الرسوم المسيئة للرسول (ص) و مؤشرات الوعي

محمود الموسوي*

 (كل إناء بالذي فيه ينضح) ، مثل يعبّر عن إنتاجات الوعي لدى الإنسان ، ولا شك أن الإناء الذي يحتوي على الخمر لن يسكب لنا لبناً ، و لا الذي يحتوي على اللبن سيسكب لنا خمراً .. فالثقافة كذلك تنتج للخارج ما يحويه الوعي في الداخل ، وبناء على هذا التنظير لابد أن نتساءل من أين جاءت الإساءة لنبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) برسم كاريكاتوري في صحيفة دانماركية ، والإجابة واضحة تماماً ، إنها من إفرازات الوعي المسكون في عقول وأدمغة هؤلاء الناس ، ولكن هل السؤال الأهم هو : من هو المسؤول عن هذه الرسومات السخيفة ؟ أم من هو المسؤول عن هذه الإساءة الفضّة؟

كثير منّا تحدّث وأسهب في حديثه عن الرسوم وما عبّرت عنه من استخفاف واستهزاء بأعظم رجل في العالم وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، و حمّلنا المسئولية فيها على الرّسامين ثم على الصحيفة الناشرة ، ثم على الحكومة التي تؤويهم ، وطالبناهم بالإعتذار الصريح طريقاً لمعالجة المشكلة والسكوت عن ما مضى والعفو عن ما سلف والله يحب المحسنين .. وهذا الموقف لاشك أنه صحيح ولابد أن يعرف كل أولئك الذين جرت الإساءة على صحفهم الصفراء أن ما اقترفوه سبّب لنا نحن المسلمون والمؤمنون بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) غضباً وانزعاجاً كبيراً ، إلى درجة النفور منهم ومن تصرفاتهم غير الإنسانية تجاه الثقافات الأخرى .. ولكن!

هذه الـ (لكن) هي موضع الأهمية التي ينبغي أن نعالجها أيضاً لكي تكون معالجتنا جذرية  وذات أثر أعمق ، فنسأل السؤال الأهم ، وهو ، من هو المسؤول عن الإساءة ؟ والفرق بين الإساءة وبين الرسوم في موضع السؤال ، هو أن كلمة الإساءة تشير إلى مفردة تدخل في تشكيل الوعي لما تتصف به من التعميم لأي نوع من الإساءة ، ولأنها تعبّر عن سلوك معتمد على وعي داخلي مسكون في ثقافة الكثير من الغربيين ، فهذه الرسوم كشفت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ، بأن صورتنا في الغرب ما زالت تشكو من عدم الوضوح ، بل التشويه ، فالتصوّر المشاع لديهم عبّرت عنه مجموعة رسومات كاريكاتورية ، أفرغت التصور الذهني إلى تصور كتبي واضح للعيان.

عندما سمعت لأول مرة بخبر الرسوم المسيئة ، كان ذلك في أكتوبر 2005م ، وكانت قد نشرت في سبتمر من العام نفسه في صحيفة (جيلاندر بوستن) الدانماركية ، لجأت سريعاً للإطلاع على حقيقة ذلك من المجلة الأصل ، وكان دافعي هو قراءة العقلية الدانماركية وتصوراتها عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والتي تعبّر بالضرورة عن تصور للدين الإسلامي بشكل عام من خلال تلك الصور ، ولا شك أن الفن بالريشة ، وخصوصاً الرسم الكاريكاتوري يعبّر بوضوح كبير عن الفكرة المرادة بإعتباره يلجأ إلى المبالغة في موضع الحاجة من الرسم ، أي أن الرسالة المطلوب توصيلها تكون جلية جدّاً ، وتفوق في كثير من الأحيان المقال المكتوب أو الخطاب الملفوظ ، لأن المكتوب والملفوظ غالباً ما يوأوّل ويلف عليه أو يدار ..

ما توصلت إليه في حينها من خلال نظرة تحليلية للرسوم المسيئة ، هو أن هنالك من ساهم في هذا الخطأ من داخل المجتمع الإسلامي نفسه ، وهي نتيجة لما تقوم به الجماعات الإرهابية والعنفية في مواجهة الآخر ، التي تقوم بقطع الرؤوس وتفجير الأبرياء حتى من المسلمين في الطرقات والأسواق والبيوت وحتى دور العبادة ، وكل ذلك بمرءى من العالم ومسمع ، ألا يعدّ هذا أن هؤلاء قد ساهموا في تشكيل وعي الإساءة وهم يتحملون جزءاً منها بلا أدنى ريب ؟ ، وقد كتبت كثيراً حول ذلك ، وكان أبرزها مقال تحت عنوان (الإساءة إلى الإسلام المهمة المنجزة في أحداث العراق) والذي نشر في شهر سبتمر من العام 2004م في صحيفة الميثاق (البحرينية)، أي قبل عام من الإساءة ، و قد عبّرت الرسوم عن صحة استنتاجنا في ذلك الحين ، كما حمّلت حينها وسائل الإعلام العربية التي كانت تساهم في نشر تلك الصورة المشوّهة للدين عبر الفضاء للمشاهدين في كل العالم.

ولم تكن تكن الإساءة نتيجة ذلك فحسب ، بل هي نتيجة مساهمة لما يقوم به الإعلام الغربي من تشويه لصورة الإسلام في عقول المجتمع الغربي أيضاً ، فمن خلال الرسوم تتضح صورة ذهنية مسكونة فيهم عن الإسلام ، كالتخلّف والرجعية  و انتهاك حقوق المرأة وما شابه ذلك ، مما  يبشّر به من خلال حركة الإعلام الغربية في السينما ، والتلفزيون وكثير من الأعمال الثقافية ، فتلك الصورة التي يراد رسمها في عقليات المجتمع الغربي هي نزعة معادية للدين الإسلامي من الصهاينة و مثيري ثقافة الصدام بين الحضارات والثقافات ، أي أن جزءاً آخر من أسباب تشكيل ثقافة الإساءة هو من الغرب نفسه.

هذا الواقع يفرض علينا أن نفكّر في أسلوب ناجح للتعامل مع هذه المشكلة ، وذلك عبر تحويل المشكلة إلى سلّم للنجاح ، وكما قال تعالى : (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)[البقرة : 216]  وكما يقال (ربّ ضارة نافعة) ، فنحن بحاجة للتواصل مع الآخر وتبليغ الدين من أجل هداية كل الناس لهذا الدين العظيم ، ومن أجل التعارف بين الشعوب وبيان الصورة الناصعة للإسلام ولنبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، و رغم الجهود المبذولة ، إلا أنها لا تفي بالغرض ولا ترقى لحجم المتطلبات في هذا العصر ، فهذه المشكلة لم تهزّ العالم الإسلامي فحسب ، بل هزّت العالم بأجمعه ، فالمسيرات تجوب الكثير من الدول ، والمقاطعة أصبحت أكثر سعة ، مما يعني أن أي فعل نقوم به فهو مرصود وبيّن ، لذا فنحن بحاجة إلى مبادرات سلمية تغتنم الفرصة لإيصال رسالة للمجتمات الغربية تعبّر عن روح الدين الإسلامي ونقائه ، وعن رحمة الرسول الإعظم (صلى الله عليه وآله) وحبه للبشرية و للخير بمختلف أصنافه.

فهنالك الكثير من الأثر الإيجابي الذي حصل في هذه المشكلة رغم ما شابتها من تصرفات متسرعة من البعض ، فقد رأينا أن وزيراً إيطالياً يستقيل نتيجة ضغط  رئيس الوزراء بسبب تحديه لمشاعر المسلمين بلبسه قميص عليه الرسوم المسئية ، دبلماسيين غربيين دانماركيين وغيرهم يجوبون بلاد الإسلام لتبليغ الأسف والإعتذار ، وقد عبّر أحد الدبلماسيين الدانماركيين السابقين بأننا نشعر بالحرج لكوننا من الدانمارك ، بل وقد قام الكثير من الشباب الدانماركي بتبليغ أسفه ورفضه لهذا النوع من التعبير عن الرأي على مواقع الإنترنت التي خصّصت لذلك ، وحتى الصحيفة التي بدأت الإساءة على صفحاتها ،  قد أبدلت صيغة اعتذارها الذي كان مموّهاً ومتذرعاً بحجة اختبار حرية الرأي ، وكان موجّهاً للسعوديين فقط لما حصل من خسائر نتيجة المقاطعة ، أبدلته بصيغة أخرى نشرتها في صحيفتها ، ووجّهت فيه الإعتذار للمسلمين كافة وتخلّت عن صيغتها التمويهية.

نحن أمام مشهد يمكن أن نستفيد منه لصالح الإسلام ، وهو أن نقوم بإيصال رسالة واضحة معبّرة عن حقيقة ديننا الحنيف ، وخطاب يرفض التطرّف وقطع الروؤس ،  وأن نؤسس لإحترام أبدي للديانات عبر المطالبة بتقنين هذا الأمر ، وخلق جو عام بأننا لا يمكن أن نرضى بإهانة رسولنا الأكرم.

أمّا المقاطعة للبضائع الدانماركية ، فهي جزء من الشعور العام نتيجة السخط والأذى النفسي الذي سببته هذه الإساءة ، فيمكن أن نسميه بالإمتناع والعزوف عن شراء تلك البضائع ، وهذه نتيجة طبيعية يمكن أن تزول عندما يشعر المسلمون بأنه قد ردّ إليهم اعتبارهم ، فكما لا ينبغي أن تصل إلى قرار دائم بالمقاطعة ، فكذلك فلا يمكن أن نعيب هذا الإمتناع المبّرر ، فمن الطبيعي أن يفضّل المشتري محلاً على آخر نتيجة سوء خلق صاحب المحل ، و كما قال المثل الصيني القديم : (إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم ، لا ينبغي أن يفتح متجراً).

*البحرين

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد  5 /اذار/2006 -4 /صفر/1427