقاطات تلك الحالة التي تماهت في الوجدان الملتهب بحب استحال أسطورة  لها طقوسها ومواسمها, وما عليك إلا أن تتصفح التاريخ لتقع على ديناميكية الحسين بن على كقضية تتفاعل مع كل عصر وفي مجتمعات متباينة تمتد من مصر حيث القاهرة قلب مصر وحي الحسين الذي هو بمثابة قلب القاهرة وحتى التبت في أقصى الدنيا مرورا بالكثير من المجتمعات الإسلامية التي ترى في الحسين ينبوعا ثرا يستسقى منه في جدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

 في العلاقة بين المدينة ونهرها الفرات يتجلى نمط آخر  من التو اشج الميتافيزيقي والجغرافي فالفرات الذي يختط بجسده الفارع ثلاث دول ويمر بعشرات المدن والقرى تتجلى تاريخينيته في هذه المدينة فيأخذ بمجرد مروره فيها قدسية خاصة, فكأن الأرض التي باركها دم الشهادة أعطت بركتها له حيث تداعيات العطش الذي أضفى على هذه الواقعة تلك المسحة الأليمة كعلاقة متلازمة, وأنت إذ تستذكر أدبيات هذه الواقعة  فستجد محورية هذا ألجانب وهو بالنتيجة يؤكد ما أشرنا إليه من توا شج العلاقة بين الفرات, والمدينة, والواقعة والتي تصل ذروتها في موقف العباس بن علي في ذلك اليوم حيث موضوعة القربة والمشرعة وقبلها موضوعة الطفل الرضيع وما يمثله من جرح نازف انتهكت به براءة الحياة بسهم أختزل كل قيم الشر, ورجوعا إلى موقف الحسين ع من سرية الحر بن يزيد ألرياحي قبل الواقعة عندما استولى على الماء وسمح لها بالسقا. هناك نمط آخر من العلاقة ظهر بعد واقعة ألطف مباشرة ابتدأ بثورة التوابين ولم ينته حتى يومنا هذا وهي من أسس لما يسمى بالظاهرة أو القضية الحسينية, تلك العلاقة الممهورة بالدم بين الحسين ومحبيه أوقل مريديه بل شيعته على وجه التحديد كمصطلح أخذ بعده التاريخي والفكري ومن خلالها ظهرت الهاشميات , وهي قصائد في رثاء الحسين وأهل بيته, تطورت بتتابع الزمن إلى ما عرف بالمنبر الحسيني ومن ثم ليعطى بعدا مؤسساتيا لهذه العلاقة تمثل بال(الحسينيات) وآخر اجتماعيا وهو مابات يعرف بالشعائر الحسينية وهنا تجدرالاشارة إلى إن البنية الحكائية لواقعة ألطف تجسدت في تطور لاحق إلى ما يمكن أن نسميه ب(المسرح الجماهيري) حيث جرى تمثيل الواقعة وذلك بتجاوز نوعي لظاهرتي( الروضه خون) أي الحكواتي فكانت ألجماهير تتكدس في الشوارع وعلى امتداد الطريق الذي يجري فيه تمثيل ألواقعه في تفاعل عفوي وتحدث الصدمة عندما يترآى لبسطاء الناس, سيما إن المؤثرات من خيول وملابس براقة ورايات ونيران وسيوف ورماح مشرعة توقعن المشهد, بمالايدع مجالا للشك إن ما يجري هو الحقيقة في نمط من العلاقة الصميمية فيروح بعضهم يرمي الممثلين بما تصل إليه أيديهم فيما البكاء والعويل يحيلك إلى مشهد دراماتيكي لا ينسى. كل ذلك يجري على ساحة هذه المدينة فكأن التاريخ يطرق على أبوابها ليجسد فيها سطوته وعنفوانه كل عام فيما يعود الزائرون إلى مدنهم وقراهم لينقلوا تلك الوقائع العجائبية إلى ذويهم لترتسم في أعماقهم ملامح يؤطرها السحر فينفلت زمام الخيال لينسج للواقعة وللمدينة عوالم من الهيبة والإجلال يمتد جزء منها ليطال ساكنيها الذين ترسم لهم الذاكرة الجمعية ملامح التقوى والصدق والأمانة والفقاهة وهذه العلائق لا تنحصر في نطاقها المحلي بل تتعداه, فهناك في الامتداد ألإسلامي ماهو أشد وأعمق غورا في التعامل مع ما يمت الى كربلاء من صلة ليصل بها المدى الى ماهو أبعد كثيرا من حدودها, ولعل بعد المسافة أحد أسبابها. 

إن هذا الامتداد الروحي لهذه المدينة هو الذي ادخلها  في قلب الصراع بين الدولتين العثمانية والفارسية في بعض مراحل الصراع بينهما وهو من جر إليها ويلات الحملات التي جردتها تركيا العثمانية لتركيع المدينة, وفي ذات الإطار كان هجوم الوهابيين عليها فيما عرف ب( غدير دم ) حيث انتهكت حرمتها وديست مقدساتها ومن قبل حين حار الماء في زمن المتوكل حول القبر المقدس ومن بعد في انتفاضة آذار عام1991 مرورا بالكثير من الأحداث التي أسست بالإضافة لأسباب وعلائق  أخرى أسطورة مدينة تتنازعا شهقة الماء ووحشة الصحراء فيما عبير الشهادة يضمخ, منائرها ,وقبابها ,وأضرحتها, بينما  افقها المطوق بالخضرة  يحكي جدلية الموت والحياة .

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين  6 /اذار/2006 -5 /صفر/1427