في زمن سقطت فيه جل القيم الإنسانية، أصبحت سهرات التلفزيون الجزائري
محط أهل المجون والسفور و الابتذال الإعلامية المتميزة في جغرافية
الإعلام العربي. و نالت حصة "الصراحة الفاضحة" بين البرامج الثقافية
القسط الوفير من الشهرة و العربدة ، هذه الحصة المليئة بالفيروسات
الثقافية القاتلة و بالتحديد أنفلونزا التغريب و الإستحمار ...
من الطبيعي أن الجزائر تعيش أزمة ثقافية ، يمكننا أن نجد مشخصاتها
واضحة في أزمة العقل والوعي و المسؤولية لدى طاقم الحصة ، أخص بالذكر
المنشط ، الشاب "الطيب" بسذاجته ، والفتاة "ليديا" بنت القبائل التي
عقها والديها، هما نموذجين للواقع الشبابي الجزائري العام الذي سلبته
أروقة السوفيتال و الشيراتون و سان جورج و ملاهي وهران و عنابة،
مروءته و أثقلت كاهله بفنون العربدة و الفسق و الفجور،حيث اختلت موازين
شخصياته في نوادي العشق و الموسيقى في رحاب الجامعات و الثانويات و
الفنادق ذات الخمس نجوم ...
لقد تصادمت المسؤولية و الثقافة و الأخلاق عندنا و دخلت صراعا استشهدت
فيه الأخلاق بدلا أن تتكامل هذه العناصر فيما بينها.هذه جدلية إعلامية
لها حضور كثيف و مميز عند المسؤولين على حقل الفكر و الثقافة و الإعلام
و التراث بالجزائر، لكن للأسف هذه الجدلية ميتة من جهة و قاتلة من أخرى
، لم تتشكل في قبالها منظومة فكرية سياسية تهتم بصياغة إجابة على هذه
الإشكالية مما جعل الإعلام في الجزائر لا أصالة و لا معاصرة بل همجية
إعلامية يستفيد منها القاسطون و المارقون في هذا الإجتماع الجزائري
العليل.
لاشك أن الإعلام يجمع في مضامينه العلوم الاجتماعية لأن فلسفة الإعلام
ترتبط بفلسفته للإنسان و الحضارة و الحياة وفق المكون الثقافي الجدلي
...و هذا الطرح له قراءتين الأولى منهجية و الأخرى موضوعية ...
المنهجية: أن الإعلام يرتبط بالوسائل و العلوم الاجتماعية ترتبط
بالموضوع.
أما الموضوعية : أن الإعلام و إن استوحى من العلوم الاجتماعية خطوطه
العريضة ، إلا أنه لابد من الاجتهاد في بلورة و صياغة و تأصيل المادة
الإعلامية لإثراء الإجتماع الصالح لا الطالح بالعلوم الاجتماعية كمدار
للثقافة و الخصوصية الديموقراطية ...
و العلوم الاجتماعية التي أقصدها في سياق ما أوردته في مستهل هذا
المقال ، هي الثقافة الجزائرية الأصيلة التي تمثل الهوية الفلسفية و
الحضارية للعلوم الاجتماعية التي نتطلع لالتماسها في نتاج الإعلام
الجزائري...
و نواة هذا كله ، لا انغلاق مطلق و لا إنفتاح مطلق بل أمر بين الأمرين
، لان الانغلاق نتيجته التخلف و الرجعية و الجمود، أما الانفتاح المطلق
فالخبال و الضمور و القسوة و الفوضى و الوهن في النهاية ...
إن مشكلة إعلامنا عموما، و حصة (الصراحة الفضيحة) أنها تلعب اللعبة
القذرة في المتغير السياسي الحاصل في العالم العربي و الإسلامي ككل، و
أول المستحمرين في هذا كله هو الطاقم البليد الذي باع إنسانيته مقابل
ليالي حمراء و سفريات شقراء و حسابات مليئة بأوزار الاجيال الصاعدة
يوم تسود وجوه و تبيض وجوه ، إن هذه الحصة و أخواتها من الرذالة
الإعلامية كل أسبوع تعمق البلادة في شبابنا و تفقدهم توازنهم و تقتل
فيهم ضوابط ثوابتهم ، و المسؤولية الأولى هنا تقع على عاتق الوالد
الجزائري النبيه، لأن يتصدى لهذا التحدي السافر للمستقبل الواجب
لأبنائه ، من خلال وضع حد لهذا الإعلام السيء و القاتل الذي يذاع
باسمنا ، و رجاءا لا تقولوا غيروا القناة أو أطفئوا التلفاز ، لأن هذا
منطق المستكبرين عندما يحاولون إدارة دفة الحق لصالحهم .
المسؤولية الثانية ، تقع على النخبة الإسلامية من التائبين و
الائتلافيين الذين يرتادون الوزارات و المجالس النيابية، لأن السكوت
علامة الرضا، و الساكت عن الحق شيطان أخرس...
و المسؤول الثالت، هو المجتمع المدني الأصيل لا الهجين المصطنع في حقل
الإليزي(هناك صحراء إليزي أيضا) و صنوانه الإعلام الشبه حر من صحافة
مكتوبة و مسموعة ...و مرئية فضائية مرتقبة عند ما نرسل قمرنا الصناعي
الى فضاء الجمعة المغلوب على أمره.
إنه حديث الساعة ، أبها الجزائري المقهور ، أيها المثقف النبيه ، أيها
الإمام الفقيه، أيها الإعلامي المؤمن المسؤول ، أيها السياسي الراشد ،
أيها الحكيم الحالم ، انتشلوا إعلامكم من مستنقع التغريب و إلا سوف
يحرق مستقبل الجزائر بنار السفاهة و العربدة و الإستحمار الإعلامي.
و يكون شعار هذا على وزن وثيقة الحرية "ليس باسم الجزائر" تنشرون ثقافة
الإستحمار و ترتبون العقول و النفوس لاستقبال الديموقراطية الزائفة
القادمة من الشمال و تكرسون العلمانية الغاشمة بحجة بلادة و فشل
التجربة الإسلاموية، لأن الجزائر عنوان نباهة و نبل و شرف و تراث
إسلامي عريق، تصدت لتغريب فرنسا ذات يوم و اليوم يقصدها تغريب متعدد
الألوان و الأهداف يحركه أناس يقولون أنهم جزائريون لكنهم بغوا على شعب
الجزائر المسلم...
لكن القضية في هذه المسؤولية تقع بشكل أساسي و عميق و بعيد المدى على
عاتق (المثقف-الفقيه) الإسلامي الحر النبيه و الأصيل أيضا، الذي يلزمه
من جهةٍ أن يحرك الهوية الإسلامية ، بعيدا عن منابر الإسلاموية
المتاجرة بالمبادئ في منعرج سياسي، وعليه –المثقف و الفقيه ترشيد شعبه
وبالأخص الشريحة الكبيرة "الشباب"- وتجنيبه السقوط في المخاطر المخالفة
للإسلام والفطرة من جهةٍ أخرى، وهو ما تختلف طريقة التعاطي فيه بين
ثقافاتنا المجهرية ولا يمكن إعطاء قانون عام وشامل فيما يخصّ ذلك سوى
العمل المشترك بين النخب المثقفة بكل أطيافها في هذا المجال.
كما أن واحدةً من مظالم مجتمعنا الجزائري هو الإفراط في التعاطي السلبي
مع ظاهرة الحراك الثقافي، و هذا المأزق مصدره الإعلام بالدرجة الأولى
الذي يوجه كل قواه لإجتثات عنوان النباهة الفكرية والعملية من الحراك
الاجتماعي، لأنها خطر على الهيكلية السياسية و الاقتصادية و ناهيك
الاتفاقيات الإستراتيجية بمنطقة المغرب العربي.
ونحن وإن لم يكن مصبّ حديثنا هنا هو هذا الموضوع إلا أن الترويج للفكر
الحر والثقافة الإسلامية السمحة و النقد البناء و الحوار بالتي هي احسن
يمكنه أن يقضي على الاضطرابات الثقافية و الاجتماعية و السياسية التي
يمرّ بها الشباب الجزائريً، ونشر فن النقد و أدبياته أمرٌ يبدو مقدوراً
في مجتمعاتنا العلمية بشكلٍ أكبر منه في داخل الاجتماع العام، خصوصاً
وأن المرحلة السابقة لمجتمعنا بخصوص الحراك الديني الإسلامي أرشدتنا
للفارق الكبير ما بين العقل و الهوى، وهو فارقٌ تعمّق عقب أوضاع
سوسيو-ثقافية يعرفها الجميع، وهو ما يعني أن إعادة إنتاج منظومة
ثقافية جزائرية حرة تعتمد على الحوار العلمي و التعايش الثقافي السليم
تأخذ بعين الاعتبار حل مشكلات الإعلام اليوم يمكنها أن تساعد على حلّ
الكثير من المشكلات الحضارية في الواقع الجزائري.
(*) كاتب و باحث إسلامي في علم
اجتماع الإسلام
برلين -ألمانيا |